الشيء الوحيد الذي لم يقو على اختياره

سمير عطا الله

TT

كتبت كثيراً عن ياسر عرفات في العقود الثلاثة الماضية، ولم يخطر لي مرة انني قد اكتب عن غيابه. فقد كان يبدو للجميع انه مصنوع من صلصال شديد المقاومة، خُلِط بالكثير من الزئبق. وقد سقط رفاقه المؤسسون بالرصاص الاسرائيلي، او الرصاص العربي، الاشد غدراً، وسقط بعضهم بالمرض، واستسلم البعض الآخر لاحكام العمر، وظل هو من طائرة الى طائرة، ومن بلد الى بلد، ثم من غزة الى رام الله، ومن رام الله الى غزة، واخيراً من غرفة الى غرفة. او الى قليل من الشمس على باب «المقاطعة».

سمَّوه «الختيار» وهو بعد في عز شبابه. وعندما بدأ شعره بالتساقط راح رفاقه ومحبوه يدللونه باسم «الختيار». وطابت له الكنية واحبها، كما احب كنيته الاولى، ياسر، من قبل. كان فتى يستسهل القيام بأي عمل ولا يجد صعوبة في شيء، فسماه الاهل والاقارب «ياسر». وبعدها كان لا بدَّ لياسر ان يصبح «ابو عمار».

كل شيء فيه، بناه طوبة طوبة. ليس لانه كان مهندساً شاطراً. اطلاقاً. فقد كان محمد عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني، آخر طلاب صفه في كلية الهندسة، جامعة القاهرة. وعندما تخرج العام 1956 كان قد مضى عليه في الكلية سبع سنوات عجاف. لقد احب الادب والتاريخ ولم يكن يحب العلوم. لكن كان لا بد من مهنة مضمونة النتائج، فذهب الى درس الهندسة. ولم يعطها سوى القليل من وقته. الباقي اعطاه للعمل في جمعية الطلاب الفلسطينيين. متى بدأ محمد القدوة عمله النضالي؟ لا نعرف تماماً. فلنجعل ذلك عندما قدَّم الى اللواء محمد نجيب العام 1953 عريضة موقعة بدماء الطلاب الفلسطينيين في مصر: لا تنسوا فلسطين! وفي 12 يناير من ذلك العام ظهرت صورة عرفات يقدم العريضة للرئيس المصري في «الاهرام» وقد كُتب اسمه خطأ: السيد فرحات! جميع الذين اسسوا «فتح» مع ياسر عرفات، صلاح خلف وخليل الوزير وزهير العلمي وسواهم، شهدوا باعينهم عملية النزوح الفلسطيني الحزين، وكانوا على متن القوارب المزدحمة. الا هو. فقد ولد محمد القدوة في حي ارستقراطي من احياء القاهرة، شارع امبان، لتاجر غزاوي ميسور وزهوة السعود، الأم التي سيفقدها باكراً ويطبع غيابها حياته، كما يطبع علاقته مع والده، الذي عاد فأسس عائلة اخرى. وعندما بدأ ابو عمار في كتابة اسطورته ترك الناس تظن انه من آل حسيني في القدس، لانه كان يدرك ما لصورة الحاج امين الحسيني، مفتي القدس، من أثر في نفوس الفلسطينيين.

على ان الدرس الاهم الذي علمه اياه الحاج امين، كان درساً آخر. في سنواته الاخيرة كان مفتي القدس يعيش على بعض المساعدات التي تأتيه من باكستان، او دول اسلامية اخرى. وكان يسرّ لرفاقه قائلاً: «لقد وصلنا الآن 15 الف جنيه من باكستان تكفينا عاماً آخر». ولما جفت المساعدات تماماً تراجع الحاج امين وانطوى على نفسه. وخلفه في قيادة العمل الفلسطيني احمد الشقيري الذي تدفقت عليه المساعدات والتبرعات، ولما جفت بدورها انتهت زعامة الشقيري. وتعلَّم ابو عمار الدرس جيداً: لن يدع المال يجف. ولن يعطي التوقيع المالي الى احد. ابداً.

كان ابو عمار قد رأى ايضاً كيف اختلف رفاق الثورة الجزائرية على الصندوق. وكيف طاردوا محمد بن خيضر الى سويسرا ثم اسبانيا حتى اردوه. هو، لن يدخل نفسه، ولا الثورة في هذه التجربة. كل شيء سوف يبقى في يده، حتى بعد اصابتها بمرض الارتعاش.

تحول «عرفات» الى اشهر اسم عربي في العالم. تذكره في ادغال افريقيا فيعرفونه، وتذكره في عواصم العالم في السبعينات فيخيف. وتذكره في العالم العربي فتنقسم الناس من حوله، مرة يقود الثورة على الحكم في الاردن، ومرة يقود الحرب اللبنانية على رأس «الحركة الوطنية» ومرة يتسبب في خروج نحو 400 الف فلسطيني من الكويت لوقوفه الى جانب صدام حسين. لماذا صدام حسين؟ لأن رئيس العراق تعهَّد تمويل الانتفاضة في الضفة: 50 مليون دولار نقداً و4 ملايين دولار كل شهر. وهذا ما يفسر تلك التظاهرات التي ظلت حتى سقوط صدام، تخرج حاملة العلم العراقي.

لم تكن فقط مسيرة طويلة مسيرة ياسر عرفات. كانت مسيرة عجيبة بكل معاني الكلمات: رجل يقود «العاصفة» ويحذر اهل الضفة من «قطع رؤوس» من يقبل بدولة فلسطينية ثم يذهب الى مصافحة اسحق رابين في واشنطن. ثم يؤدي التحية العسكرية لجثمانه. ثم يترأس الطريق الى اوسلو. ثم يغمر بيل كلنتون ويدعوه الى زيارة غزة. ولكن عندما يقدم كلنتون لابو عمار 95% من الضفة الغربية في «كامب ديفيد» ومقراً في القدس العربية يرفع سبابته الشهيرة قائلاً: ماذا اقول لشعبي. عندها يقول دنيس روس لأحمد قريع الموافق: فلنستعد لخمسين عاماً اخرى من الصراع.

كان ابو عمار احجية غامر الكثيرون بالاعتقاد انهم فهموها. ويروي الكثيرون من رفاقه حكايات كثيرة عن طباعه وتصرفاته وعناقاته المتعبة و«السوالف» التي حدثت له او معه. واعتقد ان احداً لم يفهم ابو عمار. واعتقد ان الاسرائيليين كانوا على حق عندما قالوا انه لا يريد السلام، لأن ياسر عرفات كان في الحقيقة يريد فلسطين. وكان يريد ان يقبض على شيء منها، لا ان ينتهي مثل الحاج امين او احمد الشقيري. لذلك عندما نصحه انور السادات بإقامة حكومة في المنفى جنَّ جنونه: هل تريد له حكومة اخرى ومن نوع «حكومة عموم فلسطين»؟ وهل تريد منه، هو، ياسر عرفات، ان يرأس حكومة تقبل ان ترسم حدود فلسطين ببقاياها؟ هل من اجل ذلك قام «الرقيب اول محمد» بأول عملية عسكرية ضد اسرائيل عبر الحدود اللبنانية منتصف الستينات؟ هل من اجل ذلك اصبح الناطق الرسمي باسم حركة «فتح» هو الحركة وهو المنظمة وهو فلسطين، قبل ان يعود فيخسر شيئاً من فتح وشيئاً من المنظمة وشيئاً كثيراً من زعامة فلسطين؟

عندما نستذكر شريط عرفات المصوَّر طوال السنوات الاربعين الماضية، نشعر وكأن دهراً طويلاً قد مضى، وليس مجرد اربعة عقود فمنذ هزيمة 5 يونيو قرر الفلسطينيون ان يأخذوا القضية بأيديهم، لم يمّر يوم من دون عرفات على شريط التاريخ: شجاعاً يتقدم المقاتلين في «الكرامة»، او ديبلوماسياً يخطب في الامم المتحدة امام قاعة مكتظة، او متجاهلاً للوفاء والعهود ومتخانقاً مع معظم الدول العربية، او متغاضياً عن اتصال عصام السرطاوي بالاسرائيليين ثم متغاضياً عن مقتله برصاص ابو نضال. او راعياً «لأيلول الاسود» ومتظاهراً بأن لا علاقة له به وبرجاله، لقد عاش يمشي على سلك رفيع وشديد التوتر معتقداً ان هذه الطريق الوحيدة الى فلسطين. كان يقنع كل زعيم عربي انه صديقه الوحيد. وكل زعيم عالمي ان لا امل في احد سواه. وحملتاه ركبتان لا مثيل لشجاعتهما لأن يذهب بنفسه معزياً باسحق رابين في شقة صغيرة في القدس، غير آبه بالمتطرفين اليهود الذين قتلوا رابين او بالمتطرفين الفلسطينيين الذين احلوا دم المصالحين.

بعد توقيع اوسلو بفترة غير قصيرة ذهب الى زيارة الملك حسين في عمان. وكان التوقيع لا يزال سرياً. ولذلك امضى الوقت يحدث الملك عن خطط القتال ضد الاسرائيليين. وعندما انكشف امر اوسلو تذكر الملك حسين ان ابو عمار القى عليه كل ذلك الخطاب بعد مضي اشهر على ختام اوسلو! كان الشيء وعكسه. الصديق غير المضمون والخصم غير الدائم. العدو المفاوض والمفاوض العدو. احجية متنقلة وبابا موصدا كلمة السر الوحيدة فيه: فلسطين. صنع نفسه طوبة طوبة. واختار خطواته واحدة واحدة. والشيء الوحيد الذي لم يقو عليه هو اختيار طريقة موته». الرقيب اول محمد «كان يتمنى ان يموت شهيدا شهيدا شهيدا».