دارة الحريري غصت بحشود المعزين على مدار الساعة وسيل من الدموع انهمر على ضريحه وسط بيروت

TT

شرع الرئيس الراحل رفيق الحريري ابواب دارته للعالم بأسره، تماماً كما كان يطمح. لم يعد جهازه الأمني مضطراً الى الاستنفار ولم يعد مرافقوه يشعرون بالقلق على سلامته حيال اي حركة مشبوهة.

ارتاح وارتاحوا معه. اطمأن الى الراحة الابدية، واصبحت العوائق الموضوعة حول دارته غير مجدية. فما يبعث على اليقظة والاستنفار زال، والاعظم صار ماضياً، والحاضر المؤلم مسكون بالجماهير الصاخبة بحزن محتدم بقوة خفية تدفعها باتجاه دارته في قريطم وضريحه في حرم جامع محمد الامين في وسط بيروت.

حشود رسمية وشعبية، تساوت في لهفتها لاداء واجب العزاء، ليس واجباً بالمعنى البروتوكولي وانما بالمعنى الوجداني والانساني والعاطفي.

ولعل زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك الى عائلة الحريري، فقط، من دون سائر الجمهورية اللبنانية خير مؤشر على مكانة الراحل التي تتجاوز المنصب السياسي، كذلك جاءت زيارة السيدة سوزان مبارك عقيلة الرئيس المصري امس آتية من القاهرة على متن طائرة مصرية خاصة برفقة وفد نسائي. فالرئيس الراحل استطاع من خلال «سر خاص» به ان يحول العلاقات الرسمية الى صداقات متينة، تجعل الاسى لخسارته كبيراً، وتجعل سبحة الوفود غير محدودة. فقد وصل الامير خالد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن من السعودية على رأس وفد لتقديم التعازي الى اسرة الرئيس الراحل. كما وصل نجل رئيس مجلس الوزراء الكويتي الشيخ حمد صباح الاحمد الصباح. ولبنان لم يعرف مثل هذا الحشد من الطائرات الخاصة، التي تحط في ارجاء مطار بيروت منذ مؤتمر القمة العربي عام 2000، وكأن الحدث الاليم مؤتمر قمة للعرب والعالم. اذ حضر لتقديم العزاء وزير خارجية تركيا عبد الله غول، ونائب رئيس مجلس الوزراء العراقي برهام صالح وشقيق الرئيس العراقي السفير فارس الياور وابنة الرئيس المصري الراحل هدى جمال عبد الناصر. ووصل ايضاً الى بيروت رئيس البنك الدولي جيمس ويلفنسون آتياً من واشنطن على متن طائرة خاصة وجاء ايضاً وزير الاعلام الاماراتي الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان على رأس وفد موسع.

اما عن المعزين اللبنانيين فالامر اعسر من ان يحصى، ولعل حضور عقيلة امين عام «حزب الله» الشيخ حسن نصر الله وستريدا جعجع عقيلة سمير جعجع «قائد القوات اللبنانية» المنحلة، والمسجون منذ العام 1994، الى دارة قريطم عصر امس تحمل دلالة معبرة عن قدرة اللبنانيين على التلاقي والتحاور والتفاهم في ظل رفيق الحريري رغم غيابه. والعبرة تبقى في الحشود الشعبية واقتحامها العاطفي للقصر كمقر للراحل الرمز الذي اشيعت عن يده الخضراء بالخير اخبار، تأكدت بالملموس اثر وفاته. التلاميذ الذين صنع لهم مستقبلهم، اهل البيوت المستورة التي كان يمدها بلقمة العيش في الخفاء، الناس الذين لا تجمعهم به صلة فعلية. الناس العابرون في الحياة المدنية كبيرهم وصغيرهم وحتى المرضى منهم. كلهم ساروا الى درب قريطم ووجدوا الابواب مفتوحة على مصراعيها للترحيب بهم من الصباح الباكر حتى آخر الليل، وجدوا في استقبالهم عائلة الراحل وليس موظفين متخصصين، فبهرهم لطف اولاد البيت العريق القريبين من الشعب من دون كبرياء مزيفة او استعلاء. حتى ان فتى في السادسة عشرة من العمر صرخ فور مغادرته الدار وهو يكاد لا يصدق: «قبلني ابن الحريري وشكرني على تعزيتي اياه».

اما المشهد المثير للشجن والنابت من الخيال والحكايات فهو ضريح الراحل الكبير في ساحة الشهداء وسط بيروت اذ حسب الناس، وانا منهم ان الموت نهاية. وبعد تكريم الميت بدفنه تسدل الستارة على صفحة معاشة لتدخل السيرة في التاريخ. لكن الخيط غير المرئي بقي غالباً وادخل ادبيات حزن جديدة على عاداتنا. اذ تحولت باحة جامع محمد الامين حيث ضريح الرئيس الراحل الى «تكية» عصرية يؤمها المريدون خوفاً على الغالي من وحشة القبر. «تكية» لها دورها في توحيد اللبنانيين الذين لم يتفرقوا بعد تشييعه كما خيل، الا ليعودوا ويؤدي كل منهم صلاته وفق معتقداته ويجلس قليلاً، يمسك بالقرآن الكريم ويقرأ آيات من الذكر الحكيم، او يحمل سبحة ويتمتم بالادعية وهو يذرف الدمع. حتى الاطفال استقطبهم المشهد. حملوا اليه زهوراً واضاؤوا شموعاً ولم يسألوا لماذا استبدل وسط بيروت دوره الترفيهي ليصير حزيناً الى هذا الحد.