توافق المتناقضات بين السلطات المدنية والميليشيوية والعشائرية والمحتلة يحكم البصرة

مشاهدات من جنوب العراق (1)

TT

يعزو كثيرون من ابناء محافظة البصرة الهدوء النسبي وقلة التفجيرات في هذه المحافظة الجنوبية، مقارنة بالوضع الأمني في بغداد، الى ذلك التوافق غير المعلن بين السلطات المدنية والميليشيوية والعشائرية وقوات التحالف بقيادة بريطانية. وكل من هذه القوى المتناقضة، تحاول تثبيت سلطتها كأمر واقع وبحد ادنى من التصادم مع الاخرى.. تسجل لنفسها انجازات ايجابية، وتحمل القوى الاخرى مسؤولية السلبيات والتقصير في القضايا المعيشية والأمنية، وبذلك لا توجد سيطرة فعلية كاملة لأي من هذه القوى الاربع على الوضع الأمني او الاداري في المحافظة، مما يجعل عملية إعادة تأهيل البنية التحتية والخدماتية تسير ببطء شديد يتخللها تشابك في المصالح لا يخلو من اتهامات بالفساد.

وتتفق اوساط سياسية وسكان في البصرة تحدثت اليهم «الشرق الأوسط» في تحليل هذا التشابك بين القوى الاربع، وذلك بالفصل بين كل منها والعودة الى بداياتها. ويقولون ان للعشائر سلطة اجتماعية مهمة في المدينة، وكانت تلعب دوراً ايجابياً في الماضي، وهي المعروفة بعشائر الستينات، لكن بعدما ضعفت سلطة صدام حسين اثر حربي الخليج الاولى (1980 ـ 1986) والثانية (1991)، راح صدام يفكك سلطات كل من العشائر الكبيرة ويعين زعامات عشائرية جديدة من بطونها وافخاذها، ويمولها ليلعب على تناقضاتها لتعزيز سلطته، وبدلاً من مائة زعيم قوي صار هناك الف زعيم ضعيف وغير مؤهل لعمل اجتماعي وسياسي مفيد.

ومن ابرز العشائر الرئيسية في البصرة حالياً، البوسليمي والكراشة والحمادنة والحلاق والبومحمد. وعندما دخلت القوات البريطانية البصرة في 2003، قررت غالبية هذه العشائر عدم مقاومتها، لكنها ابقت سلاحها للحفاظ على مصلحة ابنائها وللتعبير عن مدى قوتها. وكانت هذه القوة تظهر عندما يندلع خلاف بين عشيرتين ويتحول الى معارك تستخدم فيها اسلحة ثقيلة وخفيفة، فيتدخل الجيش البريطاني ويعتقل زعيمي العشيرتين الى ان يتفقا وينهيا المعارك... لكن سلطة القوات البريطانية على زعماء العشائر انتهت منذ اعلان قوات التحالف تسليم السلطة الى ادارة مدنية عراقية في يونيو (حزيران) الماضي، لكن السلاح بقي في ايدي العشائر واستمر مصدر قوة لها، ولا تستطيع الشرطة العراقية الحديثة النشأة السيطرة على اي نزاع عشائري كبير، فيما تبقى القوات البريطانية بعيدة ولا تتدخل مباشرة في انهاء مثل هذه النزاعات.

سلبيات هذه السلطة العشائرية هي انها تفرض على السلطات المدنية اليوم توظيف عناصر لها في جهازي الشرطة والجيش وفي ادارات المحافظة المدنية، وذلك بغض النظر عما إذا كانت هذه العناصر مؤهلة للوظيفة ام لا، وكذلك في حال ارتكاب اي من ابناء عشيرة كبيرة مخالفة، فأن الشرطة لا تعتقله خشية غضب قبيلته، وإذا اعتقلته تتعرض مكاتبها للتفجير. وينطبق هذا التعامل على الميليشيات المناوئة للقوات البريطانية التي لا تتعرض لابناء عشائر يعملون مع هذه القوات لأن عشائرهم تحميهم وتلاحق المعتدين عليهم، وبذلك تستفيد القوات البريطانية من توظيف ابناء عشائر كبيرة لديها عمالا ومترجمين ومقاولين، لان سلامتهم مضمونة من العشائر. أما سلطة الميليشيات نفسها فقد بدأت بعد سقوط نظام صدام حسين في جنوب العراق، خصوصاً في محافظة البصرة حيث ظهرت احزاب بعض منها موال لايران، واخرى تدعي ذلك او تنفيه. ومن ابرزها «حزب الله» و«ثأر الله»، و«حزب الفضيلة» و«حزب الدعوة» و«حركة الدعوة» و«جيش المهدي»، وبعض من هذه الاحزاب لديه ميليشيات. لكن اقواها واكثرها تنظيماً كان «المجلس الاعلى للثورة الاسلامية»، الذي يتزعمه عبد العزيز الحكيم. ولهذا الحزب ذراع عسكرية هي «فيلق بدر» الذي كان شارك في الحرب العراقية ـ الايرانية (1980 ـ 1988) الى جانب ايران، وكانت عناصر من هذا الفيلق تشرف على المعسكرات التي احتجز فيها اسرى الحرب العراقيون آنذاك. وغالبية هذه الاحزاب كانت وما زالت تسيطر على ادارة مجلس محافظة البصرة قبل الانتخابات الاخيرة التي جرت في 30 يناير (كانون الثاني) الماضي، وبعدها.

وهنا ايضاً يبرز هذا التوافق والهدنة غير المعلنة بين القوى الاربع هذه في التسيير السيئ لشؤون المحافظة. إذ تؤكد المصادر نفسها التي تحدثت اليها «الشرق الأوسط»، تقاسم سلطة الادارة المدنية بين الاحزاب والميليشيات والعشائر، فيما تبرر القوات البريطانية عدم تدخلها بأنها سلمت السلطة المدنية للمدنيين ولم تعد مسؤولة عما تفعله هذه السلطة. ولعل ابرز مثال على توافق المتناقضات هذه، ما ذكره المسؤول الاعلامي في القوات البريطانية الكابتن بيرس كافيل، عندما تحدث بفخر عن افتتاح غرف طوارئ اعيد ترميمها اخيراً في مستشفى ابن غزوان للامومة والاطفال في البصرة. واضاف في احد المؤتمرات الصحافية التي يعقدها اسبوعياً للصحافيين المحليين، «ان القوات البريطانية مولت هذا المشروع الذي نفذته شركة الباشا العراقية»، وراح يتحدث عن الخدمات الجديدة المتوافرة للمواطنين. وبعدما انهى كلامه، قال له صحافي محلي «ارجو عندما تعرض انجازاتكم ان لا تفيض بالدعاية وكأنك تعرض سلعة هي غير موجودة اساساً». وتابع «أنا زرت أمس هذا المستشفى الذي تحدثت عنه، وشاهدت امرأة عراقية تفترش الارض مع اطفالها الاربعة وتبكي، لانه قيل لها ان لا سبيل لمعالجة اطفالها بسبب عدم وجود الادوية المناسبة». فأجاب الكابتن بيرس محاولاً ان لا يبدي انزعاجه من كلام الصحافي «نحن لا نقوم بالدعاية وانما نقدم الخدمات الى السلطات المدنية ضمن الامكانات المتاحة، وسأنقل ما رويته عن المرأة العراقية واطفالها الى هذه السلطات».

وفي هذا الاطار، يقول ضابط بريطاني يعمل في تعهدات لمشاريع مدنية، طلب عدم نشر اسمه: «يبدو ان العراقيين اعتادوا على وجود سلطة عليا واحدة هي النظام السابق تصدر اليهم الاوامر فينفذونها، كما هي. لم يتعلموا بعد اتخاذ قرارات لوحدهم، فهذا امر جديد عليهم.. وعندما نسلم مسؤولين في هيئة مدنية معينة اي مشروع متكامل، تراهم يعودون الينا ويسألون، حصلت مشكلة فكيف نتصرف؟ وإذا لم يعودوا الينا يتصرفون استناداً الى مصالحهم الشخصية فينفقون اموال المشروع على امور لا علاقة لها بالمشروع نفسه».

وتنفي الاحزاب التي تدير شؤون المحافظة تقاسم السلطات في ما بينها وتضع اللوم في سوء الادارة على السلطة المركزية في بغداد وعلى القوات البريطانية في البصرة، وتقول انه ليست لديها سلطات كاملة واموال كافية في ظل القوانين المؤقتة السارية في البلاد. كما ينفي المجلس الاعلى للثورة الاسلامية اي علاقة له مع ايران او تورط اي من عناصره بالفساد او استغلال السلطة.