ألمانيا أصبحت الشريك العسكري الثاني لإسرائيل في العالم والعلاقات بين الجانبين تنمو بعيدا عن الأضواء

TT

يسافر آفي بريمور، السفير الاسرائيلي السابق لدى المانيا، بانتظام الى الولايات المتحدة ليطلع افراد الجالية اليهودية فيها على ما طرأ من توثق في العلاقات الاسرائيلية الالمانية. ويعلق بان رد فعلهم على ذلك «غالبا ما يتسم بالصدمة والالم والتذمر، اذ يريدون الاحتفاظ بصورة سلبية لالمانيا في اذهانهم». ومن بين رماد المحرقة «الهولوكوست»، تولدت علاقة صداقة فريدة من نوعها، فبعد 56 عاما على انهيار الرايخ النازي و36 عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية، اصبحت المانيا اهم حلفاء اسرائيل بعد الولايات المتحدة، فهي تمدها بدعم ثمين على المستويات العسكرية والاستخباراتية والسياسية والاقتصادية.

على ان هذا التقارب، الذي لا يحظى بتسليط واسع للاضواء رغم توثقه المطرد، ما زال خافيا عن انظار الجالية اليهودية الاميركية بالمانيا. وبالفعل، في وقت لا تزال فيه ذكريات «الهولوكوست» ماثلة في أذهان اليهود الاميركيين، والخلافات قائمة حيال تعويضات ضحايا النازية من اليهود، غالبا ما تبدو وجهة نظر اليهود الاميركيين حيال المانيا متأثرة بماضيها النازي فقط.

ويرى ديفيد هاريس المدير التنفيذي للجنة اليهودية الاميركية ان «اليهود الاميركيين كانوا متأخرين دائما خطوة او خطوتين عن اسرائيل في تفهم التطور الذي حل بالمانيا ما بعد الحرب،» ويضيف «وبينما يتوفر لليهود الاميركيين تجنب المانيا وحتى مقاطعة منتجاتها، فان اسرائيل لا قدرة لها على هذا الترف».

اما النتيجة فكانت تفاوتا غريبا في الموقف بين اسرائيل والجالية اليهودية الاميركية ازاء المانيا، ففي حين عمقت المانيا في السنوات الاخيرة من علاقاتها مع اسرائيل، وقدمت لها دون ضجيج اعلامي ثلاث غواصات، تتزايد المتاعب بين اليهود الاميركيين والمانيا، ويسري شعور بين الالمان انهم اصبحوا ضحايا «صناعة الهولوكوست».

وتقول ديدري بيرغر التي تدير مكتب اللجنة اليهودية الاميركية في برلين «ان المفاوضات الاخيرة ازاء التعويض عن اعمال السخرة في ظل العهد النازي تركت قدرا من الحقد في نفوس الالمان». وتضيف «تشعر الكثير من الشركات الالمانية انها تخضع للابتزاز من جانب اليهود الاميركيين. في الجهة المقابلة، هناك اقدار كبيرة من الاحتقار المتواصل من جانب الجالية اليهودية الاميركية، الاحتقار القائم على اساس انه لا يمكن الثقة بالمانيا ابدا». على ان هناك اشارات بين اليهود الاميركيين في الوقت الراهن على وجود اهتمام متنام بالواقع الديمقراطي المعاصر لالمانيا بدل ماضيها النازي. وبعثت خطوة نقل العاصمة الالمانية الى برلين فضولا جديدا في اوساط اليهود الاميركيين، وفي هذا السياق، ستزور خمس مجموعات اميركية يهودية المانيا هذا العام، وهي خطوة غير مسبوقة.

وكانت اول جوازات السفر الاسرائيلية التي صدرت بعد الاعلان عن الدولة اليهودية عام 1948 سارية المفعول «في كل الدول عدا المانيا». غير انه وقبل وقت طويل من اقامة علاقات دبلوماسية في العام 1965، حصل التقارب الاول بين المانيا واسرائيل عند التوقيع على اتفاق التعويضات عام 1952 بين رئيس الوزراء الاسرائيلي ديفيد بن غوريون والمستشار الالماني كونراد اديناور. وقد شملت تلك التعويضات دفع اكثر من 50 مليار دولار ليهود اسرائيليين ولدولة اسرائيل نفسها. ولان بعض هذه التعويضات جرى دفعه على شكل معدات واستثمارات صناعية وقطع غيار وسفن وقاطرات، ساهمت في تقارب الالمان والاسرائيليين بصورة لا يمكن مقارنتها باليهود الاميركيين.

اذ كان على الاسرائيليين التعلم من الالمان كيفية تشغيل تلك المعدات والسفن مما ساهم في قيام صداقات بين الجانبين. وبات معظم الاسرائيليين يشعرون ان عواقب «الهولوكوست» المالية قد صفيت بينهم وبين الالمان، ومعها عدم اهتمامهم وحتى شعورهم بالضيق من ضغوطات اليهود الاميركيين الاخيرة في سبيل الحصول على تعويضات من القطاع الصناعي الالماني. وتشير التحريات الحالية في المانيا واسرائيل، الى ان الدعم الالماني اساسي بالنسبة لامن اسرائيل، حتى مع بقائه بعيدا عن الاضواء بسبب المخاوف الالمانية من رد فعل العالم العربي والرأي العام المحلي. اما العلاقات بين جهازي استخبارات كل من البلدين فهي نشطة بشكل لافت، حسبما يفيد مسؤولون،اذ تزود المانيا اسرائيل بمعلومات واسعة عن العالم العربي، اما اسرائيل فانها تزود المانيا مقابل ذلك بمعلومات عن اوروبا الشرقية وروسيا، وعلى حد تعبير احد المسؤولين الاسرائيليين، «لدينا افراد يتحلون بتفهم واسع».

والمانيا، مثلا، تتحرك بهدوء في سبيل اطلاق سراح ثلاثة جنود اسرائيليين اختطفهم مقاتلو «حزب الله» اللبناني في اواخر اكتوبر (تشرين الاول) الماضي. كما ان المانيا تعتبر الحليف العسكري الثاني في الاهمية لاسرائيل، بعد الولايات المتحدة، اذ تتعاون كل منهما في تطوير بعض الاسلحة وتوفير التكنولوجيا ومنح اسرائيل غواصتين ذات كفاءات متقدمة جدا (بينما تقسط كلفة الغواصة الثالثة على فترات) كبادرة تعاطف منها بعد حرب الخليج.

علاوة على ذلك، اصبحت المانيا شريك اسرائيل الثاني في الاهمية بعد الولايات المتحدة ايضا. ولا يفوق عدد السياح من الالمان الى اسرائيل سوى السياح الاميركيين. وفي ما يخص السياسة، يعلق روفين ميرهاف المدير العام السابق في دائرة من دوائر وزارة الخارجية الاسرائيلية قائلا عن المانيا انها «باتت الآن الدعامة التي نستند اليها والمحامي المدافع عنا في اوروبا».

وفي الواقع، تلعب المانيا اليوم دورا في السياسة الاوروبية تجاه الشرق الاوسط يتمثل في مناقضتها للموقف الفرنسي الاكثر دعما داخل اوروبا للقضية الفلسطينية.

ولم يتضمن التقرير السنوي لوزارة الخارجية الالمانية لحقوق الانسان اي اشارات للتصرفات الاسرائيلية في الاراضي المحتلة، وهذا ما يتناقض مع ما ورد من انتقادات في التقرير الاميركي الموازي من اقدام اسرائيل على قتل الفلسطينيين بشكل غير قانوني.

ويعلق في هذا الصعيد رودلف دريسلر السفير الالماني في اسرائيل قائلا «تربط المانيا باسرائيل علاقات خاصة، وينبغي الا نقدم على تطبيع علاقاتنا لتصبح على نحو العلاقات الطبيعية التي تربطنا بهولندا او الولايات المتحدة... فنحن نشعر بمسؤولية ضمان وجود اسرائيل، وهذا يستتبع من ناحية سياسية انحيازنا الى جانب اسرائيل، وذلك بسبب هذا الواجب الفريد الذي نضطلع به».

اما ميرهاف الدبلوماسي البارز المتقاعد وابن احد المهاجرين الالمان الى اسرائيل فيقول «ان تقاربنا مع الالمان كان عملية مؤلمة وطويلة، غير ان المانيا ما بعد الحرب استطاعت كسب معظم السياسيين في اسرائيل من خلال سياسات مستمرة تتسم بالصداقة. في المقابل، لم يتعرض اليهود الاميركيون الى هذا النوع من الصداقات العملية، واشك في ان غضبهم على المانيا اليوم هو جزء من غضبهم على انفسهم لانهم تأخروا جدا في ادراك ما كان يجري في اوروبا».

أما رنهارد فيمر الدبلوماسي الالماني المتزوج باسرائيلية والذي يعمل اليوم في تل ابيب، فيقول انه عاش في منطقة يهودية معروفة في واشنطن وان الناس هناك كانت تسأل زوجته: «كيف يمكنك الاقتران بالماني»؟ ويضيف «ولكن هذه الاسئلة لا تسأل هنا (في اسرائيل)».

ويرى رنهارد ان هناك مجموعة من الاسباب وراء السلوك الاسرائيلي وما وصفه بـ«شك» اليهود الاميركيين» في المانيا و«ازدرائهم» لها، بينها طبيعة الهوية الاسرائيلية الاقل ارتباطا بـ«الهولوكوست، »بالمقارنة مع ارتباط اليهود الاميركيين الكبير بها. وهناك الادراك الاسرائيلي الواسع لحجم مساعدات المانيا لاسرائيل، الى جانب الصورة النمطية التي تقدمها الافلام الاميركية للالمان.

وهو يعتقد ان الاوضاع تسير في طريقها نحو التحسن، ولكن بشكل بطيء، علما بأن وقوع بعض التصرفات والحوادث المعادية للسامية في المانيا يمد الراغبين في الاحتفاظ بصورة المانيا النازية بالمبررات المطلوبة.

* خدمة «نيويورك تايمز» خاص بـ«الشرق الاوسط»