جابر العراقي يتذكر الأيام الخوالي في الكويت ويتحسر على وظيفة ضاعت وحياة دمرت

عراقيون في صفوان يرسمون صورة أخرى للحرب بعد 11 عاما على الغزو

TT

في معظم الايام يأتي حمزة جابر الى منطقة العبور الحدودية الكويتية ـ العراقية المعزولة ليجلس ويتذكر. فمن حيث يجلس على قاعدة لتمثال يحمل صورة للرئيس العراقي صدام حسين، يمكنه النظر عبر الحاجز الحدودي الصدئ الى مكاتب الجوازات المهجورة وعبر طريق مليء بالمطبات يقود الى الكويت.

وبالنسبة لجابر، فان الساعات التي يقضيها وحده هنا مستندا بيديه الى عصاه، مليئة بأسى لا يتلاشى. فعبر الطريق وعلى بعد 85 ميلا، تقع مدينة الكويت، حيث كان طوال 37 سنة واحدا من آلاف العراقيين الذين يحتفظون بعمل ثابت بمرتب ـ وفي حالة جابر، مسؤول عن مخزن بمرتب يصل الى 750 دولارا شهريا في وزارة التعليم الكويتية. وكان يملك مسكنا ويتمتع باسلوب للحياة افضل من اي شيء يمكن ان يتخيله في العراق.

الا ان تلك الحياة ولت الان، بالاضافة الى معاش التقاعد الذي كان جابر البالغ من العمر 67 سنة يعتقد انه سيساعده في تقاعده. ففي 2 اغسطس (آب) 1990 غزت القوات العراقية الكويت. وفي 27 فبراير (شباط) 1991 انسحبت منها تطاردها قوات التحالف الذي ضم 33 دولة. وفي اطار تداعيات ذلك الحدث طردت الكويت جميع العراقيين من البلاد.

وطبقا للحظر الاقتصادي المفروض على العراق من الامم المتحدة بعد غزو الكويت، تم عزل العراق عن جميع المعاملات التجارية مع الدول المجاورة. وفي نقطة حدود صفوان، حيث كانت آلاف من السيارات والشاحنات تعبر الطريق يوميا، اصبحت سيارات قوة الامم المتحدة التي تراقب المنطقة المنزوعة السلاح التي يصل عرضها الى 9 اميال هي السيارات الوحيدة التي تمر بالمنطقة منذ اكثر من عشر سنوات.

ولا يوجد حول المكان الذي يجلس فيه جابر الا الصمت، والوحدة التي منحته الوقت الكافي لكي يستعيد ذكرياته الاليمة، واحيانا، طبقا لاعترافه، يبكي. وعندما يسأل عن سلوانه في جلسته هذه، يفكر العجوز، الذي يجلس مقرفصا على الارض يضع على رأسة الكوفية والعقال في شمس الظهيرة، لفترة قبل ان يتحدث في صوت مرتعش «احضر الى هنا عندما اكون متضايقا. لقد كنت اتمتع بحياة جيدة هناك في الكويت، لسنوات عديدة، وفي يوم من الايام نظرت» ـ ورفع ذراعيه للسماء ـ «وفجأة ضاع كل شيء عملي ومنزلي ومعاش التقاعد، بل وحتى ابني. فقدت كل شيء، لا لسبب الا لاني عراقي».

ويقول جابر ان ابنه احمد الذي كان يبلغ من العمر 21 سنة آنذاك قتل بعدما اطلق كويتيون النار عليه وسط موجة من الانتقام التي صاحبت الانسحاب العراقي، وهو يحاول استعادة سيارة الاسرة وقيادتها للعراق. وفي ذلك الوقت كان آلاف من العراقيين يحاولون الهرب بسيارات سرقوها.

وفي الولايات المتحدة وغيرها من البلاد يتم استذكار الانتصار على العراق قبل عشر سنوات باعتباره لحظة استعادة اللياقة والاحترام، ونهاية 6 اشهر من العذاب والنهب على ايدي القوات العراقية.

الا ان الحرب ينظر اليها من منظار مختلف في العراق، ليس فقط عبر بيانات التفاخر التي صاحبت تصريحات المسؤولين العراقيين لما اطلق عليه صدام حسين «ام المعارك» والتلميحات التي يدلي بها المسؤولون العراقيون انه اذا واتتهم الفرصة فربما سيحاولون الاستيلاء على الكويت مرة اخرى، فقد استخدمت الحكومة العراقية المناسبة لتحويل غزو الكويت الى عمل مقدس، فذكرت ان يوم الهجوم العراقي كان «لحظة سعيدة في تاريخ صراع الشعوب العربية» وتعهدت باسم «الذكرى الخالدة» لنحو 20 ألفا الى 50 الف عراقي ماتوا في الحرب بان العراق لن ينسى «الطربق الذي سار فيه عام 1990». وقال عدد من المسؤولين المقربين من صدام حسين انه لا يوجد ما يمكن ان يأسفوا عليه.

ويضاف الى ذلك الذكريات المريرة للمواطنين العراقيين، لأنهم دفعوا ثمنا غاليا للحرب ذاتها كجنود تعرضوا للمرض والاصابات الناجمة عن القصف او اقارب الناس الذين قتلوا في المعارك او عندما لم تسقط القنابل على الهدف المحدد لها.

وفوق كل ذلك هناك المعاناة التي تعرض لها جميع افراد الشعب العراقي البالغ 23 مليون نسمة في ما عدا النخبة. وقد حددت استطلاعات الامم المتحدة وتقديرات الاقتصاديين العراقيين نسبة انكماش الاقتصاد العراقي بتأثير الحرب بما يتراوح بين 20 و50 في المائة، وقد ادى التضخم في التسعينات الى خفض قيمة الدينار العراقي بأكثر من 5 آلاف في المائة. ويركز المسؤولون في وزارة الاعلام العراقيون خلال اصطحابهم للصحافيين الاجانب في البلاد ـ وهم يراقبون كل حديث وصورة يلتقطونها ويتدخلون لمنع ذكر اي شيء يعتقدون انه مهين ـ على المعاناة الانسانية. ففي بلد لم يعترف ابدا بالهزيمة فان التركيز على تحميل الولايات المتحدة مسؤولية هذه المعاناة، يدفع المسؤولين، احيانا، الى ترتيب ما يمكن وصفه بجولة منظمة على مواقع معارك القوات العراقية.

وأحد تلك الاماكن هو جبل سانام، وهو تل صخري على بعد عدة اميال جنوب غرب صفوان، حيث ذكر العراق ان الطائرات الاميركية هاجمت وحدة دبابات روسية الصنع من طراز تي ـ 62 في ليلة 26 /27 فبراير (شباط) 1991.

وفي ما يبدو واضحا الان فان الطائرات الاميركية قصفت كل دبابة بقوة جعلت هياكلها بعد عشر سنوات، في المكان الذي تعرضت فيه للضرب، صدئة ومدافعها ملقاة بعيدة على مسافة تصل الى 150 قدما او اكثر، ومقاعد طاقمها المكون من اربعة جنود مغطى بما يبدو انه رماد بشري.

وعلى بعد ميل من صفوان، على تقاطع طريق، توجد المنطقة التي التقى فيها الجنرالات الاميركيون والعراقيون في خيمة اميركية لتوقيع اتفاقية وقف اطلاق النار. ولكن جبل سانام اكثر اهمية بالنسبة لحملة عراقية جديدة ضد الولايات المتحدة، ففي هذه المنطقة يتصرف المسؤولون العراقيون بطريقة مربكة. وتحمل براميل النفط الفارغة المدهونة بألوان الامم المتحدة البيضاء والزرقاء عبارات تحذير بالانجليزية «منطقة قنابل» في اشارة الى ان القوات الاميركية استخدمت القنابل العنقودية في هجومها، ولم يتم تطهير المنطقة.

والامر اللافت للنظر، اذا وضعنا في الاعتبار الانتقادات الحكومية التي لا تنتهي للولايات المتحدة، ان القليل من العراقيين العاديين على استعداد للدخول في مناقشات سياسية حول اسباب الحرب او القصف الاميركي المكثف. والقليل من الذين اجريت معهم مقابلات تلفظوا بكلمات قاسية بحق القرار الاميركي بالتدخل ضد الغزو الكويتي، بينما كانت هناك مجموعة لا تتعدى اصابع اليد، معظمهم من المسؤولين او الضباط السابقين، على استعداد لوصف الصراع بأنه انتصار للعراق.

فقد وصف عمران عبيد علي المصاب بسرطان الغدد الليمفاوية الذي يلتقي بالزوار في مسكن في البصرة يعيش فيه مع 13 من اقاربه، كيف نجا من غارة جوية على قافلة عسكرية في ليلة 26 فبراير بالقفز من الدبابة عندما سمع ازيز الطائرات وهي تقترب «عندما شاهدت ان جميع الدبابات والسيارات في القافلة دمرت، شعرت بالخوف». ووصف كتلة النار التي التهمت الدبابات والشاحنات والسيارات وقال: «سمعت عددا من الجنود الذين حوصروا في سيارتهم يصرخون طلبا للنجدة، ثم ساد الهدوء كل شيء».

* خدمة «نيويورك تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»