جهود لإنقاذ «الزهراء» أعظم مدن المسلمين المطمورة في الأندلس

المؤرخون اعتبروها نيويورك أوروبا وأسسها عبد الرحمن الثالث ودمرها الأصوليون القادمون من شمال أفريقيا

TT

يردد المؤرخون أن هذه المدينة المطمورة التي تقع على بعد ثلاثة أميال غرب قرطبة كانت فرساي القرون الوسطى وفيها عدد من الإقطاعيات والقصور مختلطة مع كنوز تدهش المسافرين القادمين إليها.

هناك أحواض من الزئبق يمكن هزها لنشر أشعة من ضياء الشمس المنعكس عبر جدران وسقوف رخامية من الذهب حسبما تقول السجلات المعاصرة عنها. كانت الأبواب محفورة من العاج والأبنوس وهي تقود إلى حدائق غناء وواسعة تضم حيوانات وتماثيل غريبة مصنوعة من العنبر واللؤلؤ.

يكتب المؤرخ ستانلي لاين ـ بول من القرن التاسع عشر في كتابه «قصة المورسكيين (المسلمين) في اسبانيا»، قائلا: «كان المسافرون القادمون من أصقاع بعيدة يأتون من كل الطبقات والحرف ومن مختلف الديانات، فمنهم الأمراء والسفراء والتجار والحجاج والفقهاء والشعراء وكل هؤلاء اتفقوا على أنهم خلال كل رحلاتهم لم يشاهدوا مثيلا لها». لكن الأركيولوجيين أكثر ترددا في القول إنه بينما كل هذه الأعاجيب كانت موجودة لكن الدليل المادي على وجودها ما زال مفقودا. لكنهم هم أيضا يغالون. يقول أنتونيو فاليو، رئيس الأركيولوجيين هنا إن مدينة الزهراء كانت مدينة إسلامية كبرى في القرن العاشر باعتبارها دليلا في عام 929 على أنها مركز الخلافة الحقيقي للعالم المسلم آنذاك. ويضيف فاليو «هذه كانت أكبر مدينة بنيت من لا شيء في أوروبا الغربية» وتغطي مساحة 280 فدانا. وأضاف الأركيولوجي فاليو «أكثر المدن الغربية الكبيرة نمت مع مرور الوقت. هذه المدينة بنيت من جهد واحد ومن تصميم واحد».

كان بناء المدينة عام 940 لحظة متميزة في التاريخ حينما كانت معظم الطاقات الفكرية الحيوية في أوروبا متجذرة في الإسلام وحينما كان قلب الإسلام متجذرا بطرق كثيرة في أوروبا.

لكن في حدود عاما 1010 تعرضت مدينة الزهراء للنهب على يد المسلمين الاصوليين القادمين من شمال أفريقيا والذين اعتبروا الثقافة المسلمة التي تمثلها المدينة شديدة التحرر في تفسيرها للاسلام. وأدت تلك الغارة إلى حذف المدينة من الخريطة لأكثر من ألف سنة.

والآن، وبعد مرور أكثر من مائة عام بقليل على اكتشافها بدأت عملية إنقاذ لمواقعها على أساس خرائط حديثة، مع ذلك بدأ تهديد جديد يواجهها. وهذا يتمثل في بناء شركات العقارات بيوتا جديدة فوق مواقع المدينة التي لم يتم حفر 90% من بقاياها.

وقال فاليو إنه واجه الكثير من العراقيل خلال العشرين عاما الأخيرة في مساعيه لحماية وإعادة بناء المدينة، وهذه تتراوح ما بين النقص في التمويل إلى عمليات التعرية والتآكل. وقال: « لكن أكبر مشكلة نواجهها هي بناء بيوت فوقها بطريقة غير شرعية».

وقال ان الحكومة المحلية في قرطبة فشلت في تطبيق قانون تمت اجازته قبل عشر سنوات يوسع مدى الحماية للموقع من عمليات التنمية.

الا ان متحدثا باسم الحكومة، رفض الكشف عن هويته طبقا لقواعد البروتوكول الاسباني، منعا لتعدي سلطاته، قال ان البناء قد توقف عمليا، وفي أي حال فإن معظم البيوت كانت في اطراف الموقع.

الا ان فاليو ذكر ان 250 منزلا اقيمت في مناطق محمية. ولم تتخذ الحكومة موقفا متشددا تجاه تشييد المباني في المستقبل. وذكر هو وعدد آخر من العلماء انه تصعب المبالغة في القيمة التاريخية للموقع.

وتمثل مدينة الزهراء مجتمعا، بالرغم من وجوده في قارة ذات أغلبية مسيحية، اصبح بأشكال متعددة تجسيدا للعالم الاسلامي في اوج مجده، عندما حقق المسلمون انجازات في مجالات العلوم والفلسفة والرياضيات تتفوق على الاخرين. وكانت تلك المنطقة تعرف باسم الاندلس وهي فترة استمرت 800 سنة وانتهت في عام 1492 بعد استسلام آخر ملوك المسلمين في غرناطة.

وتقول ماريا روزا منوكال استاذة الاسبانية في جامعة ييل الاميركية ومؤلفة كتاب «زخرفات العالم»، وهو كتاب حول اسبانيا الاسلامية، ان الاندلس وعاصمتها قرطبة، كانت محقة في اعتبار نفسها مركز الكون المعروف عندما تم تشييد مدينة الزهراء. وأوضحت: «لا توجد مقارنة بين قرطبة وأي شيء آخر في اوروبا في القرن العاشر، مثل نيويورك مقابل قرية مكسيكية ريفية».

وطبقا لعديد من الروايات كانت في قرطبة مياه جارية وشوارع مضيئة. وعندما كانت الكتب في اوروبا نادرة، كان يوجد بها 70 مكتبة، أكبرها به 400 الف كتاب.

وقدمت الأندلس لأوروبا الغربية الورق والجبر وتقنيات الري المتقدمة والترجمات اللاتينية لعديد من الاعمال الفلسفية الاغريقية.

والجدير بالذكر ان اندماج التراث الاسلامي والاوروبي هو فصل هام في تاريخ العالم، ولكن يجري تجاهله، وربما أعظم نموذج له هو أطلال مدينة الزهراء التي يبذل فاليو جهدا للحفاظ عليها.

وتقول منوكال ان مدينة الزهراء «لا تمثل أي شيء في التاريخ الاوروبي لأنه لا أحد من خارج نطاق اسبانيا الاسلامية يعرف عنها أي شيء».

وتجدر الاشارة الى ان عبد الرحمن الثالث، الذي أسس المدينة، كان يعتبرها نموذجا لكل فضائل الاندلس وتأكيدا لإعلانه انه الخليفة الحقيقي للعالم الاسلامي. وباعتباره حاكما لما كان واحدة من أغنى الحضارات في العالم، لم يحتفظ عبد الرحمن فقط بوسائل الترف بل حولها الى مركز للموسيقيين وعلماء الفلك والشعراء والاطباء وعلماء النبات والرياضيات.

وكان تدميرها يعني بداية النهاية للحضارة الاسلامية الوحيدة التي انتشرت في اوروبا الغربية، وأدت الى تششت فرع مهم من الاسلام تأصل في قارة بعيدة عن تأثيرات الاسلام الاساسية في الشرق الأوسط.

وقال فاليو ان التنقيب الكامل عن المدينة الذي بدأ في عام 1911 سيستغرق مائة عام على الاقل «هذا عمل لأجيال».

وأشار، وهو ينظر الى صفوف القناطر والاعمدة الرخامية واشجار البرتقال التي اعيدت زراعتها في حدائق القصر المكتشف جزئيا، والى المساكن الحديثة التي تقترب من غرب المدينة، وقال: «لن نتمكن من فهم هذه المدينة فهما حقيقيا إذا لم نفعل شيئا حيال هذه البيوت».

* خدمة «نيويورك تايمز»