حياة محفوفة بالأخطار يعيشها الصحافيون العراقيون المتعاونون مع شبكات الأخبار الغربية

غالبيتهم يختلقون أعمالا وهمية للتغطية على عملهم الحقيقي ويستخدمون أسماء مستعارة

TT

كنا نحقق في أمر خلية ارهابية مسؤولة عن عمليات قطع رؤوس واغتيالات. وعلى الرغم من أنها مهمتي الأولى مع هذا الصحافي العراقي المتعاون والذي يعمل بالقطعة فقد برهن على كفاءة عالية في أدواره المختلفة كمترجم ومخبر صحافي وميسر للعمل. وقال انه عمل عبر صديق من اجل أن يرتب لنا مقابلة مع مصدر استخباراتي في الحكومة العراقية يمكنه أن يلقي اضواء على أوضاع الخلية من الداخل.

وكانت مفاجأة، بالتالي، عندما لم يسمح لهذا الصحافي العراقي، أو المستأجر محليا، بالجلوس اثناء المقابلة ذاتها. وفي وقت لاحق تحول الشعور الى انزعاج شديد عندما أخذني الرجل الذي وصف كصديق جانبا، بموافقة رسمية بالطبع، وأغلق الباب الخشبي خلفنا ووجه الي الكلمات البسيطة ولكن المروعة «الى أي مدى تعرف خلفية مترجمك؟».

وأخيرا، واذ وضع «الصديق» نظرية تفصيلية ولكن يصعب تصديقها من ان الصحافي المحلي ربما يكون مرتبطا بطريقة غير مباشرة بالخلية الارهابية نفسها. وتحول الموقف ثانية: أتساءل ما اذا كنت استخدم لتمرير رسالة تحذير الى عراقي مغامر من ان ليس كل تقاريره قد تلقت اعجابا من جانب المسؤولين.

وعلى الرغم من ان كل واحد قد عاد بأمان من المهمة، فإنها وفرت لمحة عن العالم غير الواضح والمحفوف بالمخاطر الذي تعيش فيه شبكة الصحافيين المتعاونين العراقيين التي تعتمد عليها مؤسسات الأخبار الغربية. وبينما لا يقدم هؤلاء الصحافيون المهمون بالنسبة للناس في مختلف انحاء العالم ممن يريدون معرفة ما يجري في العراق، صورة واضحة عن شخصياتهم خارج غرف اعداد الأخبار حيث يرسلون تقاريرهم، حسب اختيارهم، لأن حياتهم تحت التهديد المستمر. فهوية هؤلاء المساهمين وكيف ولماذا يقومون بعملهم امر هو موضع تركيز حاد من جانب الصحافيين الغربيين الذين يعملون معهم. وعاجلا أو آجلا يحصل الصحافيون الغربيون على تقييم حي للمخاطر التي يواجهها العراقيون وهم يساعدون في جمع الأخبار. ولكن حتى معنا هناك حدود. فنحن لا نرى سوية كثيرا خارج العمل. ونحن لا نشاركهم احتفالاتهم العائلية.

وقبل أسبوع واجه صحافي عراقي آخر مختلف عن ذلك الذي جرى تحذيره مصيرا أكثر مأساوية. فقد ظهر رجال ادعوا انهم أفراد شرطة في بيت فاخر حيدر، وهو صحافي محلي في مدينة البصرة عمل اساسا مع صحيفة «نيويورك تايمز»، وأخذوه امام انظار عائلته. ووجد حيدر قتيلا بعد ساعات.

أما لماذا قتل حيدر على وجه التحديد، وما اذا كان ذلك مرتبطا بعمله مع هذه الصحيفة، فأمر لم يتبين بعد. ولكنه كان قد اعد تقريرا عن الصدامات بين القوات البريطانية في المنطقة وأفراد ميليشيا اخترقت قوة الشرطة في البصرة، ولكنها موالية لرجل الدين الشيعي مقتدى الصدر. ووصل قتلة حيدر الى بيته في سيارة شرطة واحدة على الأقل. وأفادت منظمة «صحافيون بلا حدود» المدافعة عن حقوق الصحافيين على موقعها على الإنترنت الأسبوع الماضي انه بمصرع حيدر بلغ عدد الصحافيين والصحافيين العراقيين بالقطعة الذين قتلوا في العراق منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة 72 صحافيا. والغالبية العظمى منهم عراقيون. فهناك ستيفن فنسنت الصحافي الأميركي غير المتفرغ الذي قتل بالرصاص في البصرة في أغسطس الماضي بعد ان اخذه رجال كانوا في سيارة شرطة ايضا.

ان مصير الصحافيين والمترجمين العراقيين الذين يعملون معهم غالبا ما يتداخل، وقد اطلق الرصاص على نورية صيهود الخال، مترجمة فنسنت العراقية، مرتين على الأقل في الهجوم نفسه، على الرغم من انها نجت من الموت.

ويقدم السيد حيدر، بطرق كثيرة، مثالا على ما يجب ان يكون عليه الصحافي العراقي بالقطعة.

فقد كانت له بديهة ثقافية مدهشة في عالم يعرفه أفضل مني بكثير، وكان ذلك جزءا مما جعله ذا قيمة كصحافي ومرشد. وكان قد قاتل في انتفاضة عام 1991 في الجنوب ولا بد ان حيله كانت بارعة في ذلك الوقت ايضا. وكان يقول انه أفلح في النجاة من سلطة صدام حسين عبر الفرار الى الكويت.

وكان صبي هذه المدينة الذي يرتدي جاكيت الجينز عارفا بشوارع البصرة على نحو دقيق، ولم يكن مجهولا بالنسبة له أن يمارس التملق حتى نجتاز نقطة تفتيش، أو اذا لم يفلح في ذلك فانه يجعلنا نمر عبر اطلاق النكات بينما البنادق مصوبة الى وجهه. وبوسعه ايضا استخدام جذوره العشائرية والدينية للاسراع في كسب ثقة شيوخ العشائر الذين يسيطرون على جزء واسع من الجنوب.

ذهبنا مرة الى غيتو مسلح في البصرة تحت سيطرة شيخ كان يرتدي دشداشة مطرزة بلون ذهبي. كنت متأكدا من ان سترة حيدر وشعر لحيته الذي لم يحلقه منذ يومين سيثير عدم ارتياح لدى الشيخ، إلا انهما بعد دقائق فقط بدآ يتحدثان وكأنهما صديقان قديمان. طاف معنا الشيخ حول الغيتو في جولة وكان يقفز ببراعة فوق مجاري مياه الصرف الصحي طالبا من كل من التقيناه الإجابة على اسئلتي. خلال رحلتي الى الأهوار الى الشمال من البصرة تبعني حيدر في سيارة، وكنت اجلس داخل شاحنة صغيرة مع شيخ عشيرة آخر الى جانب ستة مسلحين على الأقل. انفجر المسلحون بالضحك على نحو مفاجئ. سألت مترجم الشيخ عما حدث ورد قائلا ان واحدا منهم علق قائلا إنهم اذا سلموني لخاطفين ربما يحصلون على 35 دفتر شيكات مصرفية ويصبحون اثرياء. ويبدو ان دفتر الشيكات هنا يعتبر من مقاييس الثراء. ترى، هل هذا تهديد؟ هل انا في خطر؟ كيف ينبغي ان يكون رد فعلي؟ لم استطع التوصل الى اجابة وملت ناحية حيدر حيث توقفنا في النقطة التالية. تجمدت ابتسامة حيدر للحظة وتبادلنا نظرات سريعة استطعت ان افهم منها انه يجب ان نتخذ هنا القرار الصائب. ظهرت على عيني حيدر نظرة غريبة للحظة وهو يستعرض في ذهنه موسوعته الثقافية فيما يبدو، إلا ان الدفء عاد مجددا لابتسامته وقال لي: «انهم يمزحون فقط». رغم علم المراسلين الغربيين عن كثب مع زملائهم العراقيين، فإن الاحصائيات تشير الى ان الأخطار الحقيقية يتحملها الصحافيون العراقيون. اذ عادة ما يعلمون لوحدهم كصحافيين متعاونين، شأنهم شأن الصحافيين في كل دول العالم، وفي بعض الأحيان في أماكن غاية في الخطورة لا يستطيع الصحافيون الغربيون الذهاب اليها من دون حراسة مسلحة. كثيرا ما جرى تناول مدى اعتماد وسائل الإعلام الغربية على شبكة الصحافيين المتعاونين في العراق. إذ ان اهمية مساهمة هؤلاء في نقل تقارير دقيقة للعالم الخارجي امر لا خلاف حوله، إلا ان هؤلاء الصحافيين العراقيين يعملون وكأنهم مراسلون جددا او موظفون يتعلمون لأول مرة العمل في هذا المجال. فعملهم يخضع للتمحيص، والذين يدركون منهم المعايير الغربية فيما يتعلق بالمصادر والمصداقية والدقة يظلون في المهمة، فيما يطلب ممن لا يتوفر لديهم هذا الجانب الاتجاه الى عمل آخر. يكمن الفرق في ان معظم الصحافيين العراقيين الذين يعملون الى جانب زملائهم الغربيين يعملون على اختلاق اعمال وهمية للتغطية على عملهم الحقيقي وغالبا ما يستخدمون اسماء مستعارة، مثلما يفعل حيدر. يتلقى من يؤدي هذا العمل دخلا جيدا بالمقاييس العراقية، إلا ان ثمة اسبابا اخرى في اعتقادي تدفع هؤلاء الى المجازفة ومواجهة المخاطر. كان الارهاب والخوف ظاهرة متفشية وسط غالبية المواطنين العراقيين خلال فترة حكم صدام حسين، إلا ان الملل والسأم كانا واقعا يوميا. بعض هؤلاء، مثل الذين يعملون معنا، ضاقوا ذرعا من الاختيار بين التزام خط معين او الصمت. بعضهم يتمتع بالجرأة والإقدام ويتطلعون الى أداء وظيفة ممتعة وعيش حياة نشطة ومحفزة. حيدر من هذا النوع. فبالإضافة الى انه يحرز تقدما مستمرا في العمل وتعلم مهارات وقدرات جديدة، يفهم حيدر جيدا كل تفاصيل وأوجه حياة المجتمع الذي يعيش فيه ويغطي اخباره. قبل وقت قصير من انتهاء اليوم الذي تجولنا فيه في منطقة الأهوار لم يستطع واحد من حراس الشيخ ان يمرر مزحة الاختطاف وأشار الى احتمال ان يكون هناك من ينتظرون في الخارج في منطقة القصب والمستنقعات. إلا ان رد فعل حيدر كان هذه المرة وكانت ابتسامته موجودة وقال للحارس ان أي رهينة في العراق له قيمة كبرى وان شيوخ عشيرته انفسهم ربما ينتظرون الحصول على مبلغ مالي بشيك مصرفي على حساب الشيخ. ضج الجميع بالضحك، ولكن لم يكن هناك المزيد من النكات.

*خدمة «نيويورك تايمز»