الحليمي العلمي: تطور «الاتحاد الاشتراكي» المغربي إما أن يكون مؤسسا على النقد الذاتي أو لا يكون

قال في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن مؤتمر الحزب الذي يبدأ اليوم يجب أن يكون مؤتمرا للتحديث

TT

يعتبر أحمد الحليمي العلمي الذي يشغل منصب وزير الشؤون العامة للحكومة المغربية بالاضافة الى حقائب الاقتصاد الاجتماعي والمقاولات الصغرى والمتوسطة والصناعة التقليدية من بين أطر حزب «الاتحاد الاشتراكي» الحاكم الاكثر جرأة على طرح الاسئلة المزعجة التي تتجاوز مرحلة البحث عن الاجوبة الموضوعية الى ممارسة النقد والنقد الذاتي بكل ما يحمله من مساءلة وحساب. وقربه من عبد الرحمن اليوسفي الكاتب الاول (الامين العام) للحزب والوزير الاول يجعل أفكاره أكثر تعبيرا عما يفكر فيه اليوسفي الذى عرف دائما بتكتمه حفاظا على وحدة حزبه. الحليمي طرح في حوار اجرته معه «الشرق الأوسط» الاسئلة التي يرى ان على مؤتمر الحزب الذي ينطلق اليوم الاجابة عنها للانتقال بالتجربة الحزبية الى القرن الجديد. وفي ما يلي نص الحوار:

* ينعقد المؤتمر السادس للحزب في ظروف تكاد تكون استثنائية، فهو أول مؤتمر منذ خروج الحزب من المعارضة وتوليه الحكم. كما أنه يعقد لأول مرة في غياب زعيمه التاريخي عبد الرحيم بوعبيد، وفي ظل عهد جديد دشنه مجيء محمد السادس إلى الحكم. فما المنتظر من مثل هذا المؤتمر الذي تأخر أكثر من 10 سنوات؟

ـ إنها ظروف استثنائية بحكم كل هذه العوامل التي ذكرتها، لكن أضيف إليها عاملين أخرين هما: تأخر المؤتمر السادس عن الانعقاد بحوالي عشر سنوات، وقيادة تنظيمية بزعامة آخر زعيم تاريخي للحزب الذي هو في نفس الوقت أول وزير أول اتحادي منذ حكومة عبد الله إبراهيم.

أما المؤمل من هذا المؤتمر فهو أن يكون مؤتمرا للتحديث ولبلورة المفهوم الاتحادي للاشتراكية في ظل الظروف المغربية والدولية التي تطبع المرحلة التاريخية التي نلجها في بداية القرن الواحد والعشرين، خاصة تلك التي نلتقي فيها مع العالم الثالث بعد بحث طويل عن صيغ نماذج للاشتراكية تحولت في نهاية المطاف في كثير من دوله إلى دكتاتوريات عسكرية واقتصاديات ريعية مفلسة، ومجتمعات تتميز بالفوارق الطبقية الفاحشة والفساد الأخلاقي المستشري في كل المرافق. فالمطروح أو المؤمل هو أن يجيب المؤتمر عن بعض الأسئلة الجوهرية بقصد تحديد ماهية الاشتراكية التي يتبناها الاتحاد منهجا ومحتوى وآفاقا بالنظر إلى هويته التاريخية وشروط التطور الذي يعرفه عصرنا في الأنسجة الاقتصادية ـ الاجتماعية وفي قوى الإنتاج وفي العلاقات الاجتماعية والثقافية وفي نماذج الاستهلاك والتبادل، وطنيا ودوليا. كما من المؤمل ان يجيب المؤتمر عن أسئلة تحدد معنى الحداثة بالنسبة للحزب الذي نبت في تربة وطنية إسلامية متعددة الثقافات والتعابير، من حيث اللغات ونماذج العلاقات الاجتماعية والرواسب الوجدانية، انصهرت في مجموعة وطنية موحدة العقيدة والهوية الحضارية ومفروض عليها الانفتاح على عالم يتسم بنزعة عولمية تتنافس فيها الاقتصاديات والقيم والحضارات المهيمنة في جو من الشفافية وبدعم تمدها به ثورة الاتصالات الحديثة وتوفر لها طاقة هائلة للتأثير والتفاعل مع أكبر المجموعات البشرية وأصغرها حجما على السواء.

إذن أرى أن على أي مؤتمر اليوم أن يجيب عن أسئلة جوهرية: أي مغرب للغد؟ أية هوية حضارية في ظل التعددية الثقافية واللغوية والانفتاح؟ أي تجانس بين منهجية التحليل الاشتراكي والمقاربات الإسلامية؟ ما هو محتوى الحداثة بالنسبة للاتحاد في البرامج والتنظيم والتدبير؟ أية آفاق للبناء المغاربي أخذا بعين الاعتبار المصالح الحيوية لمكوناته الوطنية، بقصد تجاوز مرحلة التعثر الحالية، ومن أجل أية تحالفات واستراتيجيات جهوية ودولية؟ ومجمل القول: ما معنى شعار الحداثة والتحديث المردد اليوم على كل الشفاه؟

التحديث ضرورة

* عندما تطالب أن تكون مهمة المؤتمر الأولى هي التحديث، فهل يعني هذا أنك تخالف الرأي الذي يريد أن يجعل من هذا المؤتمر محطة لتقييم تاريخ الحزب؟

ـ أنا لا أتفق فحسب مع أصحاب هذا الرأي بل أؤيدهم. فالتطور إما أن يكون مؤسسا على النقد الذاتي أو لا يكون، علمًا بأن النقد الذاتي إذا كان يقي من آفات النزعات التبريرية إلا أنه لا يحمل معنى التجريح الذاتي أو تصفية حسابات ذاتية.

* أنت دائما تطالب بضرورة أن يقوم الحزب بنقد ذاتي، فهل تعتقد أن الظروف الحالية مواتية لممارسة هذا النوع من النقد؟

ـ أعتقد أن الظرفية الحالية مواتية لاعتماد هذه الممارسة لأنها أصبحت مطلبا يكاد يكون شاملا داخل المجتمع المغربي. وقد أبان استطلاع للرأي أنجز اخيرا تحت إشراف مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد للثقافة والعلوم وجريدة «الحياة الاقتصادية» والقناة الثانية أن هذا المطلب يجد تجاوباً واسعا داخل المجتمع المغربي، وهذا يبدو طبيعيا لأن الرأي العام، وكما أفصح عنه هذا الاستطلاع، في الوقت الذي يولي فيه اهتماما بينا بـ«الاتحاد الاشتراكي»، بل وتعاطفا واضحا معه كتاريخ وتراكم ويعبر عن تقدير خاص لزعيمه عبد الرحمن اليوسفي، يطالبه بالتجديد، وهذا يعني أنه يطالبه بإعادة النظر في مشروعه وممارساته وقياداته ونوعية تواصله مع محيطه.

أما بالنسبة للظرفية داخل الحزب، فقد لا تكون بنفس المستوى من الاستعداد لهذا التحول المنشود ولهذا المطلب المعبر عنه بكثير من الصيغ، لأن هناك ظروفا تاريخية عرف فيها الحزب ركودا واضحا امتد على الخصوص منذ الفترة التي كان فيها فقيدنا عبد الرحيم بوعبيد مريضا والفترة التي تلت وفاته رحمه الله وما تخللهما من استحقاقات ومعاملات مع القصر والأحزاب الوطنية وما عرف كل ذلك من أخذ ورد وما اعتراه من ملابسات، كان من نتيجة كل ذلك بروز اختلافات في تقييم الأحداث والتوجهات وسلوك مختلف القيادات. ولم تكن هناك مناسبة لتعميق التفكير جديا في التقييمات الموجودة داخل الحزب بهدف تركيبها وصياغة منظومة موحدة حولها، زد على ذلك مشاركة الاتحاد في الحكومة بعدما يربو على أربعين سنة من المعارضة وهي نقلة نوعية تولدت عنها مرحلة جديدة، ربما كان تصور طبيعتها مستوعبا من طرف بعض الأطر والأوساط الاتحادية، في حين لم تكن أخرى مهيأة لتقبلها واستيعاب ماهية جدليتها. يضاف إلى هذا كله ما كان سائدا داخل المجتمع المغربي من نفور من التسيس والحيطة من أجهزة الدولة عموما، نتيجة ما اعترى الانتخابات التي عرفها المغرب في السنوات الأخيرة من تزوير، وما كان يطبع الممارسات الإدارية في علاقاتها مع المواطنين من عسف وسلطوية وابتزاز. ونتيجة أيضا لسلوكات بعض الأطر الحزبية التي كانت تطبعها أنواع مختلفة من السلبية. كل هذا جعل أن الظروف داخل الحزب لم تكن دائما مهيأة لطرح هذه القضايا بالشكل المطلوب ليصبح النقد الذاتي طبيعيا وإيجابيا ومواكبا للتطور التنظيمي والتراكم النظري.

الخلافات الداخلية

* ألن يقحم فتح باب النقد الذاتي المؤتمر في متاهة تصفية الحسابات الداخلية بين أقطاب الحزب الذي يوجد بينهم نوع من التجاذبات حتى لا نقول الخصومات؟ ـ هذه التجاذبات هي نتيجة هذه الظروف التي تطرقت إليها باختصار، وربما يبقى احتمالك واردا. فمن الضروري بالنسبة لحزب مطلوب منه أن يقوم بتقييم موضوعي ومعمق لمساره أن يعيد النظر في تاريخه وتجربته، لأن الرهان كله هو إمكانية إحداث النقلة النوعية التي تفرضها على الحزب المرحلة التاريخية التي تجتازها بلادنا بالرغم من كل السلبيات، وهو رهان خطير لأنه إذا لم تكن للحزب هذه الإرادة والقدرة على تجاوز الطموحات الزعامية الخرقاء فسيتحمل «الاتحاديون» كلهم مسؤولية الزج بحزبهم في مسار لا يتمنونه له ولا يرقى إلى ما يأمله الوطن من وراء انعقاد هذا المؤتمر.

* هناك عدة أصوات تشكك في ظروف الإعداد لهذا المؤتمر، ألا تخشى أن يكون المؤتمر مجرد محطة لتأجيل الخلافات وليس لطرحها ومناقشتها؟

ـ لقد سبق أن قلت إن من سلبيات تاريخ الحزب أن مؤتمراته باستثناء مؤتمره الاستثنائي الذي عقد عام 1975، كانت محطات تنطلق منها الخلافات وتتعدد الأطروحات عوض أن تكون محطات لحسم الخلافات وتوحيد الرؤى، والرهان ألا يكون هذا المؤتمر كذلك. هناك بالفعل الآن، وكما قلت، بعض الانتقادات التي بدأت تطفو على السطح وتشكك حتى في قدرة المؤتمر على أن يكون مثل سابقيه، وأنا شخصيا لا أوافق على هذا التصور وإن كنت ألتقي مع بعض الانتقادات التي يعبر عنها هنا وهناك حول كيفية التحضير وسلوكيات فئوية غير مقبولة، لكن الخطأ كل الخطأ بل الخطيئة هي أن تعالج الأخطاء بارتكاب أخطاء أخرى. فمعالجة ما قد يكون اعترى التحضير للمؤتمر من نقص أو من هفوات يجب ألا تكون بالتشكيك في الإنجاز المتوصل إليه برمته، وبالتالي تعميق السلبيات التي هي أساس هذه الأخطاء. فمعالجة النقص أو التقصير أوالأخطاء ينبغي أن تتم من خلال العمل على تحويل هذا المؤتمر إلى محطة إيجابية، وستكون كذلك إذا أفضت إلى انتخاب هيئة قيادية تكون لها تمثيلية نوعية حقيقية وقدرة على استيعاب كل الأفكار، وصياغة برنامج تركيبي يكون معبرا عن كل التيارات والأفكار الموجودة فيه. فالمؤتمر السادس ليس نهاية طريق، بل أعتقد أنه بداية مسار جديد ومعارك جديدة لبلورة اتحاد الغد الملائم لمغرب الغد، وهذا سيتوفر إذا ما توفر حضور نوعي متميز في أشغاله وهيئاته. لذا أناشد شخصيا كل الذين يحملون أفكارا يريدون من خلالها التصحيح والتحديث على أساس الوفاء للهوية والانفتاح على متطلبات العصر، ومن خلال ذلك خدمة تطور المجتمع المغربي واستقرار البلاد وانفتاحها على العهد الجديد بمشروع تقدمي منسجم مع طموحات الشعب المغربي وفئات الشباب على الخصوص، أن يشاركوا بآرائهم وأن يعمل الجميع على أن تنبثق عن هذا المؤتمر قيادة تمثل كل الأفكار الأساسية الممثلة داخل الحزب مع تحميل أحسن وأجود القدرات الموجودة مهمة السهر خلال سنتين مثلا، على تنشيط الاقاليم وإعادة تفعيل طاقات قواعد الحزب فيها وتنظيم مؤتمرات إقليمية على أسس ديمقراطية سليمة تنبثق عنها قيادات إقليمية تمثل أحسن تمثيل القواعد الحزبية والفئات الاجتماعية المتعاطفة، على أن يكون الهدف المسطر لهذه القيادة هو الوصول من خلال هذه البرامج العملية إلى تنظيم مؤتمر ينعقد بعد سنتين مثلا، توكل إليه مهمة الإجابة عن الأسئلة المطروحة وتحديد الآفاق الحزبية على أسس غير قابلة للطعن أو التشكيك والتي هي ضرورية لمواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين.

التكيف مع تحديات المستقبل

* ما هي المهام المطروحة على الحزب داخل المجتمع مستقبلا، وكيف تنظر إلى مستقبله؟ ـ ما بعد المؤتمر سيكون مطبوعا بصراع سياسي قوي لأنه محكوم بآفاق الاستحقاقات الانتخابية بما سيكتنفها من مواجهات فكرية وسياسية ستطال بالضرورة الهوية المغربية ومقاربات التعامل مع ما يسمى الآن بالعولمة وما تحمله هذه الأخيرة من إكراهات اقتصادية ومواجهات ثقافية، وصراعات فكرية وتحولات في العقليات والذهنيات وانعكاسات مختلفة على المجتمع المغربي بكل فئاته ومؤسساته ونماذج تدبير شؤونه. فالمناخ المستقبلي سيكون مغريا بالمزايدات والصعود على الموجات النقية منها والعكرة، ومعنى هذا أن على أي حزب يطمح إلى أن يبقى فاعلا إيجابيا في تطوير المغرب أن يوفر منظورا يستمد أسسه من توجهه المذهبي، لكن بمحتوى يمكنه أن يجيب عن كل الأسئلة المطروحة في الساحة الوطنية بما في ذلك ما يتصل بالهوية مرجعية وقيما ووجدانا، وما هو مطلوب من إحياء وإغناء لمختلف تعابير تعددية ثقافاتنا المتراكمة عبر تاريخنا الوطني، وما هو ضروري من انفتاح على متطلبات التقدم العلمي والتطبيقات التكنولوجية والقيم الحداثية الكونية التي هي أساس ما يشهده العالم من ثورة هائلة في جميع الميادين، مع الحرص في هذا وذاك على دعم الصف الوطني وتوحيد القوى التقدمية ذات التطلعات المشتركة. وجملة القول إن على حزب من حجم الاتحاد أن تكون له القدرة في هذه المرحلة على أن يحدد بكل وضوح طبيعة المشروع المجتمعي الذي يستطيع من خلاله كسب ثقة القوى الحية في البلاد، باعتباره المشروع الكفيل بالإجابة عن أسئلة المرحلة المقبلة، والقادر في نفس الوقت، على أن يوفر لمغرب الغد التطور المنشود في ظل العدالة والاستقرار ودعم مكانته على الصعيد الدولي، تلك المكانة التي لم تعد اليوم توزن بميزان الموقع الاستراتيجي بقدر ما أصبحت توزن بميزان الحضور الاقتصادي والقدرة على التنافسية والتفوق.