حكم قضائي يجدد الجدل في أميركا حول تدريس نظرية «التكوين الذكي» بدل أفكار داروين

النقاش يطال القواعد الأساسية للعلم وحدود العلاقات بين السياسة والقضاء والتعليم والدين

TT

أصدر قاض فيدرالي حكما يقضي باعتبار قرار إدارة مدرسة في ولاية بنسلفانيا الاميركية بتدريس نظرية «التكوين الذكي» للكون بديلا عن نظرية التطور، غير دستوري ويروج لوجهة نظر دينية تستند بالخصوص إلى «نسخة خاصة للمسيحية».

وفي أول قضية يتم فيها تناول الجوانب القانونية في فرض نظرية «التكوين الذكي»، أصدر القاضي جون جونز اول من امس توبيخا لاذعا لأنصار هذه النظرية وقدم دعما كبيرا للعلماء الذين ناضلوا من أجل منع تدريس نظرية «التكوين الذكي» ضمن منهج العلوم في مادة الأحياء التي تدرَّس عادة في الثانويات.

كما شجب القاضي جونز ما قام به أعضاء مجلس إدارة مدرسة دوفر في بنسلفانيا حيث قال إنهم كذبوا وموَّهوا عن دوافعهم الدينية في اتخاذ قرار «بهذه الدرجة من التفاهة» وجرّوا معهم الآخرين إلى «هذه الضجة القانونية التي نجم عنها تضييع للأموال والمصادر الشخصية».

وكان 11 من أولياء تلاميذ مدرسة في مدينة دوفر قد رفعوا دعوى ضد مجلس ادارة المدرسة قبل عام واحد بعد أن صوّت أعضاؤها على أن يقوم المدرِّسون بقراءة إعلان قصير على الطلبة يقدمون فيه لهم نظرية «التكوين الذكي» لتدرَّس ضمن مادة الأحياء.

وجاء في الإعلان القصير الذي قدمه مجلس الإدارة أن هناك «فجوات في نظرية» التطور وأن نظرية «التكوين الذكي» هي تفسير آخر يجب أن يتدارسوه.

واستنتج القاضي جونز، وهو جمهوري عينه الرئيس جورج بوش، أن نظرية «التكوين الذكي» ليست علمية، وان انصارها اعترفوا بأن عليهم تغيير معنى العلم ليمكن ضم تفسير خارق لقوانين الطبيعة. وقال القاضي جونز إن تدريس نظرية «التكوين الذكي» باعتبارها علماً في مدرسة عامة يعد خرقا للتعديل الأول للدستور الاميركي، وهو البند الذي يحظر على المسؤولين الحكوميين استخدام مواقعهم لفرض ديانة محددة.

وتستند نظرية «التكوين الذكي» إلى فكرة أن الحياة البيولوجية معقدة جدا وانها بحاجة إلى تصميم مسبق ذكي. ويقول أنصار النظرية إنهم يتجنبون تحديد مصمم الحياة، ولذلك يمكن أن تكون كائنات من كوكب آخر.

وكانت المحكمة العليا الاميركية قد قررت منذ فترة طويلة عدم امكانية تدريس نظرية الخلق وفق ما جاء في التوراة، كعلم في أي مدرسة عامة اميركية.

ولا ينطبق قرار القاضي جونز إلا على المدارس المحلية في الاقليم الأوسط لبنسلفانيا. ومن غير المتوقع أن يجري تقديم استئناف ضد القرار لأن أعضاء مجلس إدارة المدرسة الذين دعموا نظرية «التكوين الذكي» قد تم إقصاؤهم في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وتم تبديلهم بآخرين يعارضون هذه النظرية وقالوا انهم سيلتزمون بقرار القاضي.

وقال ممثلو الادعاء في مؤتمر صحافي نظم في هاريسبرغ إن قرار القاضي يجب أن يستخدم كرادع لادارات المدارس الأخرى والمدرسين الذين يفكرون في تدريس نظرية «التكوين الذكي». وقال ممثل الادعاء ريتشارد كاتسكي عن قرار القاضي جونز إنه «منطقي وفيه رؤية تفصيلية. سينطبق على أي قضية مماثلة قد تثيرها ادارة مدرسة اخرى».

لكن كبير محامي الدفاع ريتشارد ثومبسون انتقد القاضي لإصداره قرارا شاملا في قضية لا تتضمن إلا «إعلانا لا يزيد طوله عن دقيقة واحدة» تمت قراءته على الطلبة. واعترف أن فريق الدفاع طلب من القاضي أن يحكم على ضوء المزايا العلمية التي تتضمنها نظرية «التكوين الذكي»، لكن ذلك جاء فقط كرد فعل على حجج ممثلي الادعاء. وقال ثومبسون إن «الف وجهة نظر تصدر عن المحكمة ضد نظرية علمية محددة لا يجعلها باطلة. إنه أمر يخص العلماء الذين يستمرون في البحث داخل مختبراتهم وسيقررون أخيرا هذا الأمر».

وقال العلماء الذين طرحوا نظرية «التكوين الذكي» باعتبارها طريقا للبحث العلمي إنهم يشعرون بالخيبة من قرار القاضي جونز لكنهم يرون أن التأثير السلبي للقرار على القضية ضئيل جدا على المدى البعيد. وقال مايكل بيهي بروفسور الكيمياء البيولوجية «إنه أمر مزعج. أعتقد أنه تجاوز حدود ما يمكن للقاضي أن يقوله». وأضاف بيهي: «انه يتحدث حول القواعد الاساسية للعلوم. ما شأن القاضي بالقواعد الاساسية للعلوم؟ اعتقد انه انحاز لطرف وكرر حججاً وأكد الحجج التي سقناها».

ويقول ويليام ديمبسكي، وهو متخصص في مادة الرياضيات ويعتقد انه يمكن بواسطة الرياضيات إثبات تطور الخلق من وجهة النظر الدينية، ان نظرية «التكوين الذكي» ستصبح اكثر قوة خلال فترة 5 الى 10 سنوات مقبلة.

ويعمل كل من بيهي وديمبسكي في معهد ديسكوفري، المعروف بمعارضته لنظرية «التكوين الذكي». وأعرب ديمبسكي عن اعتقاده بأن الدرس الأساسي والمحك الحقيقي هو «العمل بجدية لتطوير هذه النظرية بدلا من محاولة كسب القضية في محكمة» ـ على حد تعبيره، مؤكدا ان العبء الاساسي يقع على العاملين في مجال البحوث. ولقي قرار القاضي جونز ارتياحا وسط العلماء الذين ظلوا يؤكدون عدم وجود خلاف في الدوائر العلمية حول نظرية التطور والارتقاء لداروين. وأعرب عن ارتياحه ايضا استاذ علم الأحياء بجامعة براون كينيث ميلر، الذي شارك في الكثير من الجدل والنقاش في مواجهة أنصار نظرية «التكوين الذكي» وأدلى بإفادته في قضية دوفر. وقال استاذ الرياضيات بجامعة ماديسون بفيرجينيا جيسون روزنهاوس، وهو من الشخصيات المعروفة بتأييدها المتحمس لنظرية الارتقاء والتطور لداروين، انه ضحك عندما قرأ تفاصيل القضية، وأضاف ان القاضي شرح المسألة على نحو افضل من العلماء، مؤكدا ان منطقه جاء خاليا من القصور وتطرق الى كل النقاط التي يتناولها العلماء على مدى سنوات.

وكانت مدينة دوفر، التي تصوت غالبية سكانها للجمهوريين، قد شهدت الشهر الماضي إقصاء ثمانية مجالس إدارة في ثماني مدارس بسبب تأييد اعضائها لاعتماد نظرية «التكوين الذكي» في المدارس، وصوت الناخبون لأعضاء جدد ترشحوا كديمقراطيين. من جانبه أعرب ويتولد والزاك، المدير القانوني لـ«الاتحاد الاميركي للحريات المدنية» ببنسلفانيا، عن امله في ان تتأمل المناطق التعليمية الاخرى التي كانت تفكر في اعتماد نظرية «التكوين الذكي» في مدارس المقاطعة في هذه القضية، وتتأمل ايضا في التفاصيل الواردة في قرار القاضي جونز وأن تنظر ايضا بعين الاعتبار الى ما حدث في دوفر بسبب هذه المعركة التي واجه فيها الجار جاره، على حد تعبيره.

وجاء في قرار القاضي ان اثنين من ابرز مؤيدي اعتماد نظرية «التكوين الذكي» في المدارس، والمنتمين الى واحد من مجالس اولياء التلاميذ، كذبوا في إفاداتهم امام المحكمة حول جمعهم تبرعات من كنيسة لشراء نسخ من كتاب مدرسي حول نظرية الخلق الإلهي. وطبقا للإفادة، فان الرجلين قالا مراراً في اجتماعات مجلس اوليات التلاميذ بالمدرسة انهما عارضا نظرية الارتقاء والتطور لأسباب دينية ويريدان اعتماد تدريس نظرية «التكوين الذكي» بشكل متساو.

وجاء في قرار القاضي جونز: «تكمن المفارقة في ان هذين الشخصين كذبا بشكل مستمر للتغطية وإخفاء السبب الحقيقي للغرض الحقيقي وراء سياسة اعتماد نظرية «التكوين الذكي» رغم تعبيرهما علنا وبفخر عن معتقداتهما الدينية». وفيما لم يرد واحد منهما، قال الآخر، ويليام بكنغهام، إنه أجاب على الاسئلة بالطريقة التي طرحت بها، ووصف قرار القاضي بأنه «مثير للسخرية»، مضيفاً ان دستور الولايات المتحدة لا ينص على فصل الدين عن الدولة. ويرى بكنغهام ان القاضي جونز أعاد تاريخ الحركة المؤيدة لنظرية «التكوين الذكي» الى ما اعتبره جذورا لها في المسيحية.

وجاء في قرار القاضي جونز ان الطبيعة الدينية في نظرية «التكوين الذكي» واضحة تماما لأي شخص يتحلى بالموضوعية طفلا كان او راشدا. ويرى معارضو هذه النظرية ان قرار القاضي جونز لن يضع نهاية للحركة المؤيدة للنظرية ويتوقعون ان تتخذ الحركة عدة أشكال.

وكان مجلس كانساس التعليمي قد تبنى في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي معايير طرحت تساؤلات حول عدة موضوعات من ضمنها نظرية الارتقاء والتطور، إلا ان نظرية «التكوين الذكي» لم تذكر بصورة مباشرة. ويعتقد ان مساعي مجلس اولياء التلاميذ في دوفر لإدخال نظرية «التكوين الذكي» في المنهج المدرسي لن تكون الأخيرة، وربما تحاول مجموعات اخرى الوصول الى نفس الهدف باستخدام وسائل اخرى تخفي من خلالها نواياها الدينية بطريقة اكثر ذكاء.

* خدمة «نيويورك تايمز»