«البلدوزر» الإسرائيلي شق طريقه إلى أعلى المناصب بقوة إصراره وقسوة أعماله

TT

عرف رئيس الوزراء الاسرائيلي، ارييل شارون، بـ«البلدوزر»، لضخامة جسده وثقل وزنه السياسي وقسوة أعماله وقوة إصراره على تحقيق ما يريده بكل ما أوتي من قوة. واستمر باندفاعه حتى في عامه السابع والسبعين حين أسس حزبه «قدما» ليخوض معركة سياسية إسرائيلية جديدة هذا العام. أصبح من أكثر الشخصيات المؤثرة على منطقة الشرق الأوسط منذ منتصف القرن العشرين من خلال عمله العسكري والسياسي ودوره في تجسيد السياسة الاسرائيلية على الصعيدين الداخلي والخارجي. وربما أكثر ما سيتذكره العالم العربي عن شارون هو قسوته ومجازره التي تركت اثرها على أجيال من الفلسطينيين واللبنانيين والمصريين والعرب إجمالا، بينما يتذكره الاسرائيليون لبناء المستوطنات ـ ومن ثم هدمها.

منذ ولادته في قرية «كفار ملال» في فلسطين، سنة 1928، كانت قوة الاصرار والقسوة من أبرز صفات شارون الذي أكمل علومه الثانوية في تل ابيب، حيث التحق بـ«الهاغاناه»، (وهو الاسم العام الذي كانت تعرف به الميليشيا اليهودية إبان حقبة الانتداب البريطاني) عام 1945. وجعلت هذه الصفات شارون يبرز كقائد عسكري شرس يفرض الخوف على أعدائه مثلما فرض الخوف على رفاقه الجنود. والتحق شارون في لواء «اسكندرونة» في تنظيم «هاغاناه»، ليصبح في ما بعد الجيش الاسرائيلي نفسه. واعتبر هذا اللواء بمثابة «الوحدة الخاصة»، التي نفذت عدة مذابح ضد الفلسطينيين من الطنطورة الى اللد والرملة وغيرها. وبسبب دوره في هذه المجازر، أخذ شارون من يومها لقب «بلدوزر» لاستعداده المتحمس لخوض المعارك في الصف الأول، ليصاب في كل حرب شارك فيها. وفي أولى هذه الحروب، كانت حرب تأسيس دولة اسرائيل عام 1948، حيث خدم كقائد فصيلة في لواء «الكسندروني»، ويومذاك أصيب بجروح في معركة السيطرة على منطقة اللطرون (بين القدس المحتلة ويافا). وفي مطلع عام ‎1949، أصبح قائد سرية، ليتعين في عام ‎1951 ضابطا قياديا للاستخبارات في لواء المركز.

وكان للحياة العسكرية الدور الأكبر لإبراز شارون على الساحة السياسية الاسرائيلية ونفوذه المستقبلي فيها. ورغم خلعه البزة العسكرية عام 1952 لدارسة التاريخ وعلوم الشرق في الجامعة العبرية بالقدس، إلا انه عاد الى الحياة العسكرية ومحاربة العرب بقيادته «الوحدة 101» التي أسست من أجل تنفيذ عمليات الرد على عمليات الفدائيين الفلسطينيين. وحسب المصادر الاسرائيلية الرسمية «كان مستوى تنفيذ العمليات التي كان شارون المسؤول عنها عاليا، إلا أن بعضا منها تعرضت لانتقادات شديدة، مثل تلك التي كانت في (قرية) قبية، حيث قتل النساء والأطفال أيضا»، كما جاء في موقع الكنيست الاسرائيلي عام 2004. وتاريخ شارون مليء بالمجازر منتصف القرن العشرين، من مجزرة قرية قبية، جنوب الضفة الغربية، حيث طرد جميع سكان القرية وهدم بيوتهم وقتل 56 منهم، الى مجزرة مشابهة في خان يونس ومعارك المتلة المصرية في سيناء. وكان شارون يتصرف حسبما يشاء، من دون التقيد بقرارات قياداته، مما جعل رئيس أركان الجيش السابق حايم لسكوف يصفه بـ«قائد خطير على الجيش». وفي عام 1956، عين شارون قائدا للواء المظليين حيث قاتل في ما يعرف بـ«عملية كاديش»، ابّان »العدوان الثلاثي« (حرب السويس). وبسبب المعركة في مضيق ميتلا، التي اعتبرها كثيرون غير ضرورية ووقعت فيها خسائر كبيرة، أثار خلافاً شديداً بينه وبين مرؤوسيه من جهة وبين رئيس الأركان العامة موشيه دايان من جهة ثانية. وفي أعقاب هذه الانتقادات غادر في أواخر ‎1957الى بريطانيا، حيث التحق بدورة أركان وقيادة في كلية عسكرية بريطانية، بينما أقدم رئيسا الأركان العامة اللاحقان، لاسكوف وتسفي تسور، على تجميد ترقيه في سلم القيادة بالجيش الإسرائيلي. وبين 1958 و1962 أسندت الى شارون قيادة لواء مشاة ومدرسة سلاح المشاة، كما درس الحقوق في جامعة تل أبيب وتخرج فيها مجازاً عام 1962. ولم يستأنف تقدمه في الجيش الإسرائيلي إلا بعيد تعيين اسحق رابين رئيسا للأركان. وعينه رابين قائدا للواء الشمال وبعد سنتين عينه رئيسا لدائرة الإرشاد في الجيش، وابان شغله هذه الوظيفة حصل على رتبة جنرال. وفي حرب يونيو (حزيران) 1967، شارك قائدا لفرقة دبابات ومدرعات، وطارت له شهرة واسعة في اسرائيل لأدائه في معركتي أم كتف وأبو عويقيلة في شمال سيناء. وكانت قسوته المعروفة من أبرز صفات سلوكه خلال العدوان الثلاثي. وبعد الحرب عاد إلى وظيفته كرئيس دائرة الإرشاد، ومن هذا الموقع نقل قواعد الإرشاد إلى الضفة الغربية. وعام ‎1969عيّن قائدا للواء الجنوب، وابان شغله هذا المنصب عمل على تحصين خط بار ـ ليف، كما لعب دوراً نشطاً في «حرب الاستنزاف»، موجها انتقادات شديدة إلى طريقة عمل رئيس الأركان (آنذاك) حاييم بار ـ ليف. وبعد دخول وقف إطلاق النار على امتداد قناة السويس حيز التنفيذ في اغسطس (آب) ‎1970 وطوال عام ‎1971، نفذ شارون عمليات قمع ومجازر في قطاع غزة، كما أخلى مناطق شمال سيناء من سكانها من البدو. وخلال هذه الفترة، كان شارون أول من بدأ عمليات اغتيال القادة الفلسطينيين كأسلوب منتظم. وكان من شأن تجاوزاته وفظاعاته تعرضه للتأنيب من قبل رئيس أركان الجيش. وأدرك شارون أن فرصة تعيينه رئيساً للأركان العامة ضعيفة، ولذلك اعتزل الخدمة العسكرية في يونيو ‎1973 تأهبا لخوض الانتخابات العامة للكنيست، مرشحا على قائمة حزب الأحرار اليميني. ومع اندلاع حرب 6 اكتوبر (تشرين الأول) 1973، أعيد شارون إلى الخدمة الفعلية كقائد فرقة الدبابات التي عبر عناصرها قناة السويس عند ثغرة الدفرسوار. ومجددا تعرض شارون للتأنيب من القيادة لعصيانه، ولكن التأنيب جاء مصحوبا بتقدير لمؤهلاته بصفة كقائد ومخطط عسكري بارع. وفي ديسمبر (كانون الأول) ‎1973 دخل شارون الكنيست لأول مرة. وبدخوله الكنيست، تحولت مسيرة شارون من العمل العسكري المباشر، الى الحياة السياسية الحافلة بالمناصب والنزاعات. وبين يونيو ‎1975، وحتى مارس (آذار) 1976، عمل شارون مستشارا خاصا لرئيس الحكومة (آنذاك) اسحق رابين، وخلال هذه الفترة أخذ يعد خطة عودته إلى عالم السياسة. واستطاع جمع آراء بعض القوى السياسية اليمينية، فأسس حزبا يمينيا خاصا به باسم «شلومتسيون»، الذي حصل على مقعدين في الانتخابات للكنيست التاسعة. بيد ان هذا الحزب لم يعمر طويلا، بل سرعان ما اندمج في حزب حيروت (الحرية باللغة العربية) أكبر أحزاب تكتل الليكود.

ودخل شارون الحكومة التي شكلها مناحيم بيغن، رئيس الليكود، في يونيو 1977، متوليا حقيبة وزارة الزراعة بجانب رئاسة اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان. وبحكم منصبه هذا حرص على بناء شبكة كثيفة من المستوطنات في عموم أراضي الضفة الغربية المحتلة لخلق «أمر واقع» احتلالي على الأرض يحول دون الانسحاب من الضفة. في هذه الفترة، اعتبر شارون عمليا الراعي الفعلي لحركة «غوش ايمونيم» (كتلة الايمان) الاستيطانية التوراتية المتشددة. ورغم الازدواجية والتناقض في نظرة شارون الى صفقة السلام مع مصر، فإنه أوصى بيغن عندما كان هذا الأخير في كامب ديفيد بالتنازل عن منطقة رفح مقابل سلام.

ومما يذكر انه في ابريل (نيسان) 1982، قاد شارون عملية الإخلاء المعقدة لمنطقة رفح في وجه معارضة «غوش ايمونيم». أما على مستوى العلاقات الثنائية بين الرجلين فإنها تدهورت عندما رفض بيغن تعيينه وزيراً للدفاع بعد استقالة عيزر فايتسمان من المنصب عام 1980.

وبعد انتخابات عام 1980 للكنيست، تحقق لشارون مبتغاه وعيّن وزيرا للدفاع. فكان يرى القوة العسكرية الطريقة الامثل لتحقيق الاهداف السياسية. وفي يناير (كانون الثاني) ‎1982، بلورت رئاسة الأركان العامة للجيش الاسرائيلي بناء على طلب شارون، خطة مهاجمة لبنان لطرد المقاومة الفلسطينية وتفكيك مؤسساتها السياسية فيه. وبالفعل وفي غضون بضعة أشهر وتحت ذريعة «حماية منطقة الجليل»، نفذ الجيش الاسرائيلي ما عرف بـ«عملية أورنيم»، وكان الاجتياح الاسرائيلي. أشرف شارون مباشرة على غزو لبنان، في يونيو 1982، وشارك بفاعلية وعن كثب في كل تفاصيله، بما في ذلك مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في جنوب العاصمة اللبنانية، التي نفذتها عناصر ميليشيا لبنانية مسيحية بتواطؤ كامل من شارون نفسه، كما تبين من نتيجة التحقيق الذي أجرته لجنة تحقيق برلمانية اسرائيلية خاصة.

وفي أعقاب المجزرة التي راح ضحيتها حوالي ألف قتيل فلسطيني، وعقب تقرير «لجنة كاهان»، اضطر شارون إلى الاستقالة من منصبه كوزير للدفاع، لكنه ظل في الحكومة كوزير بلا وزارة. وبعد عامين، وبرغم المعارضة في صفوف حزب العمل، دخل شارون من جديد حكومة الوحدة الوطنية المشكلة عام 1984، وفيها أسندت اليه حقيبة وزارة الصناعة والتجارة. وبقي في هذا المنصب حتى يونيو ‎1990، وسعى طوال هذه الفترة الى تعزيز عملية الاستيطان وتسريعه وتطويق القرى والبلدان الفلسطينية في الضفة الغربية خصوصاً بأحزمة من المستوطنات الاسرائيلية. واثر قرار الحكومة الاسرائيلية يوم 15 مايو (ايار) ‎1989 إجراء انتخابات في المناطق الفلسطينية، قاد شارون المعارضة داخل الليكود وأفشل المبادرة. وفي جلسة صاخبة لقيادة الليكود يوم 12 فبراير (شباط) 1990 استقال من الحكومة. ولكن بعد سقوط الحكومة في تصويت على حجب الثقة يوم 15 مارس من العام نفسه، عيّن وزيرا للاسكان في الحكومة اليمينية التي شكلها اسحق شامير.

هذا المنصب وفر لشارون فرصة ذهبية لتسريع مسلسل قضم الاراضي الفلسطينية وتوسيع عملية بناء المستوطنات وتسريعها. وكان وراء شراء عشرات الألوف من المقطورات السكنية (الكارفانات) للنهوض بورشة البناء التي بررت بالحاجة الى استيعاب عشرات الألوف من المهاجرين الآتين من الاتحاد السوفياتي المنهار ودول أوروبا الشرقية اعتباراً من عام 1989. وداخل حكومة شامير الائتلافية اليمينية، انضم شارون إلى وزراء الاحزاب الصغيرة المتطرفة الثلاثة «هاتحييا»، و«تسوميت»، و«موليديت» في معارضة عقد مؤتمر مدريد للسلام. ورغم معارضة شارون عملية السلام، وبالذات «مفاوضات أوسلو» مع الفلسطينيين، فإنه تحاور مرارا حولها مع رئيس الحكومة رابين. ثم مع انه لم ينافس بنيامين نتنياهو على زعامة الليكود في فبراير 1993 ظل يطمح الى المنافسة على منصب رئاسة الحكومة. وبين 1996 و1999 تنصب وزيرا لحقائب عدة، بينها وزارة الخارجية بين 1998 و1999.

وبعد فشل نتنياهو في الانتخابات لرئاسة الحكومة في مايو 1999، واستقالته من رئاسة الليكود، اختير شارون رئيسا للحزب. وفي 2 سبتمبر (ايلول) انتخب شارون رئيسا لليكود بعدما تغلب على منافسيه، جامعاً أغلبية 53% من أصوات أعضاء الحزب. إلا انه لم يستطع الانضمام الى حكومة وحدة وطنية مع ايهود باراك رئيس الوزراء حينها كما كان يطمح.

وبعدما قام شارون يوم 28 سبتمبر 2000 بزيارة استفزازية الى الحرم القدسي الشريف، حرص على ان تحظى بتغطية إعلامية قوية وسط التحضيرات للحملة الانتخابية وخلالها، أعلن على الملأ إن «لكل يهودي الحق في أن يقوم بزيارة الحرم الشريف». ورغم قرار نتنياهو الرجوع إلى الحياة السياسية، قرر شارون الدفاع عن مكانته السياسية وخوض المنافسة ضد ننتياهو. وبعد قرار الكنيست إجراء انتخابات لمنصب رئاسة الحكومة فقط وصرف نتنياهو النظر عن خوض المنافسة، ظل شارون في الساحة ممثلا الليكود، وتمكن من إلحاق الهزيمة بمرشح حزب العمل عمرام ميتسناع في انتخابات فبراير (شباط) 2001. وكرر فوزه في انتخابات الكنيست الـ16 في 28 يناير 2003، وعرض الحكومة الجديدة امام الكنيست في 27 فبراير 2003. وبعد خمسين عاما من العمل المستمر في الدولة العبرية، أصبح شارون السياسي الأول فيها.

وفي 18 ديسمبر 2003، أعلن شارون «خطة فك الارتباط»، داعيا لإزالة المستوطنات، بعدما كان من مؤسسيها وراعيها. وقال في وقت لاحق ان جميع المستوطنات في غزة وأربع مستوطنات في الضفة الغربية ستزال. وفي 8 فبراير 2005 توصل الى اتفاق مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس على وقف لإطلاق النار. وفي 12 سبتمبر من العام الماضي استكملت اسرائيل سحب قواتها من قطاع غزة على رغم مساعي صهيونيين متشددين، منهم متمردون من داخل حزب الليكود لوقف الاجلاء.

وزادت خطة الانسحاب الاحادي من غزة من الضغوط على شارون حتى أعلن في 21 نوفمبر الماضي، انسلاخه عن حزب الليكود ليؤسس حزبا جديدا سماه «قدما» (إلى الأمام) أكثر ميلا للوسط.

وهكذا، غير شارون شكل الساحة السياسية الاسرائيلية مرة أخرى. إلا ان تدهور صحته بعد شهرين من تأسيس الحزب وإعلانه عزمه على خوض الانتخابات الاسرائيلية المبكرة شهر مارس المقبل، جعلت الوسط السياسي رهنا لإشارته مرة اخرى.