عندما يبكي الشيوخ في غزة قهرا

الحاج أبو خريس شهد تدمير بيته في بئر السبع يافعا وفي خان يونس عجوزا

TT

القى الحاج حسين ابو خريس نظرة على الافق الذي تقطعه الكثبان الرملية المحيطة بالتجمع الاستيطاني المجاور، والتفت الى اكوام الحجارة التي بجواره، ثم اطرق هنيهة في الارض ورفع رأسه فاذا بهذا الشيخ الذي تجاوز الثمانين من العمر يجهش بالبكاء.

فبيت الحاج ابو خريس كان احد البيوت التي ساوتها جرافات الجيش الاسرائيلي بالارض لدى اقتحامها مخيم خان يونس للاجئين يوم الاربعاء الماضي. في مخيلة ابو خريس الذي ترتسم على محياه كل مظاهر العجز تتصارع ذكريات اليمة، فقد كانت هذه المرة الثانية التي يشاهد فيها بام عينيه قوات الاحتلال وهي تهدم بيته.

قبل قرابة ثلاثة وخمسين عاما وعندما كانا شابا يرعى الغنم في منطقة «وادي الشلالة» في بئر السبع عاد حسين ابو خريس في احد الايام الى بيت العائلة الذي كان الوحيد المصنوع من الحجر ليفاجأ بان البيت تحول الى كومة حجارة بعد ان دمره رجال «الهاجناه» اليهود. لم يجد ابو خريس اهله وزوجته الشابة، فعلم انهم سبقوه في رحلة هجرة قسرية الى قطاع غزة.

بالنسبة للحاج حسين يعاد الان انتاج المأساة واخراجها من جديد. فبيت العائلة الذي كان يسكنه عشرة افراد وتبلغ مساحته مائتي متر مربع نصفه مسقوف بالاسبستس والنصف الاخر بالاسمنت المسلح دمره جنود الاحتلال دون ان يعطوه وعائلته الفرصة لكي يخلوا اثاث المنزل.

والحاج وعائلته كما هو الحال مع جميع اصحاب المنازل التي دمرها الاحتلال الاسرائيلي يعيش حاليا في خيمة مساحتها 4 امتار مربعة. وهم لا يزالون في انتظار الشقق التي خصصتها السلطة الفلسطينية للاسر المتضررة، وهي صغيرة المساحة مقارنة بحجم العائلات المنكوبة، اذ لا تتجاوز مساحتها التسعين مترا مربعا.

الحاج حسين ابو اللوز (70 سنة) الذي يستمع باهتمام الى حديث جاره ابو خريس، يندفع فجأه ليقول جازما ان ما تعرضوا له في هجرة عام 1948 كان اقل بكثير مما تعرضوا له يوم الاربعاء الماضي. فحسب الحاج ابو اللوز الذي، مثله مثل سائر سكان الحي، هاجر من منطقة بئر السبع. واتيحت الفرصة في الهجرة الاولى للاسر ان تأخذ متاعها القليل اصلا، اما في هذه المرة، فيقول هذا العجوز انه خرج بملابسه الداخلية ولم يتركوه يأخذ حتى نظارته الطبية فسقط ارضا عشر مرات.

بخلاف الحاجين ابو اللوز وابو خريس، كانت مظاهر المرارة والاسى عند الحاجة كفاية ابو ناموس (72 سنة) اكثر وضوحا. فهذه العجوز التي يعيش معها ابنها وعائلته وبنتها وزوجها بالاضافه الى عشرة من احفادها لا ترى في مصابها اي عزاء، ومن شدة ما تعانيه فإنها لم تتورع عن تعنيف ابنها وصهرها امامنا مطالبة كليهما بالبحث عن حل لنفسيهما. وتصر على ان الشقة التي ستمنحها السلطة ستكون من حقها وحدها، فقد كانت مساحة بيتها الذي دمر تبلغ مائتين وخمسين مترا مربعا. وتتساءل كيف لشقة تبلغ مساحتها تسعين مترا مربعا ان تستوعب خمسة عشر نفرا؟

نزلاء الخيام من الذين دمرت بيوتهم يمكثون فيها في النهار فقط، لكنهم يتركونها في الليل، فجميعهم يسمعون هدير الدبابات الاسرائيلية وهي تقطع الصمت الذي يخيم على المكان في تحركاتها داخل التجمع الاستيطاني المجاور وهم يخشون ان تعاود الكرة. لكن هذه المرة لم يعد هناك ما يمكن تحمل المخاطرة من اجله كما يقول احمد نجل الحاج حسين ابو خريس، لذلك فانه ما ان يحل الليل بظلامه الدامس حتى يهرع سكان الحي الى الاحياء المجاورة للاقامة لدى اقاربهم واصدقائهم.

كل ما حصل عليه سكان الحي من مساعدات مالية كان مبالغ تراوحت بين ثلاثمائة دولار وخمسائة دولار لمرة واحدة دفعتها وكالة الغوث لكل عائلة.

يشيح الحاج حسين ابو خريس بنظره عن كل ما هو امامه، لكنه يرقب باستمرار اثنين من احفاده يعبثان لاهين في اطلال البيوت المهدمة، ثم يعود لينبش التراب بعود في يده.