أقرباء ضحايا مجزرة حديثة يرفضون التعويضات ويلوحون بالثأر.. والقادة يعدون بمحاسبة المسؤولين

«الشرق الاوسط» تزور المدينة السنية وتتحدث مع الناجين من واقعة نوفمبر

TT

الطريق المؤدي الى قضاء حديثة (350 كلم غرب بغداد)، في ما لو تم الغاء الارتال العسكرية ونقاط التفتيش المعلومة والمجهولة والقصص المروعة القادمة من الغرب، طريق ممتع، يتميز بجمال الطبيعة وتصطف الاشجار على جانبيه. وقبل ان تدخل مدينة حديثة السنية عليك ان تتذكر انك لن تدخلها هذه الايام مطلقا ما لم تكن من اهل المدينة الاصليين، هكذا اقتضى الحال، وهكذا قررنا ان نصطحب احد الذين هاجروا منها اخيرا، ليعود معنا من اجل مهمة صحافية ولأجل ان يكون بطاقة دخولنا اليها من دون ان يوجه لنا احدهم نيران بندقيته او حراب اسئلته التي قد تقودنا الى المجهول.

قبل دخولنا ايضا كان علينا المرور ببلدة الحقلانية، التي تحاصرها القوات المتعددة الجنسيات منذ فترة، لكن مرافقنا اوجد لنا طريقا يقل فيه السؤال وتكثر فيه مخاطر اخرى، ان لم يكن ابن المدينة معنا. يقول مرافقنا، وهو يحمل لقبه من اسم المدينة، انكم تشهدون على جمال الطبيعة في الطريق الى حديثة وستشهدونه كذلك داخل ذلك القضاء المشهور بنواعيره وبساتينه الوارفة، والمنطقة التي ستبحثون فيها عن الحقيقة تدعى منطقة السبحاني، وتقع في الجزء الغربي من المدينة التي تتكون من جانبين، أحدهما يقع على الضفة الأخرى من النهر، ويسميهما الحديثيون الشامية والجزيرة. عندما وصلنا الجانب الغربي من قضاء حديثة استقبلنا احد ابناء عمومة مرافقنا، الذي اكد ان كل ابناء قضاء حديثة يعرفون بعضهم بعضا ولا يمكن لاي غريب ان يدخل المدينة من دون ان يؤشر من قبل اهلها وفي هذه الايام لم يكتف ابناء المدينة بتأشير الغرباء، بل انهم يوجهون اسئلتهم اليهم خوفا من ان يكون حاملا للموت معه. يقول مرافقنا ان محامي أسر المدنيين الـ24، الذين قضوا برصاص جنود مشاة البحرية الاميركية (المارينز) في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، هو احد اقارب الضحايا ايضا. وقبل لقائنا المحامي قال لنا احمد هادي، 68 عاما، وهو ممن شهدوا على تلك القضية، ان عبوات ناسفة كانت قد زرعت على جانب الطريق، انفجرت على اثرها سيارة من نوع همفي تابعة للجيش الاميركي، وبما ان المكان الذي يحيط بالطريق المنسوف مكتظ بالبيوت، فقد جاء الجنود الاميركيون ودخلوا المنطقة التي لا تتجاوز مساحتها نصف كيلومتر، ولم ينتظروا حتى يسمعوا من اهالي المنطقة، بل انهم قتلوا حوالي 24 شخصا خلال ساعة واحدة وجميع الضحايا اقرباء وبيوتهم شبه متلاصقة. الشيخ عبد الناصر الحديثي، وهو من وجهاء المنطقة، قال لنا ايضا «ان اصحاب البدلات المرقطة من الجيش الاميركي، هم من دخلوا المنطقة في ذلك اليوم الذي اطلق عليه اهالي المدينة باليوم الاسود». وهنا قاطع الشيخ مرافقنا الذي قال انه ترك المنطقة بعد هذه الاحداث، خصوصا بعد توارد اخبار عن احتمالات بالاعتقال من قبل الجيش الاميركي، وقد سكن مع احد اقاربه في بغداد خوفا من الغدر، كما قال.

محامي الدفاع عن العوائل، التي تعرض ابناؤها للقتل احمد الحديثي قال شارحا احداث ذلك اليوم، انه «في التاسع عشر من شهر نوفمبر 2005 دمرت عجلة اميركية نوع همفي بعبوة ناسفة، وعلى ما يبدو ان من فيها قد قتل في الشارع الذي يؤدي الى الحي العسكري بوسط المدينة، وبما ان المنازل تشرف على الشارع الذي يقع في منخفض، كحال اغلب مناطق المدينة من الجهة الشرقية، فقد طوقت القوات الاميركية مكان الحادث واقتحمت المنازل التي تؤوي معظم اصحابها، لان الوقت مبكر على حركة الشارع، وعلى الفور بدأت بإطلاق النيران داخل المنازل ليحترق ما في هذه المنازل من اثاث ويقتل من فيها ايضا».

شاهد آخر قال وهو يمسح دموعه عندما سألناه عن الحادث، «ان الجنود الاميركيين انتقلوا الى منزل عبد الحميد حسن علي، وقتلوا كلا من صاحب المنزل عبد الحميد حسن علي، 76 عاما، موظف متقاعد، وولده جهيد 44 عاما وهو موظف في شركة «كيه 3» بمدينة حديثة ووليد 40 عاما وهو موظف في مديرية اوقاف الانبار، ورشيد عبد الحميد حسن.

فتاة نجت من الحادث رفض اقاربها ذكر اسمها لاسباب عشائرية، كما يقولون، قالت لنا ايضا ان الجنود «انسحبوا الى منازل اخرى وقتلوا اسماء سلمان نصيف»، شقيقة المحامي الذي يترافع اليوم عن الضحايا ويقول انه سيكتب في هذه القضية الى كل المنظمات الانسانية، ولتجبنا ان كان المدنيون لهم دخل بكل ما يجري على ساحة الحرب. اما حكاية الطفل عبد الله وليد عبد الحميد، الذي يبلغ من العمر ثلاث سنوات فهذه حكاية اخرى، روتها لنا هبة عبد الله زوجة رشيد عبد الحميد، وهي شاهدة عيان على الاحداث، وقالت ان الطفل عبد الله تلقى الرصاصات في صدره وقد غطى دمه اركان المكان الذي هو فيه وقد كان هذا الطفل الجميل مثار اعجاب عائلته واقاربه. اما ايمان فلم تستطع ان تروي لنا كل الحكاية وقد شاهدت قتلة والديها بأم عينيها عندما هاجم جنود المارنيز منزلهم في الصباح الباكر وقتلوا والدها وليد وهو يصلي ووالدتها اسماء وجدها وجدتها واعمامها ومعظم افراد العائلة، لكن ايمان وشقيقها استطاعا النجاة لانهما لم يتحركا من مكانهما، وعلى ما يبدو ظهرا للجنود وكأنهما في عداد الاموات، لكن ايمان لم تذكر ان الجيش الاميركي اخذهما للعلاج في مستشفى ابن سينا وهو ما أكده العديد من الشهود. وقال بعض سكان المدينة ان عددا من الجنود الاميركيين عندما اكتشفوا الجريمة، وبعد فترة من الزمن اخذوا يقدمون اللعب للاطفال في محاولة لتحسين صورتهم. بالقرب من منزل الضحية يونس سالم نصيف، الذي بدا كحطام من ذكريات مؤلمة، وبالقرب قال احد الجيران «ابعدونا عن قضية تخص الجنود الاميركيين نحن لا حمل لنا بهم». لكنه اضاف ان نصيف، 44 عاما كان موظفا في جمارك الحدود، كما قتلت زوجته عائدة واولادهما، محمد سالم تلميذ مدرسة ابتدائية ونوري وسبأ وزينب، وعائشة وهدى شقيقة زوجة صاحب المنزل، اما من نجا من هذه العائلة فيقول عنها الجار الخائف من الجيش الاميركي، انها صفا البالغة من العمر ثلاثة عشر عاما.

ويروي شهود انه في ذلك اليوم ايضا قتل اربعة طلاب جامعيين عندما اوقفتهم دورية اميركية وانزلتهم من السيارة التي كانوا يستقلونها بالقرب من موقع الحادث وقتلوا جميعا مع سائق السيارة الاجرة. مصدر طبي في مستشفى حديثة العام قال، ان «الجيش الاميركي حمل عددا من الجثث وكان بعض الضحايا قد وصلوا، وهم في حالة خطرة وفارقوا الحياة بسبب النزيف، وكان يمكن للجيش الاميركي ان يتركهم ينزفون هناك حتى يموتوا، ولكن ربما استفاق ضمير احد الجنود وذكر الجميع بضرورة نقل الجثث الى المستشفى»، على حد تعبير المصدر الطبي، الذي رفض الكشف عن اسمه. واضاف ان اشخاصا من الجيش الاميركي جاؤوا الى المستشفى وتجولوا في منطقة الحادث، لاجراء تحقيق حول الامر حتى قبل ان تنشره وسائل الاعلام، وبالصورة المركزة هذه الايام، واكد ان الجيش عرض تعويضات على الاهالي المتضررين، ولكن معظمهم رفض تسلم هذه التعويضات.

مصادر عشائرية من داخل المدينة اشارت الى ان الطبيعة العشائرية وصلات القربى بين ابناء المدينة، هي التي جعلت هذه القضية تأخذ بعدا غير الذي قد تأخذه اي قضية اخرى، كون ان مثل هذه المناطق العراقية، ذات الطبيعة العشائرية، لا ترضى مطلقا بمثل هذه الانتهاكات وتعدها انتهاكا للشرف، اضافة الى كونها انتهاكات لحقوق الانسان. وقال احد اساتذة الجامعات العراقية من ابناء المدينة، التي تمتد من الحضارة البابلية، «ان قانون الثأر في هذه المناطق ما زال ساري المفعول وسوف تواجه القوات الاميركية مشاكل كبيرة».

خرجنا من حديثة بنفس الطريق الذي قدمنا منه، من دون ان يلمحنا قناص اميركي او قناص من العامة، والفضل يعود لمرافقنا الحديثي بكسر الحاء ايضا! الجيش الاميركي افادنا عبر المركز الاعلامي المشترك وعلى لسان وليام كولد وول، المتحدث باسم القوات المتعددة الجنسيات بأن «القائد عبر عن عميق تعازيه الى العائلات التي فقدت اعز ما عندها وبكى ضياع ارواح بريئة»، مشيرا الى ان «كل ضياع كهذا هو مأساة غير محتملة». وقال وول «سأكون صريحا، التحالف لم ولن يقبل بأعمال لاأخلاقية او اجرامية. كل ادعاء بخصوص هذه الاعمال سيتم التحرى عنه بالكامل وأي فرد ثبت انه اقترف جرائم ستتم معاقبته».