الخارجون من ركام بنت جبيل.. بعضهم عاش 20 يوما على قطع من الخبز الجاف

الكل يرحلون وعجوز في الثمانين يقول للصحافيين: إنه كابوس

TT

بعد ساعات من تعليق موعود للهجمات الجوية الاسرائيلية، نهض الناجون المدنيون من بعض أكثر جولات القتال شدة في الحرب من ذلك الحطام. كانوا اشخاصا منكمشين وعطشى وجائعين، فقد عاش بعضهم على قطع الحلوى، وآخرون على قطع خبز يابس. وكان بعضهم مصابا بصدمة القصف ووجوههم خالية من التعبير، وهو ما نجم عن عيشهم تحت القصف لمدة 20 يوما. وكان أحدهم عاجزا عن التعبير، بينما كان ينقل على نقالة وراح الذباب يتجمع على عينيه الخاليتين من الحياة واللتين كانتا ما تزالان مفتوحتين.

وخلفهم كانت تتعثر زينب دعيبس، الطاعنة في السن الى حد ان ظهرها توازى مع الأرض. وكانت يداها تتلمسان طريقها على أرض «الباطون» المتشقق. وكان كل مصغ لها يرى كيف كانت تبكي على ولدها أحمد الذي كان ما يزال محاصرا على بعد نصف ميل في سرداب بيت.

وكانت تصرخ «من سيجلبه ؟ من سيريهم اين يكون؟ اللهم استجب لدعائي!» وكانت بنت جبيل تضم ذات يوم 30 ألف شخص، وعرفت في لبنان باعتبارها «عاصمة المقاومة»، وهي سمعة أحرزتها لدورها في قتال «حزب الله» للاحتلال الاسرائيلي الذي انتهى عام 2000. واليوم وبعد ما يقرب من ثلاثة أسابيع من القصف وأيام من المعارك التي ألحقت بالقوات الاسرائيلية أفدح خسائرها في الحرب، فان مركزها تحول الى بانوراما دمار، حيث لم يبق شيء لم يلحق به الضرر.

هياكل السيارات المتفحمة مرمية في حفر عميقة على امتداد بنايات مدمرة. وانقلبت سيارتا اسعاف على جانب الطريق، كما كان حال شاحنة إطفاء محترقة، قريبا من أكوام الركام التي ملأت الأزقة والطرق الضيقة. وباتت مجموعة كبيرة من الرايات بألوان الاحمر والبرتقالي والأخضر التي تدلل على مهرجان التسوق قد انطوت بسبب قذائف المدفعية الاسرائيلية على امتداد شارع انتشرت فيه بقايا المباني المحترقة والصفائح الممزقة والأخشاب والأسلاك وقطع من أضواء السيارات. وكانت أنابيب «النيون» تتدلى من النوافذ مثل الأجراس الجنائزية. وفي بعض الاحياء لا تسمع من الاصوات سوى صرخات القطط.

وسأل علي حكيم، البالغ من العمر 80 عاما، وهو ينهض من الركام الذي كان ذات يوم بيته، حيث كان يلجأ فيه 70 شخصا أثناء القصف الأعنف، سأل قائلا «ما الذي سيعيد هذا ثانية. انه كابوس. لقد انتهى الأمر الى الصفر فعليا. هل بسبب مجموعة معينة من الناس يتعين على اسرائيل ان تدمر كل شخص وكل شيء ؟» وانتشرت أنباء سريعة يوم أول من أمس، تشير الى أنه لن تكون هناك غارات جوية اسرائيلية لمدة 48 ساعة. وبدأ العشرات بالفرار باتجاه الشمال من بنت جبيل وقرى قريبة من الحدود الاسرائيلية، عبر وديان محروقة. ووضع رجل حاجياته على قطعة من كارتون وكان يجرها في الشارع بحبل. وكان اثنان آخران يدفعان امرأة على كرسي للمقعدين على امتداد الطريق المليء بالمنعطفات. وكانت هناك مجموعة تتقدم حاملة أكياسا بلاستيكية وحقائب كبيرة وصغيرة وحقائب رياضية خضراء مليئة بالأدوية الموصوفة. وكان أحدهم يلوح براية بيضاء.

كان علاء داغر متقدما في المسير وهو يحمل أربعة اطفال في عربة يدوية. وتوقفت سيارة اسعاف لتحمل الأطفال سوية مع شقيقته وجدته. ابلغه احد العاملين في الصليب الأحمر اللبناني قائلا «الرجال يستطيعون المشي».

وتقدم المنطقة المحيطة ببنت جبيل، شأن معظم مناطق جنوب لبنان، لحزب الله الكثير من الدعم وإشارات الوصول الى المنظمة كانت ما تزال جلية في الكثير من القرى. وعلى امتداد طريق ريفي كانت هناك شاحنة خضراء بلوحة مخفية بطريقة مموهة. وعلى الطريق من بنت جبيل حمل رجلان سيارة مرسيدس بصناديق خضراء من الذخيرة. وكانت جثة شخص بدا انه مقاتل لم تمس بشيء ممددة في حقل مليء بالعشب. وغطاها موظف اسعاف ببطانية ووضع عليها صخرتين. وكان أفراد «حزب الله» يتنقلون على الدراجات النارية او يتحركون مشيا على الأقدام في الشوارع حاملين معهم اجهزة الاتصال اللاسلكية وفي بعض الأحيان يساعدون في عمليات الاجلاء. وقال علي بزي، أحد الفارين «الكل يرحلون».

وعلى امتداد الشارع كان الآخرون يغلون غضبا. وصرخ أحدهم «عشرون يوما ! ما زال هناك اشخاص مدفونون تحت الأنقاض. انهم هناك حتى الآن. اذهب لتر المعاناة في بنت جبيل، اذهب الى هناك !». وكان يحمل باقة من البقدونس، وقال «الله اكبر من اسرائيل!» كان بزي أهدأ وهو يمشي مع أقاربه. قال «دمِّرت بنت جبيل بالكامل. لا أحد يستطيع العودة. كل القرية تم تدميرها».

كانت سيارة المرسيدس الخضراء المهجورة مؤشرا للمدخل، بنوافذها المهشمة. كانت هناك وراءها عربة شحن حمراء ضرب سقفها بصاروخ. وقلعت أبوابها كاشفة عن ماكنة لقهوة «إسبريسو» وما زال معدنها لامعا.

قال الطبيب فؤاد طه ومدير مستشفى صلاح غندور «نشعر بالذنب لترك الناس لوحدهم. ماذا يمكن للفرد أن يفعله في هذا الوقت؟ فإذا جرح الآن سيظل ينزف حتى الموت».

كان المستشفى معتما والوقود المشغل للمولد الكهربائي قد نفد السبت الماضي. وهناك قطع من السقف متناثرة على الأرض. وطار الباب ليسقط في الرواق. كان طه مرتديا صدرية شخص آخر فصدريته كانت مشبعة بالدم وليس هناك مكان يمكنه أن يغسلها. وقال «القطط الآن تتجول هنا» مشيرا إلى ممر تسرب إليه ضوء الشمس.

كان الدكتور طه آخر طبيب غادر مستشفى بنت جبيل ذات الاثنين وأربعين سريرا مع كادر يتكون من 5 أشخاص. وكان العدد الأصلي يصل إلى 40. وما زالت عشر جثث في المشرحة. وقال إنه قبل يومين ضرب صاروخ الغرفة التي كان نائما فيها ونثر الحجارة فوق فراشه الملقى على الأرض. وقبل دقائق قليلة كان قد ذهب لرؤية صديق دعاه لاحتساء الشاي معه.

والمستشفى مرتبط بجهاز «حزب الله» المعني بنظام المساعدات ويمكن قراءة هذه الكلمات على صندوق أصفر لجمع التبرعات في زاوية من الرواق «المقاومة هي مجدك وفخرك فادعمها». لكن طه لم يكن في مزاج قتالي. وقال «أنا أريد التوثق من أنه لم يُترك أي مدني في بنت جبيل. أنا لدي 48 ساعة، أنا افترض أن اليوم ماشية ولكن غدا أنا سأغادر».

حاولت سيارات الاسعاف التابعة للصليب الأحمر أن تدخل المدينة في الساعة الحادية عشرة صباحا، وفي البداية كانت هناك إشارات قليلة على وجود حياة في الأزقة المدمرة، ثم تدريجيا بدأت الوجوه تبرز كأنها أشبه بالأشباح خارجة من بيوتها.

قال أمين أيوب، 77 سنة، والذي كان يصعد بصعوبة هضبة «هذا هو بيتي».

وأشار إلى بيت من الحجر قال إن عمره 50 عاما. وكان هناك أمام الباب الرئيسي ركام من قطع الحجر المهشمة وهناك مدخل لا يتجاوز ثلاثة أقدام للبيت وبجانبه كانت هناك سيارة تغطيها قطعتان من الاسفلت. قال أيوب وهو يحدق فيها «الله يحميني. الله يعتني بي».

وقاد عمال الصليب الأحمر في الشارع سعيا لإنقاذ كبار السن الذين ما زالوا مختبئين أكثرهم مذعورين من القتال، بحيث ظلوا يلغون فكرة الرحيل.

وأشار إلى مكان آخر «هناك شخص يسكن في ذلك البيت. إنها لوحدها».

وظهر أحد العمال من القبو مع مريم شرارة وهو يحملها بين ذراعيه. كانت في سن الثمانين أو ربما أكبر. كانت عمياء وعطشى بعد 20 يوما من الاختباء، مما جعلها عاجزة عن الحركة. وضعوها لتستند الى جدار فاستلقت على جانبها. سأل العامل أيوب «هل هناك أحد آخر؟» أشار إليه ثم ذهبا أعمق في الزقاق متسلقين كل ركام أثناء بحثهما عن الآخرين.

راحت زينب دعيبس وامرأتان أخريان تصعدان الهضبة. ولم تكن تعرف كم عمرها. وبانحناء جسدها تمكنت من التقدم بمساعدة يديها المملوءتين بالتراب. كانت قصتها شبيهة بقصص الآخرين التي رددوها أول من أمس: البقاء عشرين يوما في الظلمة مع قليل من الطعام والماء الوسخ وفترات الهدوء النادرة للقصف. وقال بعضهم إنهم ذهبوا إلى أكثر من سبعة أقبية سعيا لملاذ آمن. والكثير منهم فقراء جدا أو كبار في السن أو خائفون من محاولة الهرب من المدينة. وقالت «نحن لم نتمكن من الأكل. نحن بقينا بلا أكل لفترة طويلة جدا. نحن بقينا على قيد الحياة على قطعة صغيرة من الخبز اليابس».

شعر أفراد طاقم الصليب الأحمر بالدهشة خلال عمليات البحث واضطروا لترك زينب وراءهم في الشارع. وحتى بعد ان غادروا كانت تتوسل وتطلب المساعدة في العثور على شقيقها الأصغر احمد الذي لا يزال تحت أنقاض المنزل الذي ظلا يقيمان فيه على مدى ثلاثين عاما. وكانت قد تحدثت معه قبل ان تغادر، وأبلغته بأنها ستعود لمساعدته، وقالت انها كانت ستحبو اذا اضطرت لذلك لكنها لم تستطع لأنها كفيفة. وقالت وهي تشير للمنزل انه لا يزال موجود لوحده، وان ليس هناك من يساعده. وبعد قليل خرج عمال إنقاذ وهم يحلمون جثة على نقالة ومالت نحو النقالة وهزت رأسها وقالت انه ليس شقيقها. بمساعدة آخرين. استطاعت زينب الصعود على حطام ما تبقى من مسجد الإمام الحسين. صعدت فوق أكوام كتل من الحطام وأصابها سلك في اصبعها، لكنها لم تتوقف سوى لحظات فقط عندما بدأ اصبعها ينزف. تجاهلت زينب نداءات الحضور لها بعدم الذهاب الى أبعد من ذلك خوفا من السقوط والتعرض لإصابة وقالت: «لا تأخذوني من دون ان تأخذوه... لا اريدكم ان تحملوني قبل ان تحملوه». مر عمال الإنقاذ وهم يحملون نقالة اخرى، وطلبت منهم ان يتوقفوا لكي ترى الشخص الذي يحملونه، لكنها قالت مرة اخرى ان الشخص الذي على النقالة ليس شقيقها أحمد. ظهر بعد ذلك عدد من الناجين من بينهم مهدي الحكيم وزوجته سميحة بعد ان بقوا مختبئين لمدة 18 يوما. قال الحكيم ان هذه هي المرة الاولى التي يرى فيها الشمس، وأضاف انه لم يكن بوسعه المغادرة «والحرب دائرة حولنا»، على حد قوله. وفي أزقة بنت جبيل كان الناس يحملون كبار السن والضعفاء على أكتافهم او يحملونهم كما الأطفال. ساعد ناشطو «حزب الله» في إنقاذ مريم صغير، 80 عاما، وكانوا يحملونها على سلم بات يستخدم كنقالة، الى ان احضر واحد من عمال الإنقاذ نقالة برتقالية اللون حملوها عليها، وهي تضع رأسها فوق كيسين فيهما متعلقاتها. سألت زينب عمال الإغاثة عما اذا كانت المسافة ستطول، وطلبت منهما ان يتركوها في مكانها. تجمع حوالي 12 آخرين من الناجين على طول رصيف الشارع، وقد بدا عليهم الإنهاك الشديد. بعضهم كان يتوسل المساعدة، اما الأطفال فلم يكن على وجوههم تعبير بكاء او ابتسامة، ومن الواضح انهم كانوا في حالة صدمة.

*خدمة «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)