250 مريضا لبنانيا يعانون التوتر ونقص الأدوية والأطعمة

مأساة مصحة «الفنار» للأمراض العقلية بعد القصف الإسرائيلي

TT

هرب الأطباء في مصحة الفنار للاضطرابات العقلية من القصف الإسرائيلي، وسيطر المرضى على المستشفى التي يعيش فيها 250 مريضا وسط هذه الحرب. فقد صمتت شبكة الهاتف بعد تعرضها للقصف. ولم يعد في امكان اسر المرضى زيارتهم. ومخزون الطعام يقل. وطاقم التمريض اصبح محدودا والعقاقير الطبية التي تتيح تماسك هؤلاء المرضى انتهت.

وخلال الليل تتردد اصوات النفاثات الاسرائيلية عبر النجوم وتسقط الصواريخ على التلال القريبة لهذه القرية الواقعة شمال غربي النبطية. ويزداد صريخ المرضى ويختبئون تحت الاسرة، ويعدون بطريقة مجنونة في انحاء المستشفى. ويزدحمون في الاركان. ويقول منير جمال الدين وهو مريض في الستين من عمره يرتدي ملابس ذات حجم اكبر ويسير بالقرب من المدخل الرئيسي بعصبية شديدة «امر صعب كما تعلم؟ يمكنك الشعور بالضغط. المكان يهتز ولا يمكننا القيام بأي شيء». وتبدو المنطقة الواقعة خلف المستشفى، مخيفة وخالية. ابواب المتاجر مغلقة. عدد محدود من الرجال لديهم علاقة بحزب الله يسيرون في الشوارع. وبحلول المساء، بدأت اصوات الانفجارات تتردد من جديد عبر الوادي.

الا انه يبدو ان ليلى هاشم لا تشعر بما يجري. فهي تجلس على الارض بملابس النوم وتغني اغاني حب عربية. وهي امرأة شاحبة ممتلئة القوام وتنظر حولها بعدم صبر. وكانت تغني «اقم لي حفلة هذه الليلة. سأحبك»، ثم بدأ صوتها في الارتعاش.

وتقفز امرأة ضخمة الجثة ذات شعر اسود على سرير وترفع يديها في الهواء مثل بنات المدارس. وتغني «الفيس بريسلي الفيس بريسلي»، والغرفة مزدحمة بالنساء يجلسن على المراتب. ويلعبن بشعورهن ويحلقن في الحوائط ويضحكن. امرأة تعبر عن احزانها. واخرى تغني let us twist again وفي مصحة الفنار كان اليأس جليا. فقد رسموا صليبا احمر هائلا على السقف آملين بحماية أنفسهم من الطائرات الحربية. ولكن خلف ذلك الدرع الواقي البسيط يحتاج المرضى الى العلاجات. ويقوم ثلاثة من الممرضين المذعورين بفحص كميات الأدوية. وفي مسعى لجعل الأدوية تستمر فترة اطول قليلا، كانوا يقسمون كل حبة الى نصفين. وكان كل شخص يحصل على ما هو أقل من الضروري. وقد بدأت المعارك بالاندلاع بين النزلاء الذين لا يتلقون علاجا كافيا.

ويقول الممرض حسام مصطفى، 26 عاما، ان «هذا كل ما لدينا من ادوية»، وهو يظهر صينية فيها مجموعة صغيرة من الحبوب المقسمة الى النصف مرتبة في أكواب ورقية. واضاف انه «بدون هذه الأدوية سيفقدون كل شيء».

ويعترف مصطفى، الذي احاله القصف الضاري وصراعه من اجل استمرار عمل المستشفى، الى شبه مجنون، بأنه بدأ يمد يده بحثا عن الأدوية التي راحت تشح وبينها الحبوب المضادة للكآبة والمنومة.

وكان الممرضون يتحدثون الى الصليب الأحمر بالهاتف موضحين حاجاتهم وطالبين المساعدة. وقالوا ان الصليب الأحمر وعد بإرسال الأدوية. ولكن لم يصل شيء. وحذر الممرضون من ان النزلاء يقتربون من الحاق الضرر بأنفسهم وبآخرين.

ويقول رئيس الممرضين يوسف زارورا «ستكون هناك كارثة. لا أستطيع البدء بوصف الوضع بعد 48 ساعة من الآن».

وفي غرفة طويلة فيها مناضد خشبية لتناول الطعام وجهاز تلفزيون يجلس الرجال في دوائر قلقة. وكانت هناك قضبان معدنية في النافذة الكبيرة التي تطل على المدخل كما لو أن الرجال في قفص. وهم يضغطون بفضول على النافذة ليحدقوا بالزوار المجهولين. وتنتشر الأمزجة المختلفة في الغرفة. وفي بعض الأحيان يصرخ الجميع، وفي أحيان أخرى يصمتون.

وسأل رجل اسمه محمد علي حمود بقلق «لماذا انت هنا؟ اذهبي الى بلدك».

والى جانب حمود كان رجل يضع نظارات سميكة وقبعة بيسبول يقول انه لم ير طبيبه منذ سنة. ويوضح بحزن ان ذلك يعني أنه لم يره منذ ان اندلع القتال مع اسرائيل، وهو القتال الذي اندلع قبل ثلاثة اسابيع. ولا يبدو ان لديه أي احساس بالزمن. وعلى الأغلب يتمنى ان الناس المحيطين به هنا يبدأون بمناداته بالاسم الصحيح.. وقال بألم وانزعاج انهم يخطئون دائما.

ويقول فيصل يونس راشد، الذي تظهر على اسنانه آثار التبغ، انه يغير اسمه وشخصيته كل فترة، إلا ان الناس عادة ينادونه بفيصل، لكنه يقول انه يريدهم ان ينادونه بيونس. ويقول ايضا انهم يعانون من نقص في الأدوية. كان يقف الى جانب واحدة من النوافذ ذات القضبان الحديدية مريض يدعى موائم بيرو قضى في هذه المصحة 27 عاما من عمره، 44 سنة. ويقول موائم ان صحته مستقرة بسبب وجود الدواء، إلا ان المشكلة ان الدواء لم يعد متوفرا الآن كما يقول ويخشى ان يصبح سلوكه عدوانيا. وبدا ملائم هادئا فيما كان آخرون يثرثرون حوله. وقال بعد دقائق انه يحس بالتعب ويشعر ان هناك شيئا داخل رأسه. عقب مغادرة العاملين بدأ النزلاء يباشرون بعض الأعمال مثل تقديم الطعام وتنظيف الغرف ومساعدة بعض زملائهم على الاستحمام وتولوا ايضا مسؤولية الأمن عند البوابة الرئيسية. كان اسامة صبرا يجلس على كرسي بلاستيكي الى جانب البوابة، وكان في يده خيط يمكن من خلاله إنزال ورفع البوابة للسماح بمرور السيارات. المدينة القريبة باتت خاوية وكان صبرا ينظر الى سيارة متجهة الى البوابة وكان ينطلق من راديو وضعه على الارض صوت أناشيد عسكرية لـ«حزب الله». يعاني صبرا من انفصام في الشخصية، لكنه شأن كثيرين في المصحة يصر على انه نزيل في المصحة بسبب «مشاكل عائلية»، ويقول انه ظل نزيل هذه المصحة منذ ما قبل 1982. كان يتحدث صبرا وهو ينظر الى الذباب حول قدميه. قال صبرا انه مسؤول عن البوابة ولكن بسبب الحرب ليس هناك زوار. ويقول النزلاء بصورة عامة انهم يشعرون بأنهم في مأزق وتحدثوا بغضب عن الجوع ونقص الأغذية وسارعوا بإعطاء الزوار أرقام هواتف طالبين منهم المساعدة في الوصول الى بعض اعضاء الاسرة المفقودين كي يستأنفوا الاتصال بهم. وطلب واحد من النزلاء عرف نفسه فقط باسم فواز، 53 سنة، ان يساعده احد بالاتصال بوالدته كي تخرجه من هذا المكان، وبعد دقائق عاد واتكأ على حافة النافذة وبدأ يتحدث بإلحاح ولكن بهدوء، وسأل: «هل يمكن ان ترسلوا لي الصليب الاحمر كي يخرجني من هذا المكان؟». وفي المنزل الحجري بالقرب من البوابة جلست الأرملة الفلسطينية التي ورثت المستشفى من زوجها أمام جهاز تلفزيون. وتصر عديلة دجاني اللبان انها ليست خائفة من اسرائيل. فقد شاهدت جنودا اسرائيليين يمرون بالمستشفى من قبل خلال غزو عام 1982، وقالت معلقة: «دعوهم يأتون... سأطلق سراح النزلاء».

* خدمة «لوس انجليس تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»