«الإسلام وتهذيب الحروب» (6) - الجماعة الإسلامية المصرية: الحرب في الإسلام ليست ثأرية أو انتقامية

الإسلام حرم استهداف المدنيين وفتوى بن لادن تسببت في قتل عشرات الأبرياء

TT

أكدت الجماعة الإسلامية المصرية ان الإسلام حرم استهداف المدنيين من غير أهل المقاتلة والممانعة في الحروب، واكدت في كتابها الجديد «الإسلام وتهذيب الحروب» الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشره أن الحرب في الإسلام ليست ثأرية أو انتقامية تهدف إلى إفناء الخصم عن بكرة أبيه.

وقالت الجماعة الإسلامية المصرية في كتابها الذي يأتي في إطار سلسلة تصحيح المفاهيم التي أطلقتها الجماعة بعد مبادرتها لوقف العنف التي اطلقتها عام 1997 إنه ترددت منذ سنوات بعض الفتاوى المنسوبة لبعض العاملين للإسلام تنطوي على إباحة قتل المدنيين لجنسيات معينة أو إباحة قتل النساء والأطفال والسياح. ولعل أشهر تلك الفتاوى، الفتوى الصادرة عن الجبهة العالمية لمحاربة الصليبيين واليهود بقيادة أسامة بن لادن في سنة 1998 والداعية إلى قتل الاميركيين سواء من العسكريين أو المدنيين في أي مكان في العالم، ولا تقل عن هذه الفتوى شهرة وخطورة تلك التي جاءت لإسباغ الشرعية على ما قررته ونفذته الجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر من قتل النساء والأطفال، بالإضافة إلى ما أثارته عمليات قتل السياح من قضايا وأحكام.

وأكدت الجماعة الإسلامية المصرية في كتابها الجديد «الإسلام وتهذيب الحروب» الذي كتبه عصام الدين دربالة أحد القيادات التاريخية للجماعة الإسلامية، والمحكوم عليه بالسجن المؤبد في قضية اغتيال السادات أن الإسلام نظر إلى الحروب نظرة واقعية فاعترف بوجودها ولم يحاول إنكارها ولم يعارض دواعيها؛ لأنه يعلم أن طبيعة البشر وسنة الاجتماع الإنساني كثيرًا ما تفضيان إلى التنازع والبغي، والتنكر للحق والاعتداء على الحريات والفتنة في الدين، وما دام هي كذلك فمن الواجب أن يصبغ الإسلام هذه الحروف بصبغته المتميزة التي تتجاوب مع مقتضيات الواقع وتطلعات الفطر الإنسانية لدفع الظلم ورد العدوان، وفي نفس الوقت تضبط إيقاع هذه الحروب بما يجعلها ممزوجة بقيمه الأصيلة النبيلة: العدل والتسامح والرحمة. وأضافت الجماعة الإسلامية أنه تتجلى روعة هذا النموذج الإسلامي في أخطر قضايا الحروب أعني قضية من يستهدف بالقتل أثناء اشتعال الحروب، ففي ظل الوحشية التي كانت علمًا على الحروب بين الأمم من قبله قدم الإسلام تصوره للحرب كيف تكون، ومن يقتل فيها ومن لا يقتل، ورفض الإسلام اتباع الخطة البربرية التي كانت تقضي بقتل الأطفال كحال بعض الفراعنة ممن قص القرآن الكريم قول أحدهم: (...قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)، كما رفض الإسلام أن تكون سياسته في الحروب سياسة تتارية تدمر اليابس والأخضر وتفخر بإراقة دماء أكبر عدد ممكن من البشر، مؤكدة أن الإسلام هذب الحروب تهذيبًا جميلاً وظهر ذلك جليًا في رؤيته المنظمة لحركة جيوشه والضابطة لتصرفات جنوده في إطار فلسفة راقية وحكمة بليغة.

وقالت الجماعة الإسلامية المصرية إنه عندما يأتي النهي القاطع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه عن استهداف النساء والولدان والشيوخ والرهبان والفلاحين نعلم عندئذ الموقف الحقيقي للإسلام من استهداف المدنيين بالتعبير المعاصر، وإذا تأملنا في هذه الأصناف: النساء، الولدان، الشيوخ، المعتوهين، الفلاحين، الرهبان، العبيد والوصفاء لأدركنا أن هؤلاء في مجموعهم يمثلون من لا ينتصبون للقتال ولا يشاركون في وقائعه، وهل تعبير «المدنيين» اليوم له دلالة أخرى غير هذا؟ ومن هنا جاء قول جل الفقهاء على حرمة قتل من لم يكن من أهل المقاتلة والممانعة أو المدنيين بالاصطلاح المعاصر.

وهذا النهي عن استهداف المدنيين من غير أهل المقاتلة والممانعة، كما تقول الجماعة الإسلامية المصرية، لم يأت نتيجة اختيار فقهي أو ترجيح مصلحي إنما جاء النص على المنع من استهداف أغلب هذه الأصناف ببيان نبوي ووحي إلهي مما يرفع درجة هذا النهي في نفس كل مؤمن ومؤمنة إلى أعلى درجات الحذر من مخالفته.

وتشير الجماعة الإسلامية المصرية إلى أن هناك عددا كبيرا من النصوص التي تنص على حرمة قتل المدنيين مثل قول ابن عمر رضي الله عنه: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله، فنهى رسول الله عن قتل النساء والصبيان». وعن رباح بن الربيع قال: «كنا مع رسول الله في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلاً فقال: انظر علام اجتمع هؤلاء؟ فقال: على امرأة قتيل. فقال: ما كانت هذه لتقاتل. قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد قال: فبعث رجلاً فقال: قل لخالد: لا يقتلن امرأة ولا عسيفًا»، وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشًا قال: «انطلقـوا باسم الله لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلاً صغيرًا ولا امرأة ولا تغلوا وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين»، وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال: «لا تقتلوا أصحاب الصوامع»، وأوصى أبوبكر الصديق رضي الله عنه يزيد حين وجهه إلى الشام قائدًا لجيوش المسلمين فقال: «لا تقتل صبيًا ولا امرأة ولا هرمًا»، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم في الحرب».

وأضافت الجماعة الإسلامية أنه اتفقت كلمة علماء الأمة واجتمعت على عدم جواز استهداف بعض أصناف المدنيين بالقتل ويحددون ذلك بالمنع من قتل النساء والأطفال، أما باقي أصناف المدنيين فقد ذهب الجمهور إلى عدم جواز استهدافهم؛ أخذًا بدلالات هذه الأحاديث والأقوال والقياس عليها فيما كان في معناها من أصناف من ناحية، ولترجيحهم أن العلة التي تبيح القتل في الحروب هي الانتصاب للقتال ضد جيش المسلمين لا مجرد وصف الكفر الذي يقوم بالكفار رجالاً ونساءً. أما بعض فقهاء المذهب الشافعي خاصة فقد اقتصروا على عدم جواز استهداف النساء والأطفال بالقتل للأحاديث الواردة وانطلاقًا من أن العلة الموجبة للقتل هي الكفر، ويذكر الإمام ابن رشد : «والسبب الموجب بالجملة لاختلافهم: اختلافهم في العلة الموجبة للقتل، فمن زعم أن العلة الموجبة لذلك هي الكفر؛ لم يستثن أحدًا من المشركين، ومن زعم أن العلة في ذلك هي إطلاقة القتال للنهي عن قتل النساء مع أنهن كافرات استثنى من لم يطلق القتال ومن لم ينصب نفسه إليه، كالفلاح والعسيف، واختلفوا في أهل الصوامع المنتزعين عن الناس، والعميان، والشيوخ الذين لا يقاتلون، والمعتوه، والحراث، والعسيف، فقال مالك: لا يقتل أعمى ولا المعتوه وأصحاب الصوامع، ويترك لهم من أموالهم بقدر ما يعيشون به، وكذلك لا يقتل الشيخ الفاني عنده، وبه قال أبوحنيفة وأصحابه. وقال النووي والأوزاعي: لا تقتل الشيوخ فقط. وقال الأوزاعي: لا تقتل الحراث، وقال الشافعي في الأصح عنه: تقتل جميع هذه...»، ولكن يجب الانتباه إلى أن هناك من الشافعية من يخالف الإمام الشافعي في هذه المسألة ويوافق قول الجمهور.

وتلفت الجماعة الإسلامية إلى أن هناك فارقًا بين السبب المبيح لقتال فئة معينة والذي يتوقف على وجوده إباحة الجهاد، والعلة التي تحدد من يجوز قتله من هذه الفئة أثناء اشتعال القتال معها، ولتوضيح ذلك نقول: إن الشرك سبب لإباحة قتال المشركين أما من يقصده جيش المسلمين بالقتل من هؤلاء المشركين المحاربين منهم أو المدنيين عند التحام القتال فيتوقف على توفر علة أخرى هي الانتصاب للقتال عند جمهور العلماء، والكفر عند بعض فقهاء المذهب الشافعي.

وتذكر الجماعة الإسلامية أقوال العلماء في الموقف من قتل أصناف المدنيين بأنه اتفق العلماء على أن هناك أصنافًا من أهل الحرب من الكفار مستثناة من جواز القتل أثناء القتال وهي: النساء والأطفال والمجنون والمعتوه والخنثى المشكل، كما ذهب جل العلماء من الحنابلة والحنفية والمالكية وهو أحد القولين عند الشافعية إلى عدم جواز قتل الأصناف الآتية أثناء القتال: الشيخ الفان، والأعمى، والأجير، والراهب، وفي القول الأظهر عند الشافعية يجوز قتل الأجير والراهب والشيخ والأعمى والفلاحين، كما لا يجوز قتل الفلاحين عند الحنابلة والأوزاعي، أما الصناع فلا يجوز قتلهم عند ابن القاسم وعبدالملك من المالكية وأجازه سحنون المالكي، وكل الأصناف السابقة إذا ما قاتلت حقيقة أو معنى فيجوز قتلها باتفاق العلماء، والسبب في الاختلاف بين جل العلماء والشافعية مداره على تحديد علة قتل المشركين هل هي الكفر والشرك أم قيامهم للقتال. فذهبت الشافعية في الأظهر عندهم أن العلة هي الكفر، أما جل العلماء فاعتبروا أن العلة هي الانتصاب للقتال. والمتأمل في حجج الفريقين يجد أن قول جل العلماء الذي يجعل الانتصاب للقتال هو العلة الراجحة وذلك للآتي:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل علة المنع من قتل المرأة هي عدم قتالها وقال: ما بال هذه قتلت وهي لا تقاتل. وهذا نص في محل النزاع لأن وصف الكفر قائم بها ومع ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها، كما أن النهي الوارد في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الشيوخ والرهبان وإن طعن في صحة بعضها لكنها تتأيد بما روى عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في هذا الخصوص، وهذا النهي مع قيام وصف الكفر في هذه الأصناف يبين أن العلة الجامعة لمنع قتلهم هي عدم الانتصاب للقتال لا مجرد الكفر، كما إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب جعل علة المنع من قتلهم عدم انتصابهم للقتال، وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنه لقوله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ)، قال: «ولا تعتدوا» لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير. والعلة هنا هي عدم القدرة على القتال وعدم الانتصاب له.

وتضيف الجماعة الإسلامية أن أخذ الجزية سواء من أهل الكتاب أو من غيرهم عند من أجاز ذلك يدل على أن الكفر ليس هو علة القتال لكن المقاتلة والانتصاب لها أو القعود عنها عليه مدار الحكم خاصة أن الجزية لا تؤخذ من امرأة ولا صبي ولا مجنون ولا فقير غير قادر على أدائها ولا شيخ فان ولا أعمى ولا راهب وهي ذات الأصناف الممنوع قتلها حال الحرب. ومما يستدل به أيضًا وله نفس الدلالة السابقة ما يعتقد من صلح بين أهل الإسلام والكفار مما يدل على أن القتل إنما علته الانتصاب للقتال ولذلك لا يصح قتل أهل الصلح من الكفار رغم قيام وصف الكفر بهم، كما أن اعتبار الانتصاب للقتال هو العلة المبيحة لقتال المشركين والكفار يتمشى مع مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا كان اصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين. وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة، كالنساء والصبيان، والراهب، والشيخ الكبير، والأعمى، ونحوهم، فلا يقتل عند جمهور العلماء، إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر، إلا النساء والصبيان؛ لكونهم مالاً للمسلمين. والأول هو الصواب؛ لأن القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أردنا إظهار دين الله، كما قال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ)، وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم: أنه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه، قد وقف عليها الناس. فقال: «ما كانت هذه لتقاتل»، وقال لأحدهم: «الحق خالدًا فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا». وفيها ـ أيضًا ـ أنه كان يقول «لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأة». وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعال: (...وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْل...) أي: أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه؛ ولهذا قال الفقهاء: إن الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة، يعاقب بما لا يعاقب به الساكت. وجاء في الحديث «إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا ظهرت فلم تنكر ضرت العامة. ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار، ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم، بل إذا أسر الرجل منهم في القتال، أو غير القتال، مثل أن تلقيه السفينة إلينا، أو يضل الطريق، أو يؤخذ بحيلة، فإنه يفعل فيه الإمام الأصلح من قتله، أو استعباده، أو المن عليه، أو مفاداته بمال أو نفس عند أكثر الفقهاء، كما دل عليه الكتاب والسنة، وإن كان من الفقهاء من يرى المن عليه ومفاداته منسوخة». كما إن تخيير الإمام المسلم بالنسبة للأسير الكافر بين القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق يدل على أن علة القتل ليست هي الكفر إنما هو الانتصاب للقتال أو القعود عنه، والأسير كان مباح الدم قبل أسره وقبل قعوده عن القتال أما بعد أسره وقعوده عن القتال أصبح الإمام مخيرًا في شأنه.

واشارت الجماعة الإسلامية إلى ان الأدلة التي يحتج بها من يرى أن علة القتال هي الكفر فتدور حول الاستدلال بعموم بعض الآيات كقوله تعالى: (...فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ...) ومن الواضح أن هذا العموم قد خصصته أحاديث النهي عن قتل النساء والأطفال ومن في معناهم مما يجعل الاحتجاج بهذه العمومات لا يصح، وإذا ما انتهينا إلى ترجيح قول جمهور العلماء فهذا يعني أنه لا يصح استهداف النساء والأطفال والشيوخ والرهبان ومن في معناهم بالقتل عند استعار القتال طالما لم يقاتلوا حقيقة أو معنى، وهؤلاء يمثلون في الحقيقة جل المدنيين، فإذا كان الشرع يمنع قتل هؤلاء حال اشتعال الحرب فهل يتصور جواز ذلك في حال عدم اشتعالها؟! وهل يجوز القول بقتلهم في أي مكان في العالم لكفرهم وقد علمنا أن العلة الصحيحة التي تبيح قتلهم أثناء القتال هي الانتصاب للقتال لا الكفر، ذلك هو الموقف الرحيم المتوازن من المدنيين الذي ترجمته تلك الأحكام الشرعية بوضوح وجلاء.

وأبرزت الجماعة الإسلامية ملامح الرؤية التهذيبية للحروب التي قدمها الإسلام للبشرية ذلك التفريق بين من يحارب ويقاتل ومن لا ينتصب للقتال أو يقاوم أو بعبارة أخرى التمييز بين المحاربين له والمدنيين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في قتال جيوشه وكان هذا التمييز يعني أمورًا كثيرة: فهو يعني أن الحرب في الإسلام ليست ثأرية أو انتقامية تهدف إلى إفناء الخصم عن بكرة أبيه، ويعني أيضًا أن الإسلام يحترم النفس البشرية ويصونها ولا يستبيح إزهاقها إلا بقدر ما يحتاج إليه في صلاح الخلق ورد العدوان ودحر الظلم على حد تعبير شيخ الإسلام ابن تيمية «فمن قاتل واعتدى يقاتل من دون أن يعتدي على غيره ممن لم يقاتل» وذلك ترجمة بقوله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ)، ويحمل هذا التمييز بين المحاربين والمدنيين في الاستهداف بالقتل حكمة جليلة وينطلق من فلسفة عميقة تحرص على احترام النفس الإنسانية التي جاء الإسلام لإصلاحها فكيف يتوسع في إزهاقها وهو يريد صلاحها؛ ولذا كان منطقيًا ألا يأمر الإسلام بقتل من لم يقاتل جيوشه؛ لأن هذه الجيوش ما انطلقت إلا لصالح هؤلاء جميعًا فإن أبى البعض منهم إلا مقاتلته والاعتداء عليه فقد اختاروا بذلك الموقف منهم، أما من لم ينتصب منهم للقتال فهذا له شأن آخر وله معاملة لها منطق آخر، فهؤلاء الذين لم ينتصبوا للقتال لا يسعى الإسلام لاستئصالهم كما لا يسعى لإجبارهم على اعتناق عقيدته والتخلي عن دينهم إنما يريد أن يعطيهم فرصة لمراجعة مواقفهم فربما يدخل الإسلام قلوبهم طواعية، ولربما يمس شغاف قلوب هؤلاء هذا الموقف العادل معهم، الرحيم بهم، ولا يختلف اثنان على أن الحكم بعدم استهدافهم يمنع توحدهم توحدًا كاملاً مع المقاتلين من قومهم مما يجعلهم أخف ضراوة في تقبل حكم الإسلام إذا كان النصر حليفه، وبالإضافة لذلك فإن ترك قتلهم بيان لعدل الإسلام ورحمته فلا يشغب عليه مشاغب ويلصق به ما يصد عنه بوصمه بالقسوة والإفساد رغم أن الإسلام جاء لقطع مادة الفساد في الأرض ونثر بذور الإصلاح، وما أجمل قول الإمام ابن قدامة المقدسي: «وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النحلة ونهى أن يقتل شيء من الدواب صبرًا ولأنه فساد فيدخل في عموم قوله تعالى (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)، فإذا كان الإسلام يعد قتل النحلة فسادًا فهل يتصور منه قتل النحال ومن كان في معناه ممن لم يقاتل؟!».

وحول قول البعض إن هذا المنع قد يؤدي إلى دخول المدنيين هؤلاء في قتال المسلمين بما يوقع الضرر عليهم من دون أن يتمكن المسلمون من دفع ضررهم هذا. ترد الجماعة الإسلامية المصرية بقولها إن الإسلام في التعامل مع مثل هذا الاحتمال كان واقعيًا غير مغرق في المثالية النظرية؛ ولهذا نجد أن إباحة قتل هذه الأصناف إذا ما شاركت في القتال أمر محل إجماع بين العلماء ولنستمع إلى الإمام الكاساني الحنفي حين يقول: «والأصل أن كل من كان من أهل القتال يحل قتله سواء قاتل أم لم يقاتل وكل من لم يكن من أهل القتال لا يحل قتله إلا إذا قاتل حقيقة أو معنى بالرأي والطاعة والتحريض وأشباه ذلك».