نساء العراق يفتقدن المتع البسيطة التي تمنح الحياة معناها

نسين الأرقام والتواريخ ويعانقن أطفالهن أقل.. ويصرخن في وجوه أزواجهن

TT

الأشياء التي تفتقدها النساء العراقيات هي منذ الصغر تقريبا بحيث لا يمكن ملاحظتها للوهلة الأولى. وبدأت الارقام والتواريخ تتملص من ذاكراتهن. وصرن يعانقن أطفالهن بصورة أقل. وباتت متع الماضي والأكل والإصغاء الى الموسيقى تبتعد، ورحن يصرخن بوجه أزواجهن مثل قادة الجيش.

ربما بدت هذه الأمور الحياتية صغيرة، ولكنها من آثار الحرب التي نوقشت من جانب أربع نساء عراقيات في ظهيرة سبت غائم في مركز النساء ببغداد. وبدأت قصصهن بموضوع مألوف: انكماش حياة عوائل الطبقة الوسطى في العاصمة؛ فقد أفرغت النوادي الاجتماعية، ونادرا ما يجري حضور حفلات الزفاف. واذ تصبح الدائرة أضيق ويتجه تركيزهن الى مجرد البقاء على قيد الحياة، كما قلن، فانه حتى الأساسيات تغيب عن حياتهن.

وتقول فوزية عبد العطية، السوسيولوجية والأستاذة في جامعة بغداد، إن «جميع عناصر المجتمع تفككت. فأنت خائفة لأنك امرأة أو رجل أو سني او شيعي أو كردي. وكل هذه الأشياء بدأت تغير المجتمع».

وفي غرفة بجمعية أمل للنساء، كانت فيها بقايا لقاء صباحي؛ نصف قطعة من الكيك، وقشور برتقال، وبعض المناديل الورقية المطوية، تحدثت النساء عن تغييرات فرضها ذلك الخوف على حياتهن. وروت احدى النساء، وهي موظفة رفيعة في وزارة عراقية يديرها الآن الشيعة، كيف انها كانت تمشي، مؤخرا، عبر بوابة دائرتها مع عدد من زميلاتها، وكانت اثنتان منهن ترتديان بدلتين وكانتا حاسرتي الرأس بينما كانت الثالثة ترتدي الحجاب وسحبها الحراس جانبا. وقالت «طلبوا منها ان تبلغ صديقتيها بأن يكونا أكثر حذرا». وطلبت عدم الاشارة الى اسمها لأن أمرها سينكشف. وكانت قد تلقت تهديدين بتصفيتها. وكانت دائرتها مقياسا حول مدى تفكك العلاقات بين العراقيين؛ فقد عملت مع زملاء لها لمدة 21 عاما، ولكن في السنة الماضية ظهرت تحالفات وخصومات غريبة جديدة. وفي جولات العمل في الخارج فان قوائم من يسمح لهم بالسفر تعد وفقا لانتماءات طائفية، حيث الشيعة يختارون الشيعة والسنة يختارون السنة. وهزت بسمة الخطيب، وهي أم في السابعة والأربعين، رأسها بحزن وهي تستمع الى القصة المألوفة. وقالت «لم نكن نتخيل أن الأمور ستكون على هذا النحو». وقالت بسمة، التي تدير برنامجا للشباب في المركز، انها تفتقد المتع البسيطة التي تمنح الحياة معناها. وقالت «المشي. ركوب الدراجة الهوائية في الشارع. تخلينا عن الكثير من الأشياء التي اعتدنا على القيام بها، ونحن نسميها الآن اكسسوارات». وقد انحسرت الحياة الخاصة في مواضع لا تبعث على الارتياح. فهدى، البالغة من العمر 40 عاما، وهي مصممة في مجلة ببغداد، والتي لم تذكر لقبها، قالت إن العنف دفعها ودفع زوجها الى تأدية دور أطباء الطوارئ، الذين يصدرون أوامر بأصوات عالية ويؤدون المهمات الطارئة. وآخر مرة تتذكرها عندما شعرت بالسعادة مع زوجها كانت قبل عام. وقالت «ان شيئا ما تغير. هناك نوع من الجفاف بيننا في الوقت الحالي»، مضيفة «أشعر بأنني محاطة بالتهديدات، عندما أذهب الى العمل، وعندما تذهب ابنتاي الى المدرسة».

وبالنسبة للنساء، العلمانيات من الطبقة الوسطى والعاملات وهن جزء من فئة من سكان العراق تتقلص باستمرار، كانت الآثار على مستوى شخصي أكبر. وقد افادت كثيرات منهن بصعوبات جديدة في التذكر، خصوصا تذكر الأرقام والتواريخ. وبالنسبة لهدى حدث الأمر أمام جهاز التلفزيون؛ فقد جلست لترى برنامجها التلفزيوني المصري المفضل قبل أيام قليلة، ولدقائق عدة لم تستطع تذكر القناة. وقالت «كان ذلك عدم قدرة على الاستيعاب. ذهني مزدحم ولم يعد نشطا كما كان».

والشعور أشد بالنسبة لمن فقدن قريبا، وخصوصا اذا كان طفلا. ولدى هيفاء حسن، مدرسة اللغة الانجليزية التي اختطف ابنها البالغ 12 عاما بينما كان عائدا من المدرسة الى البيت، ثم قتل بوحشية، لديها وجه مثل قناع. وتجد من الصعوبة عليها ان تبتسم، وغالبا ما تكون عيناها مفتوحتين وهي تحدق الى أمام. قالت وهي تتذكر جسده الصغير ورقبته التي كانت عليها آثار حبل «ابني يموت كل يوم». وقد غادرت العراق مع زوجها وابنها الثاني هذا الشهر.

وقالت هناء ادوارد، مديرة مركز النساء، إنه قبل عام كان ما يزال هناك كثير من الأمل، «أما الآن فقد بات ضوء الأمل خافتا تماما». ورددت بيتا من الشعر لشاعرها المفضل محمد مهدي الجواهري، وهو من قصيدته الشهيرة «يا دجلة الخير»، وفيه يقول: يا دجلة الخير قد هانت مطامحنا حتى لأدنى طماح غير مضمون.

* خدمة «نيويورك تايمز»