حوار مفتوح في أصيلة عن السلفية والنخبة المثقفة.. والاستبداد والفتاوى العشوائية

الندوة استمرت على مدى 3 ساعات.. واصطدمت بعراقيل منهجية

جانب من ندوة «النخبة المثقفة والحركة السلفية في العالم العربي» (تصوير: حسن الشركي)
TT

لم يكن عبد الوهاب بدرخان، الإعلامي اللبناني، الذي أدار الجلسة الثانية من ندوة «النخبة المثقفة والفكر السلفي في العالم العربي» المنظمة ضمن فعاليات موسم أصيلة الثقافي التاسع والعشرين، مخطئا حينما وصف المحور الثاني من الندوة، المعنون «المثقف والتيارات السلفية» بأنه سيكون شيقا، على اعتبار أن معظم المواجهات إنما دارت في الماضي والحاضر وبحدة متفاوتة، بين ممثلي التيارين. فالمثقفون يعتقدون بأنهم حاملو لواء الحداثة، في مقابل شد المجتمع إلى الخلف وتأبيده على حاله كما يسعى إلى ذلك السلفيون. لكن الندوة التي استمرت على مدى 3 ساعات، اصطدمت بعراقيل منهجية، نبه إليها أكثر من متدخل ومشارك في النقاش، فقد استعمل مصطلح السلفية بالجمع والإفراد، بشكل فضفاض، كما تداخل الماضي بالحاضر لدرجة صعوبة التمييز بين القرن التاسع عشر، حيث تبلورت ملامح بدايات التيار السلفي بتنويعاته في المشرق العربي، والامتدادات التي عرفها في بلدان المغرب العربي وخاصة في تونس والجزائر والمغرب، حيث ظهرت حركات النهضة والإصلاح الاجتماعي والديني والتربوي، داعية إلى أهداف متماثلة إجمالا، في الوسائل والغايات.

وكما هو منتظر في مثل هذه المواضيع التي يتداخل فيها الراهن السياسي بالإحالة على الماضي القريب أو البعيد، فإن تركيز الباحثين الذين قدموا مداخلات أو أغنوا النقاش، وقفوا عند الحاضر، أكثر من عودتهم إلى الماضي، اللهم إلا في سياق التدليل على الأفكار وتتبع مصادرها، ذلك أن الحاضر السلفي في المجال الديني تخلى على يد بعض ممثليه المرئيين والذين يقفون وراء الحجب، عن الفكر الدعوي المسالم، إلى امتشاق أسلحة العنف وتدمير الآخر. ولكن الأدهى من ذلك أن هذا الفكر الأصولي المتشدد يجد قبولا في المجتمعات العربية، وتأييدا من بعض الفئات الشعبية، وهو أمر يستعصي على الفهم أحيانا، وإن كان كثير من المتدخلين أرجعوه إلى أسباب اجتماعية وسياسية، كون الجماهير المتجاوبة مع التيارات الدينية المتشددة إنما تفعل ذلك انتقاما من حكامها المستبدين، وليس لأسباب دينية محضة.

حاول الأديب والباحث السوري محي الدين اللاذقاني، أول المتدخلين ببحث، اجتزأ منه فقرات، أن يرصد ما يجري في الساحة، متسائلا على سبيل الافتراض: هل تاريخ المثقف الحديث هو تاريخ السلفية، لأن من يمكن وصفهم بالعلمانيين أمثال المصري فرح أنطون، شكلوا استثناء في مسار الفكر الحديث، معتقدا (الباحث) أن الخطأ الأساسي في التفكير العربي الحديث يكمن في ربط التيار الأصولي بالسلفيات التي لا تقتصر على الحقل الديني، إذ توجد سلفية أدبية بل وماركسية، ملاحظا أن التجديد في الدين، لم يكن كذلك، بل مراوغة لا أقل ولا أكثر. فالعملية من وجهة نظره هي إحياء للقديم ، ضاربا المثال بمسألة «الحاكمية لله» التي تعود أصولها إلى فكر الخوارج. وبالتالي اعتبر اللاذقاني الفكر السلفي ضربا من اليوتوبيا (المدينة الفاضلة).

واستعرض الباحث نماذج من المفكرين النهضويين، فلاحظ في معرض مقارنته بين طه حسين وسيد قطب وما يرمزان إليه من تعارض، أن الحركة السلفية بعد القرن التاسع عشر بدأت ترتبط بالسياسة، مسجلا أن العالم العربي في تلك الفترة كان منحطا، وواجه الموقف باختيارين: العودة إلى الأصول أو التوفيق بين الشريعة السمحة والأفكار الغربية، كما تجلى ذلك في فكر محمد عبده وخير الدين التونسي وعبد الرحمن الكواكبي في الشام، إذ يشكل هذا الأخير قفزة نوعية، كونه نادى مبكرا، بفصل الدين عن الدولة، في مقال نشر بجريدة «المقطم» المصرية عام 1899، ثم جاءت مرحلة طه حسين الذي دعا إلى احتضان فكر الغرب بحسناته وسلبياته. وفي هذا السياق، يعتقد اللاذقاني أن الفكر السلفي تميز عموما بالوسطية من جهة، وتطويع النص الديني لأغراضه، مستعرضا في نفس الوقت تناقضات داخلية وقع فيها الفكر السلفي العربي تمثلت في الدعوة الغريبة إلى تبرير الاستبداد عند المصريين رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده، ما جعل باحثا يتساءل هل الحكم الفردي نسق عام في الإسلام أم مجرد صدف تاريخية؟

وأصدر اللاذقاني حكما صارما على المثقفين العرب، منذ ابن خلدون إلى ساطع الحصري، حينما قال انهم لعبوا دائما دور المساند للسلطة، ما جعله يستنتج خلاصة أشد وقعا، حينما فضل القرن التاسع عشر على وقتنا الحاضر، حيث كان يجري حينئذ حوار خصب بين العلمانيين والسلفيين، بينما يهيمن من أسماهم فقهاء التلفزيون، على الفضائيات العربية، ويكيفون آراء الجمهور المشاهد وفق هواهم، مستغلين حيرة الناس وبؤس حالهم.

ونبه الإعلامي السعودي تركي الدخيل، في معرض تعقيبه على عرض اللاذقاني، إلى مخاطر التعميم، قائلا إن الإشكالية في السلفية تكمن فيما إذا كانت تعيق التقدم أو تدعو إلى العنف، ذلك أن السلفية هي الدين في جوهره، بنظر المعقب، مقدما بهذا الخصوص بعض الإضاءات عن الفكر الوهابي الذي يعتقد البعض عن خطأ أن التيارات المتشددة تستمد مرجعيتها منه، مسجلا أن التيارات الجهادية هي توليف بين فكر منظر الإخوان المسلمين الراحل سيد قطب، ونصوص مطوعة من الوهابية نفسها، نافيا بإطلاق أن تكون مسألة «الحاكمية» كما هي في الفكر الوهابي، شبيهة بالصورة التي أصبحت عليها على يد تنظيم القاعدة، مشيرا إلى وجود نصوص تنويرية ضمن التراث الوهابي نفسه، واصفا تنظيم الجماعات الجهادية بأنه عنقودي، يبدأ موحدا ثم يتشظى إلى تيارات.

وحملت مداخلة الباحث الجزائري الزبير عروس، بعض الجديد المثير حقا وهو يستعرض التيارات السلفية في بلاده والتي قسمها إلى ثلاثة أصناف: سلفية المشايخ ، ثم السلفية الحركية وأخيرا الجهادية. يربط بينها جميعها الموقف من الحكم وآلية التغيير، مشيرا إلى ان أصداء التيار الوهابي وصلت إلى الجزائر في وقت مبكر عام 1928 حيث ظهر مشروع التغيير بواسطة العنف، خلافا لدعوات الشيخ عبد الحميد بن باديس، كما ظهر أتباع تيار حركة الإخوان المسلمين عام 1947، أما التيار التكفيري فيعود حسب الباحث إلى عام 1956، ممثلا في تيار أهل التوحيد. وذهب عروس إلى أبعد من ذلك حين أشار إلى أنه في عام 1965 أحدثت في بلاده لجنة لتقويم حالة المجتمع الجزائري، وصف الأسس التي استندت إليها بالأسوأ في نظره من نمط السلفية الذي يدعو إليه علي بن حاج، أحد قياديي الجبهة الإسلامية للأنقاذ، المحظورة حاليا.

واعتبر الباحث الجزائري السلفية، في الجزائر والمغرب، بكونها حالة تاريخية لها أسبابها الاجتماعية، متسائلا عن ماذا نقصد بالمثقف في هذا السياق: هل السلفي أم الليبرالي أو العلماني، منبها إلى أنه يجب عدم النظر إلى المعسكرين كمتناقضين لأنهم خاضوا معركة اختلطت فيها الأدوار إلى درجة الانقسامية التي تجلت بعض تعبيراتها في سلفية الأحياء الشعبية في الجزائر والدار البيضاء المغربية.

وفي تعقيب له على النقاش الذي جرى أوضح المفكر المغربي علي أومليل الذي قال إن السلفيين جميعهم فكروا في ثنائية التقدم والتأخر أو بعبارتهم (التمدن والانحطاط) حيث رأوا أن المسلمين تخلفوا مقارنة مع الإسلام في قرونه الزاهرة الأولى وكذلك إلى أوروبا في زمانهم، على عكس أسامة بن لادن الذي لا يعترف نهائيا بالغرب، ولذلك فإن السلفيين العرب عملوا على تطوير ما يسمى «فقه المصلحة» بغاية تأصيل التنظيمات الحديثة في المجتمع، وبحثوا عن سند لفكرهم، في فقه الإمام الشاطبي أو (مقاصد الشريعة) كما تجلت عند الشيخ محمد عبده، وعلال الفاسي المغربي، والطاهر ثم الفاضل بن عاشور التونسيين.

وميز أومليل الفكر السلفي عن الجهادي، معتبرا أن الأول اعتبر التحديث قضيته سواء تعلق الأمر بالفكر أو المجتمع، في حين لا يطرح السلفيون الجدد قضية التحديث نهائيا، مضيفا بخصوص أسباب انتشار الفكر الأصولي التي قال إنها كثيرة، ولكن أبرزها يكمن في أزمة التعليم حيث تم التراجع عن الدعوة التي نادى بها طه حسين في ثلاثينيات القرن الماضي بصدد توسيع قاعدة التعليم أو الحق فيه، وأصبح لنا تعليم عمومي يخرج جيوش العاطلين، في مقابل تعليم نخبوي يحصل خريجوه على العمل اعتمادا على شبكات علاقات عائلية، بمعنى أن نمط التعليم الغالب همش الكثرة التي ناصبت المجتمع العداء.

وتوقف الأديب مبارك ربيع، المنسق العلمي للندوة، عند فكرة الاستبداد التي قال إنه يجب النظر إليها في سياقها التاريخي، كدعوة لا لعلاقة لها البتة بما يجري في عصرنا، بل رأى في مقولة «المتسيد العادل» ضربا من التناقض أو مفارقة ربما تشير إلى نمط ثالث في الحكم ، أو ما سماه بـ«حاكم الضرورة» إذ لا يمكن منطقيا الجمع بين العدل والاستبداد، متسائلا بذات الوقت عن الحدود التي تقف عندها سلفية دون أخرى: هل هي محاولات لتأهيل النصوص وإعادة قراءتها أم أن المسألة تتعدى ذلك إلى محاولات أخرى لم يرد المتدخل أن يذكرها بالاسم.

وتحفظ جميل منصور (موريتانيا) على استعمال المصطلحات بصورة سياسية، يجعل من الأفكار التي راجت في الجلسة، مجرد انطباعات، منتقدا الجمع بين فكر من يكفر ومن لا يكفر وبين ضحاياه. إن ذلك إطلاق غير علمي وغير موضوعي، قائلا فيما يشبه الدفاع عن الإسلاميين، إن الاستبداد سوغه الجميع: الليبراليون والقوميون واليساريون، مدعيا وجود تلازم بين الاستبداد والاحتلال والتطرف، وكل منهم يوفر الأرضية للآخر، مرجعا انتشار السلفية في المجتمعات الإسلامية إلى أسباب منها أن عامة الناس متعلقون بالدين،بل إن التيار الرافض للدين يشجع على انتشاره. وأضاف منصور أن الحل يكمن في التجديد والإجابة عن سؤالي التأصيل والتحديث، مبرزا أن الخلفية الدينية للأمة وواقعها يتيحان تلك الإمكانية.