أيام في العراق (12) المرجعية الشيعية لا تحب الصحافة

«الشرق الأوسط» تلتقي في النجف ثلاثة مراجع

باب القبلة إحدى بوابات حضرة الإمام علي في النجف («الشرق الأوسط»)
TT

مراجع الشيعة في النجف لا يتحدثون الى الصحافة، لا يقولون شيئا أمام وسائل الاعلام، ابناؤهم هم الذين يتحدثون ويدلون بآراء آبائهم، ولكن هذه الآراء تأتي باسم الابناء.هنا القاعدة تتغير مع الاعلام، فعندما يصمت الآباء يتحدث الابناء.

المرجع الشيعي في النجف يتحدث في أمور فقهية، أو أمور عامة تهم الامة، خاصة أمام الصحافي، وإذا ما تحدث امام صحافي فسوف تكون هناك ملاحظة هي أقرب منها إلى التوجيه «هذا الكلام لا ينشر باسمي»، بل ان هذه الملاحظة تسمعها من اقرب الناس الى المرجع «لا تسأله اي سؤال صحافي»، وهذا ما سمعته قبل مقابلتي لثلاثة مراجع شيعية في مدينة النجف قبل وصولي اليهم. إلا ان «الشرق الاوسط» تمكنت من زيارة ثلاثة مراجع كبار خلال يومين متتاليين، وكانت هي الأولى في تحقيق ذلك.

قال لي جواد الخوئي الذي ساعدني في الحصول على مواعيد للقاء المراجع الثلاثة: النجفي والحكيم والفياض «لا تحرج نفسك وتحرجهم فهم لا يجيبون عن اسئلة الصحافيين». ذلك لأن المرجع الشيعي يخشى ان يفسر الصحافي كلامه كيفما أراد، ولأن كل كلمة يقولها المرجع لها اهميتها وتأثيرها على الملايين من شيعة العالم، فيجب ان تصل مثلما يريد المرجع ذاته. ترى هل هي عدم ثقة بالاعلام؟ ام هو قرار متفق عليه بين المراجع. لكن المسألة بالتالي لا تعود لتفسير فقهي على الاطلاق بدليل ان المرجع الشيعي الاعلى الراحل آية الله الخوئي كان يظهر في وسائل الاعلام ويستقبل صحافيين عربا وأجانب.

علي النجفي، نجل المرجع آية الله بشير حسين النجفي يوضح لـ«الشرق الاوسط» هذه الاشكالية قائلا «مشكلة المرجعية مع الاعلام تتلخص في ان غالبية الاعلام العالمي تحت سيطرة دول كبرى، وهذه نقطة سلبية والحرب الاعلامية لها اختصاصاتها وليس هناك اعلام محايد تماما لهذا تخشى المرجعية من استغلالها او تشويهها».

ويذهب جواد الخوئي، حفيد المرجع الراحل آية الله ابو القاسم الخوئي، والذي يعد أشهر مراجع الشيعة كونه تسيد المرجعية لأكثر من ربع قرن، الى ان «علاقة المرجع مع وسائل الاعلام، والصحافة بالذات هي علاقة مزاجية، أي غير مقننة او انها تخضع للفقه كونها حراما او حلالا، فهناك بعض المراجع يستقبلون الصحافي من غير ان يتحدثون اليهم بآراء مباشرة قابلة للنشر، مثلما حدث مع «الشرق الاوسط» حيث استقبلكم ثلاثة مراجع، بينما هناك المرجع آية الله السيستاني لا يستقبل، مجرد استقبال، الصحافي».

ويضيف الخوئي قائلا «اذن المسألة ليست قاعدة واستثناء بل تعود للمرجع ذاته هو الذي يقرر من يستقبل ومن لا يستقبل، لكنهم بصورة عامة لا يتحدثون بآرائهم للصحافة كونهم مراجع دينية، روحية لا يتحدثون في السياسة، ويخشون ان يحرف الصحافي كلامهم وآراءهم».

ويشير حفيد آية الله ابو القاسم الخوئي الى ان «جدي كان يستقبل اجهزة الاعلام، وأتذكر انه في عام 1991 وحده استقبل اكثر من عشرة اجهزة اعلامية بينها محطات تلفزيونية فضائية وصحف واذاعات لم يكن يمانع من مقابلة اجهزة الاعلام او تصويره سواء بواسطة كاميرا فوتغرافية او بواسطة الفيديو، وشجع على ذلك ايضا انفتاح والدي، محمد تقي الخوئي، وعمي، عبد المجيد الخوئي، على الاعلام وعدم الوقوف بوجه الصحافيين».

فإذا كانت المرجعية تتحسس من الاعلام الى هذا الحد فلماذا لا تكون لها وسائلها الاعلامية الخاصة بها من تلفزيون واذاعة وصحافة؟ يجيب علي النجفي قائلا ان «هذا الموضوع قيد الدراسة الآن وطرحت افكار كثيرة حول هذه الفكرة، هناك آليات لإيصال صوت المرجعية وعندما تريد المرجعية ايصال صوتها او اية فكرة فهي قادرة على ذلك».

الا ان هذا لا يعني ان المرجعية تعيش في عصر آخر غير عصرنا، بل على العكس فالمراجع يتابعون احداث العالم عن كثب، وما من مرجع شيعي اليوم ليس له موقعه الخاص، او اكثر من موقع، على شبكة الانترنت الدولية، وعن طريق هذه المواقع صار بإمكان مقلديه واي شخص كان ان يبعث بأسئلته الى المرجع ليقرأ الاجابة عليها بعد فترة قصيرة.

التكنولوجيا الرقمية دخلت الى مكاتب المراجع، كاميرات الديجتال الفوتغرافية او الفيديوية، واجهزة اللاب توب والدسك توب بآخر تقنياتها، ولدى كل مرجع هناك قسم للكمبيوتر يؤرشف ويبث البيانات والمحاضرات والاسئلة الفقهية وأخبار المرجع مصورة. غير هذا هناك مؤسسات ثقافية اعلامية تفرعت عن مكاتب بعض المراجع، مثل مؤسسة انوار النجف التابعة لمرجعية النجفي والتي يشرف عليها علي النجفي نجل آية الله بشير النجفي، والنشرة الاعلامية، نشرة نصف شهرية متخصصة بأخبار المرجع آية الله محمد سعيد الحكيم، والتابعة الى مرجعية الحكيم.

في حضرة النجفي انزلقنا الى احد ازقة النجف القديمة، زقاق يقود الى زقاق عبر دروب ضيقة تطل عليها الشناشيل والشبابيك حتى وصلنا الى بيت المرجع آية الله الشيخ حسين النجفي، استقبلنا صوته العريض ذو النبرة القوية، كان يلقي درسا في الفقه الشيعي، باب البيت الخشبي البسيط يدل على بساطة المكان وأهله، مدخل صغير يقود الى حوش الدار الذي ازدحم بطلاب الحوزة، طلاب مرحلة البحث الخارج التي تعد أعلى مرحلة يبلغها الطالب في دراسته الحوزوية.

ها هو الشيخ النجفي يتربع فوق منبره في ركن الغرفة المقابلة للفناء الخارجي (الحوش)، فالبيت مثله مثل بيوت النجف الاخرى، فناء داخلي يتوسط البيت وحوله تقوم الغرف، لم ألاحظ وجود مايكرفون لمكبر الصوت، كان صوته هو الذي يتوزع على اركان البيت، الغرفة التي جلس فيها الشيخ النجفي مزدحمة للغاية، والمكان الذي يجلس فيه آية الله يسمى ديوانية الشيخ النجفي.

الجدران تحمل بعض الآيات القرآنية الكريمة وأحاديث نبوية ودعاء يقول:

«بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وآل محمد, اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن, صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليا وحافظا وقائدا وناصرا حتى تسكنه ارضك طوعا وتمتعه فيها طويلا برحمتك يا ارحم الراحمين» وصلنا عند الساعة العاشرة صباحا، كان الشيخ قد بدأ درسه توا ولا مجال للقائه إلا بعد نهاية الدرس. العيون مشدودة الى الدفاتر التي كان يسطر فيها الطلبة ما يقوله شيخهم وهم متربعون فوق الارض، والآذان تلتقط كل كلمة ينطق بها أستاذهم، حتى اننا عندما دلفنا الى غرفة مقابلة لغرفة آية الله النجفي لم يرفع احد وجهه عن قرطاسه كي لا يضيعوا ملاحظة او كلمة يتفوه بها الشيخ الجليل.

ينحدر الشيخ بشير حسين النجفي المولود عام 1942 في مدينة جالندهر، وبدأ الشيخ بدراسة مُقدّمات العلوم الحوزوية في مدينة لاهور على يد جده لأبيه العالم الشيخ محمد إبراهيم الباكستاني، وعمّه الشيخ خادم حسين، والعلاّمة الشيخ أختر عباس الباكستاني، والعلامة رياض حسين، والعلاّمة السيد صفدر حسين النجفي. بدأ آية الله النجفي التدريس منذ عام 1974 بإلقاء دروسه «ابتداءً من (جامعة المنتظر) في باكستان الى يومنا هذا في مختلف الفنون والمستويات وجملة من تلامذته الآن تحاضر في البحث الخارج على الاصول والفروع في مناطق من العالم».

واذا كان طلبته يقصدون اليوم بيته لتلقي دروسهم، فانه كان قد درس في:

مدرسة دار الحكمة ـ موسّسة آية الله العظمى محسن الطباطبائي الحكيم، ومدرسة دار العلم مؤسسة آية الله العظمى ابو القاسم الخوئي، والمدرسة الشبرية، ومدرسة القوام الملاصقة لمسجد شيخ الطائفة الطوسي، ثم مسجد الهندي. وحسب نجله علي النجفي، فان والده يدرس 12 محاضرة أسبوعيا، بواقع 45 دقيقة للمحاضرة الواحدة، ويحضر ما بين 150 الى 200 طالب محاضراته.

ويصف احد تلامذة النجفي طريقة تدريس شيخه قائلا إن «الشيخ البشير قليل التنظير في طريقة تدريسه، وقوّة بيانه، وحسن تبويبه للمطالب، وسلامة ترتيبه للمقدّمات المفضية إلى صحّة النتائج بدقّة متناهية، واستنتاج سليم مع الابتعاد عن الحشو والفضول، وتقريب المعنى البعيد باللفظ الوجيز البعيد عن الاحتمال والاشتراك». ما ان انتهى آية الله النجفي من درسه وترجل عن منبره حتى استقبلنا، فهذا الوقت يكون لاستقبال الزوار والوفود ومن لديه اسئلة فقهية او شرعية، بادرنا بالسؤال عن المسلمين في بريطانيا، أجبته بأنهم بخير ولكننا قلقون على المسلمين هنا في العراق، أجاب باختصار «انشاء الله يكونون بخير». ولعل الشيخ النجفي من المراجع القلائل الذين يتحدثون في السياسة وله آراء سياسية معلنة. وهو بالرغم من اعترافه بشرعية «ولاية الفقيه» إلا انه يؤكد قائلا انه «في الظروف الحالية لا يتمكن القائل بولاية الفقيه كما لا نتمكن حسب الظروف الحالية والمعطيات الاقليمية والدولية والظروف التي يعيشها الشعب العراقي والوضع السائد في ربوع الوطن الجريح، من فرض التعيين؛ فأسهل السبل وآمنها الى البغية المنشودة هو الانتخابات والله العالم».

والشيخ النجفي من المتحمسين لفكرة الانتخابات واختيار الحاكم عن طريق صناديق الاقتراع، يقول «يجب الحفاظ على المكتسبات التي أحرزها الشعب العراقي المظلوم بعد سقوط النظام ولا يمكن الاحتفاظ بها إلا بإنشاء حكومة عادلة مخلصة، ومعلوم أنه لا سبيل الى ذلك في الظروف الحالية إلا بتأييد من هو أهل للقيادة فيجب التحري عنه في الانتخابات ولا علاقة له بالبيعة».

محمد سعيد الحكيم عندما وصلنا منزل المرجع آية الله محمد سعيد الحكيم وجدناه قد انتهى توا من درسه، استقبلنا نجله السيد محمد حسين الحكيم باهتمام كبير وبروح تنم عن تواضع وكرم.

كان الحكيم قد أمضى مع اولاده الاربعة تسع سنوات في سجن ابو غريب في عهد نظام صدام، حيث اطلق سراحهم عام 1991، كما ان عائلته قدمت الكثير من الضحايا الذين قضوا في سجون صدام جراء التعذيب والإعدامات.

البيت من الداخل مبني وفق العمارة النجفية التقليدية؛ فناء واسع بعض الشيء مكشوف للشمس وأرضيته مفروشة لتتيح للزائرين الذين كان يزدحم بهم الفناء والقادمين من مدن عراقية مختلفة فرصة الجلوس والاستراحة.

عندما دخلنا على آية الله الحكيم وجدته مسترخيا فوق فراش ممتد على الارض، وهذه عادة كل المراجع؛ إذ لم التق بواحد منهم وهو يجلس فوق كرسي او أريكة، سمعت ذات الملاحظة التحذيرية من مقرب منه «لا تسأله أي سؤال صحافي رجاء، يكفي ان تحييه وتتحدث معه في امور عامة، ثم انه متعب وهذا وقت راحته».

استقبلنا آية الله محمد سعيد الحكيم بالرغم من انه يعرف بأن ضيوفه من الصحافة، مع انه ليس على وفاق مع الاعلام؛ ذلك لأنه يعتقد، او يؤمن حسب قوله «الاعلام لا ينقل الحقائق، بل يزيفها، والإعلام الخارجي منحاز ضد الشعب العراقي عامة وضد الشيعة خاصة كونه يصور الارهابيين الذين يذبحون أهلنا كأبطال ومقاومين للقوات الاميركية مع انهم يذبحون العراقيين الابرياء في الحلة وكربلاء وبغداد والصدرية». لم يتحدث آية الله الحكيم بالسياسة، فهو مرجع ديني وطروحاته روحانية وليست سياسية، لكنه كان حزينا على ارواح الابرياء من العراقيين الذين يموتون على ايادي الارهابيين «فالشيعة ما زالوا يتعرضون للقتل المجاني على ايدي التكفيريين والقاعدة، وكذلك السنة، ولكن اجهزة الاعلام العربية والدولية لا تسلط الكثير من الضوء على هذه الاحداث».

لقد حظي السيّد الحكيم المولود في 31-10-1936بمدينة النجف، منذ طفولته برعاية والده، وذلك «لما وجده في نفس ولده الأكبر من الاستعداد والقابلية على تلقّي الكمالات النفسية، ومكارم الأخلاق، فوجّهه والده نحو ذلك، وهو بعد لم يتجاوز العقد الأوّل من عمره»، وكان على الحكيم ان يسلك درب الدروس الحوزوية خاصة وانه نجل العلامة والمجتهد والأستاذ في حوزة النجف محمد علي الحكيم، وجده لأمه المرجع الديني السيد محسن الحكيم، وبالاضافة الى والده وجده فقد تتلمذ على يد السيد ابو القاسم الخوئي والشيخ حسين الحلي.

ويتحدث نجله محمد حسين الحكيم عن مرجعية والده قائلا ان «المرجعية هي مأوى الناس، وهي(المرجعية) التي تتحمل آلامهم وتساعدهم على تحقيق طموحاتهم، خاصة بعد تحرير العراق من النظام السابق، حيث تتمتع بالحرية والاستقلالية».

ويضيف الحكيم، الابن، أن «مهمة المرجعية ايضا هي رعاية المؤمنين مهما كانت مذاهبهم وطوائفهم، وان تراعي مصالحهم من غير ان تتدخل في تفاصيل العمل السياسي»، مشيرا الى ان «المرجعية لا تمارس دور الرقابة على أتباعها او طلبتها وان هناك حالة من التواصل الحر بين المرجعية وأتباعها».

ويؤكد الحكيم قائلا ان «توجيهات السيد الوالد، محمد سعيد الحكيم، بشأن ما يحدث من تغييرات في الحياة العامة والسياسة هو ألا تكون هذه التغييرات نوعا من رد الفعل او الانفعال وان يأخذ القانون مجراه، وان يكون هناك توازن بين الواقع السياسي وبين الظروف التي يمر بها العراق».

ويعتبر آية الله الحكيم ونقلا عن نجله محمد حسين ان «ما حدث بعد تفجير المرقد العسكري في سامراء يعد خطيرا للغاية؛ وهو اتجاه لتدمير الحياة السياسية والاجتماعية»، منبها الى ان «المرجعية كان لها الدور المؤثر في عدم جر الشعب العراقي الى الفتنة الطائفية والى الحرب الاهلية».

ويرى محمد حسين، ناقلا آراء والده، أن «هناك ميليشيات مسلحة تريد جر العراق الى حرب اهلية»، لكنه يعتبر ان «المشكلة سياسية وليست شعبية او طائفية بدليل ان العراقيين سنة وشيعة ومسيحيين واكرادا يعيشون من غير اية مشاكل فيما بينهم، وقد وجهت المرجعية نحو استقرار العراق لاسيما وان الاوضاع العراقية لا تسمح بقيام حرب طائفية في البلد».

وحول علاقة المرجعية،او علاقة مرجعية والده مع الاعلام، قال نجل المرجع الحكيم ان «المرجعية تريد اعلام الحقيقة والمصداقية، لا اعلام الاثارة والكذب»، مشيرا الى «اننا نقوم بأرشفة محاضرات ولقاءات وطروحات السيد». ويضيف قائلا «نحن مرجعية دينية ولا نريد ان ننشغل في الاعلام والصراع الاعلامي ولا نريد ادخال المرجعية في هذه المتاهة بل نريدها (المرجعية) ان تبقى مستقلة وبعيدة عن الصراعات، ذلك ان مهمتها دينية وروحية وثقافية».

الشيخ إسحاق الفياض لم يتغير أي شيء في خارج وداخل بيت المرجع الديني اسحق الفياض منذ زيارتي الاولى له مع السيد عبد المجيد الخوئي في ابريل(نيسان)عام 2003. كانت زيارتنا له، مؤخرا، متأخرة، في الليل، وكان الشيخ الفياض يخلد للراحة، لكنه، ومع ذلك استقبلنا بتواضعه وابتسامته المعهودة.

كان يجلس عند ركن غرفة الاستقبال، فوق فراش على الارض طبعا، وأمامه ذات الطاولة الصغيرة ذات الدرجين والتي ترتفع بمقدار القدم ونصف القدم حيث صف فوقها عدد من الكتب والمصادر، استطعت ان أميز بينها مؤلفه (منهاج الصالحين) الذي يقع في ثلاثة أجزاء.

ولد محمد إسحاق سنة 1930م في قرية (صوبة) إحدى قرى محافظة (غز) في وسط أفغانستان الواقعة جنوب العاصمة كابل، وهو ثاني أبناء والده محمد رضا، وكان والده المتوفى سنة 1989م فلاحا بسيطا يعمل عند بعض المتمولين في القرية من ملاك الأراضي «وقد كان يرى في ولده محمد إسحاق من علامات النبوغ والذكاء ما ألزمه أن يوليه اهتماما ورعاية خاصة، وكأنه يقرأ في ملامح ولده مذ ولادته ما يكون عليه الوليد في مستقبل الأيام من مقام علمي وفضل وورع وتقوى يؤهله للقيام بدور بارز في خدمة دينه والمؤمنين».

ولما كانت امنية كل طلاب العلم والحوزات في العالم هي الدراسة في مدينة النجف، فقد وصل الشيخ الفياض الى هذه المدينة وهو شاب في الثامنة عشر من عمره «وقد مر في طريقه إليها بتجارب عديدة أصقلت مواهبه وعلمته بعض مصاعب الحياة على اختلاف أنواعها والفرق بين نظم العيش والأخلاق والعادات في مدن عديدة مختلفة. إلا أن للنجف الأشرف كمدينة وللحوزة العلمية فيها كمدرسة، صعوباتها وظروفها الخاصة ومتاعبها كما هي العادات والتقاليد المختلفة بين الشعوب والبلدان، مقابل ما لها من خصوصيات إيجابية وفي مقدمتها وجود ضريح الامام علي والتقدم العلمي لحوزتها الدينية التي أهلتها أن تتصدر الحوزات الأخرى وتتزعم قيادتها وتخرج آلاف العلماء وتستقر فيها المرجعية العليا للطائفة، ولتنشد إليها أفكار وأنظار طلاب وعشاق علوم أهل البيت عليهم السلام ومواليهم من جميع نقاط العالم».

يقول الشيخ محمد إسحاق الفياض في هذا الصدد «كان قدومي إلى النجف الأشرف بسنوات بعد وفاة السيد أبو الحسن الاصفهاني، وفي أواخر فترة العهد الملكي، وأوائل فترة مرجعية السيد محسن الحكيم الذي كان قد أجرى راتبا شهريا للطلبة بمقدار دينارين للطالب المعيل ومبلغ دينار للطالب الأعزب من أمثالنا، وكنا غالبا ما نأكل الخبز والبصل، ولا يخطر ببال أحدنا أن يأكل يوما شيئا مما يسمى بالفواكه».

استغرق الشيخ الفياض طويلا قبل ان يسأل عن احوال المسلمين من غير ان يخفي آلامه لما يحدث في العراق، قال «إننا نطالب من الكتل السياسية رص الصفوف وتوحيد الكلمة والتخلي عن المصالح الذاتية والأغراض الحزبية الضيقة والنعرات الطائفية والأخذ بعين الاعتبار مصالح البلد والشعب ككل».

تذكر زيارتي الاولى له مع الخوئي وتحدث عنه كشهيد «كان داعما للاسلام والمسلمين ولعموم العراقيين»؛ فقد عرف عن آية الله العظمى الفياض توسطه واعتداله في الامور غير مفرقا بين سني وشيعي، عربي او غير عربي، وهو غالبا ما كان مفتاح الأمان في القضايا الطارئة التي تحدث في النجف.

ويعد الشيخ الفياض ومنذ افتتاح مدرسة دار العلم المعروفة التي أنشأها الإمام ابو القاسم الخوئي عام 1980 من اكثر المجتهدين تقليدا وتأثرا بأستاذه الخوئي؛ فقد انتقل مجلس بحثه إلى هناك حتى تاريخ هدم المدرسة، فانتقل مجلس الدرس إلى المسجد الهندي الكبير في فترة قليلة، ومن ثم إلى مدرسة اليزدي؛ وهي مدرسة أسسها المرجع الكبير السيد كاظم اليزدي وإلى اليوم، يحضره جمع كبير من الطلبة وفيهم غير واحد من الأفاضل ممن يقرر بحوثه على أمل طبعها إن شاء الله.

يمضي الشيخ الفياض جل وقته في الدرس والتدريس منصرفا الى العلم، وهو ينشغل حتى اليوم بتأليف الكتب التي تعد كمصادر في الفقه الاسلامي وقوانين الشريعة، ومن أبرز مؤلفاته: محاضرات في أصول الفقه، في عشر مجلدات، طبع خمسة منه، الأراضي، النظرة الخاطفة في الاجتهاد، تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى، طبع منها عشرة أجزاء، أحكام البنوك، منهاج الصالحين، في ثلاثة مجلدات، مناسك الحج، المباحث الأصولية، في 14 مجلدا، طبع منه 3 مجلدات، ويليها سائر المجلدات.

ان أهم ما يشغل آية الله اسحق الفياض هو «الحفاظ على استقلالية المرجعية وعدم زجها في امور السياسة»، كونه يرى ان «مهمة المرجعية دينية وروحية وعلمية بالدرجة الاولى، لهذا يجب ان ننأى بها عن كل الصراعات التي تعصف بالعراق اليوم».

كان الوقت قد تأخر لزيارة آية الله السيستاني، المرجع الشيعي الاعلى، قيل لنا انه يستريح وهذه فترة راحته وهو لا يستقبل أي شخص في هذا الوقت، بالرغم من اننا نعرف الحقيقة وهي عدم استقباله للصحافيين.

يدير نجله محمد رضا السيستاني مكتب والده وهو من يتحدث نيابة عنه وهو من يستقبل كبار الزوار في حالة ان والده متعب او في فترة استراحته.

رضا هو من يقرر من يستقبل والده ومن يدخل بيتهم وهو الذي ينسق علاقات المرجع الاعلى، ولأن رضا، هو الآخر، لا يحب الصحافة والإعلام فقد حرمنا من هذه الزيارة، واكتفينا بالتقاط صورة لبيت المرجع الاعلى من الخارج.