قصة العقل المدبر لهجمات مدريد تطرح سؤالا.. لماذا يتحول الصبية إلى جهاديين؟

خبراء: هل السبب هو الفقر أم النزعة القومية أم شيوخ الإنترنت؟

لقطة من الاحياء الشعبية المغربية الداخلية (« الشرق الاوسط»)
TT

لم يفكر أحد بغرابة الأمر عندما اختفى منصف بن عبود من حيه المزدحم في مدينة تطوان المغربية. ويغادر الرجال جامع مزواك، كما يسمى الحي، وقام منصف (21 عاما) بذلك في السابق، وهو يجول في كازبلانكا ومراكش. وقد اخذه فضوله الى اتجاهات كثيرة. وكان لامعا في الأرقام، ولكنه على عكس ذلك في الروايات. وبدأ التدريب ليكون طيارا عسكريا، ولكنه غير تفكيره واستقر على الهندسة. وبعد عام من ذلك، وفي 2006، انتقل الى الرياضيات.

وفي ذلك الصيف ابلغ منصف والدته بانه ذاهب الى موريتانيا. وكان يريد دراسة الاسلام. ولم تجد سببا للقلق. فهو ولد جيد وكان هذا يبدو رغبة في التجوال. ولكن بعد ثلاثة ايام من مغادرته اتصل بالبيت.

وقال منصف لامه «سامحيني اذا ما ارتكبت خطأ». وكانت تلك عبارة يستخدمها المغاربة للتوديع. وقال انه ذاهب الى العراق، من أجل الجهاد.

صدمت العائلة. وكان منصف على الدوام قوي الارادة. وقالت والدته لنفسها ان بلال (26 عاما) لا بد أن يكون قد وجد سبيلا الى اسبانيا، حيث يذهب عدد كبير من الناس بحثا عن عمل هناك. ولم يكن متوقعا ان يحذو حذو شقيقه. فولع بلال متجه الى كرة القدم. وهو يحب الرقص. ولم يكن يبدو عليه الاستعداد لتفجير نفسه. ولكن في ظهيرة أحد ايام أكتوبر (تشرين الاول) رن جرس الهاتف ثانية. كان بلال يتصل للتوديع. كان في سورية مع مجموعة من الغرباء، بعضهم اتراك وآخرون مغاربة ومتحولون بريطانيون الى الاسلام، وكان يتجه الى العراق.

وناشدته العائلة ان يعود. فقد شهدوا ابنا آخر يغادر قبله. وقال بلال انه متأسف، ثم أقفل الخط. وفي الساعة ذاتها رن جرس هاتف في بناية قريبة، فصديق بلال الحميم، حمزة خليفة، كان يتصل أيضا بأهله ليودعهم، كان في سورية مع بلال متجها الى العراق. ولم يكن أهالي منطقة جامع مزواك غرباء عن الاسلام المتطرف، فقبل سنوات قليلة ودع خمسة رجال آخرين من الحي نفسه عوائلهم. وذهبوا الى إسبانيا بحثا عن فرص عمل، ولكنهم اصبحوا مشهورين كمتهمين رئيسيين في تفجيرات قطارات مدريد التي أودت بحياة 191 شخصا، يوم 11 مارس 2004. واتصلوا بعوائلهم بعد أسابيع قليلة من الهجمات، بينما كانوا يختفون في شقة تقع في ضواحي المدينة. وبينما كانت الشرطة الاسبانية تقترب من المكان هز انفجار المبنى. ومات الرجال في الحال في عملية انتحار جماعي.

وفي السنوات التي أعقبت الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) بات سؤال ما الذي يخلق ارهابيا؟ السؤال الاكثر الحاحا. ويظل الكثير مما يتعلق بالمتطرفين الاسلاميين الشباب غامضا، من نسيج حياة عوائلهم الى المدى الكامل لرغباتهم. ويلقي خبراء مكافحة الارهاب باللوم على الفقر والنزعة القومية العربية والانترنت والقضايا الجيوسياسية والاغتراب والشيوخ ذوي الشخصيات الجذابة والأنظمة الدكتاتورية والضياع الذي يعاني منه الشباب. ولكن في دراسة الارهاب المعاصر لم يكن هناك مختبر شبيه بجامع مزواك.

وربما لم يكن لأية نظرية أن تتكهن بجمال أحمدان، العقل المدبر لتفجيرات مدريد. فقد كان تاجر مخدرات لديه ولع بالدراجات النارية ونقطة ضعف تجاه النساء الاسبانيات. وبين أقرانه المشاركين معه من الحي المغربي القديم مجرمون صغار وبائع حلويات. واذا كانوا قد بدوا غير ملائمين للتطرف الاسلامي فقد كان هذا هو الحال مع الشباب القادمين من جامع مزواك، الذين غادروا الى العراق في خاتمة المطاف، فقد كان أحدهم يصفف شعره مقتديا بجون ترافولتا. وكان آخر كوميديا خائب الأمل. وكانوا يتوقون الى حياة في أوروبا، على ما يبدو، لا الى موت في الشرق الأوسط. ليس هناك ما يشير الى عزلة تطوان. فهذه المدينة في شمال المغرب التي يقطنها 400 ألف نسمة تقع على بعد أميال قليلة من البحر الأبيض المتوسط. وكانت منذ زمن بعيد نقطة تقاطع بين أفريقيا وأوروبا، ومكانا فيه ثقافات كثيرة. وفي الوقت الحالي ما يزال بعض شوارعها يحمل أسماء اسبانية من الماضي الكولونيالي. ويحتسي الرجال القهوة في المقاهي المنتشرة في المدينة، التي لا تبعد كثيرا عن طنجة، حيث الساحل الإسباني متألقا بأضواء ليلية عبر مضيق جبل طارق. انها مصدر تذكير دائم بما يكمن فوق الأفق، بالوعد في حياة مختلفة.

ويقع حي جامع مزواك على نهر متعرج في الجانب الغربي من تطوان. وتنشر الملابس على السطوح، وهناك فضاء مشترك لصحون التلفزيون الفضائية. وكان الكثير من المنطقة أرضا زراعية يمتلكها رجل ثري بنى أول جامع محلي عام 1933 وسماه باسم عائلته. وسكن من استولوا على الأراضي المنطقة اخيرا. وتدفق الوف من سكان المناطق الجبلية القريبة بعد جفاف مدمر اصاب مناطقهم أوائل الثمانينات. وكافح الكثير من المزارعين الفقراء من أجل التكيف مع حياة المدينة، وكانوا يشعرون بالغربة في السنوات اللاحقة. لم يحقق أحد من المنطقة التي يسكن جمال أحميدان فيها نجاحا مضاهيا لنجاحه في إسبانيا. فهو شخص قصيرة ومشاكس ترك المدرسة الثانوية، وجلب الانتباه إليه حتى قبل شرائه سيارة بي أم دبليو بفترة طويلة. ومع اسنان مقوسة وعينين مخيفتين كسب اسم: شينو(الصيني). وقبل أن يبلغ الثلاثين تمكن من تكوين تجارة مربحة للحشيش والمخدرات الأخرى وكانت شبكته تعمل من هولندا والمغرب. وعلى الرغم من أن طوله لم يزد عن 160 سنتمترا فإنه يعطي انطباعا بقوة هائلة. فهو على استعداد لأن يقاتل أي شخص يتحداه. قال أنور بن لامان أحد أصدقاء طفولته: «عليك أن تظهر له احتراما عند مواجهته».

يظل تحول مهرب مخدرات من المغرب وخلال فترة قصيرة إلى أحد العقول المدبرة لهجمات مدريد لغزا أمام السلطات الإسبانية. وخلال المحاكمة التي جرت في مدريد يوم 31 أكتوبر (تشرين الاول) لم يتمكن أحد من تعقب رحلته، على الرغم من توفر وثائق كثيرة في مركز تنفيذ الخطة. ومن خلال المقابلات التي أجريتها مع أمه وستة من أخوته مع محاميه المغربي، إضافة إلى أصدقائه وجيرانه توصلت إلى هذه الصورة.

انتشرت أخبار العمليات الانتحارية في جامع مزواك، وكان الناس يشاهدون الصور للأشخاص الخمسة المقيمين في منطقتهم عبر التلفزيون مرارا. وكان بعض المغاربة قد اعتبروا قبل ذلك مشتبها في اشتراكهم في تفجيرات القاطرات، لكن الكثير من الجيران رفضوا تصديق التقارير.

وقال محسن شباب، من جامع مزواك: «نحن لم نتصور أبدا أن يكون أحد جيراننا يقوم بفعل كهذا».

وإذا كان الكثير من الناس قد أبقوا مسافة فاصلة عن عوائل المشكوك في تورطهم بتفجيرات مدريد فإن هناك عددا قليلا من الشبان في المنطقة كانوا مصممين على معرفة ما حدث، ومن بين هؤلاء منصف بن عبود واخوه بلال، إضافة إلى صديقهما حمزة اخليفة.

*خدمة «نيويورك تايمز»