نازحون أكراد يكابدون مصاعب العيش وتهديد الحروب

«الشرق الأوسط» تزور مخيمات النازحين على الحدود العراقية ـ التركية

TT

بلدة «آميدي» الواقعة على بعد نحو 20 كيلومترا الى الشمال الشرقي من مدينة دهوك في اقصى الجزء الشمالي من اقليم كردستان، كانت الجبهة الخلفية للمعارك الطاحنة التي دارت رحاها طوال الايام الماضية بين مقاتلي حزب العمال الكردستاني والقوات التركية قبل اعلان انسحابها من أراضي الاقليم. وكانت القوات التركية قد توغلت بعمق 10 – 15 كليومترا باتجاه المثلث الحدودي بين العراق وتركيا وايران والذي تنتشر في اجزائه الجبلية المترامية معاقل الحزب الكردي المعارض لتركيا.

وبمجرد الوصول الى تلك البلدة الكائنة في احضان طبيعة جبلية خلابة ورائعة ينتاب الانسان شعور بالخوف والقلق مما قد يحدث فجأة، لاسيما وان هدير الطائرات كان يسمع عن بعد وبشكل واضح، وما ان تتجه نحو قصبة «ديرلوك» التي تبعد نحو 10 كليومترات عن مركز قضاء آميدي يتضاعف الشعور بالخوف من المجهول في ظل أجواء الحرب التي سادت هناك. وبالاتجاه نحو العمق بمسافة مماثلة وصولا الى قصبة «شيلادزي» لاحظنا ان ملامح الخوف والهلع ترتسم بوضوح في وجوه سكانها الذين هم خليط من أهل القصبة الاصليين مع مجاميع من النازحين عن القرى المحاذية من الحدود التركية والايرانية الذين استقروا في تلك القصبة الجبلية منذ عدة سنوات بعد ان أتت الحروب المتتالية على قراهم وما برحوا يسكنون هناك في خيام مقفرة وبائسة.

وفي طريقنا نحو المناطق والجبهات الامامية للحرب التي دارت بلا هوادة، سعينا للوصول الى أبعد منطقة ممكنة لرصد ما يجري على الأرض عن كثب فانطلقنا من شيلادزي وقطعنا مسافة 5 كليومترات حتى وصلنا قرية «جمجي» التي تعتبر آخر نقطة خاضعة لسلطة حكومة اقليم كردستان والحد الفاصل بين مناطق الاقليم الآمنة والمناطق التي تدور فيها المعارك، وتحديدا عند جسر جمجي الذي دمره الطيران التركي الاسبوع الماضي بغية قطع الطريق على مقاتلي حزب العمال من عبور النهر الصغير الذي يفصل معاقلهم عن القرى والقصبات الخاضعة لسلطات الاقليم ومنع وصول الامدادت والمؤن الغذائية اليهم. وهناك منعتنا قوات الامن الحكومية من التوغل نحو ساحة المعارك الجبلية التي تحوم في اجوائها الطائرات والمروحيات التركية على نحو شبه دائم، لكن جهودا مضنية اسفرت عن السماح لنا باجتياز النقطة الفاصلة نحو ساحة المعارك، ولكن على مسؤوليتنا الشخصية. وفي تلك الاثناء وتحديدا في العاشرة وخمس دقائق من صباح الخميس الماضي اي قبل ساعات من اعلان انقرة سحب قواتها وإيقاف العمليات العسكرية، حلقت طائرتان تركيتان في سماء المنطقة وراحت تلقي منشورات ورقية باللغة التركية على معاقل ومناطق وجود عناصر حزب العمال، حملت عبارات تطالبهم بإلقاء السلاح والعودة الى تركيا فورا. وتقول المنشورات: «الى متى تحمل السلاح؟ وهل منظمتك تستحق منك كل هذا العناء؟ وكم من السنوات الاضافية ستمضيها بين هذه الثلوج؟ او فكر في مستقبل أسرتك فالحياة ليست حمل السلاح وحسب او كف عن ارهاب والق بسلاحك» وغيرها من العبارات المقرونة بصور بعض المسلحين وهي تحث المقاتلين بشكل غير مباشر على القاء السلاح والاستسلام طواعية. وبعد مسير استمر نحو عشر دقائق وصلنا الى قرية «سيري» التي تبعد عشرة كيلومترات تقريبا عن الحدود التركية والتي دارت في تخومها معارك ضارية بين الطرفين، وهناك صادفتنا دورية من ثلاثة مقاتلين مدججين بالسلاح بدت على وجوههم علامات التعب فاستفسروا فورا وباندهاش عن سر وجودنا في تلك المنطقة الخطيرة وكيفية وصولنا اليها في ظل الحظر المطبق والمحكم المفروض من جانب سلطات الاقليم، وبعد تأكدهم من حقيقة مهمتنا الصحافية وتفتيش المعدات التي كانت بحوزتنا راح احدهم يروي لنا من دون ان يذكر اسمه وبمعنويات عالية جدا أنباء موجزة عن العمليات القتالية التي نفذها المقاتلون ضد الجيش التركي والخسائر البشرية التي تكبدتها القوات التركية لاسيما اثناء عملية نفذتها قوة تركية من 300 عنصر قبل خمسة ايام. وقال ان معظم المظليين قتلوا برصاص المقاتلين، وان جثث العشرات منهم مابرحت مغمورة في الثلوج التي تكسو المنطقة الجبلية الشاهقة، ومضى قائلا سنواصل القتال مهما كلفنا ذلك من ثمن. وفي تعلقيه على المنشورات التي كانت القيت عليهم من قبل الطائرات التركية قبل ذلك بدقائق قال «انها ليست المرة الاولى التي نتلقى فيها مثل هذه الدعاوى الفارغة التي لا شك انها ستقابل بسخرية من قبل مقاتلي الحزب، لأن سلطات العسكر الحاكمة في تركيا تريدنا ان نتوجه الى المعتقلات بأقدامنا وتسعى لمصادرة حرياتنا ومحو وجودنا كشعب كردي، ونحن نرفض ذلك قطعا». وعاتب القوى والأحزاب الكردية في اقليم كردستان على مواقفها التي وصفها بأن «لا ترقى الى مستوى الحدث». وأضاف أن القوات التركية موجودة على ارض الاقليم منذ سنوات في قاعدة بامرني وغيرها وان الاجتياح الحاصل الآن ليس بالأمر الغريب على تركيا، وقال «اننا سنطلق النار على اي كائن يحط في هذه المنطقة مهما كان جنسه او انتماءه»، وعندما انهى حديثه نصحنا بالابتعاد عن المنطقة فورا لأن بقية المقاتلين يطلقون الرصاص عن بعد ومن دون تمييز، فعدنا أدراجنا بينما اصوات الانفجارات ودوي سقوط القذائف والصواريخ وأزيز الرصاص الممزوج بهدير الطائرات يكاد يفقد المرء قدرته على الصمود على قدميه.

والغريب اننا وطوال تلك المسافة الممتدة من مدينة دهوك الى قرية جمجي لم نرصد اي حركة غير طبيعية لقوات البيشمركة التابعة لحكومة الاقليم او اي تجمعات او تحشدات لها حتى في منطقة الحزام الفاصل باستثناء بعض نقاط الحراسة الاعتيادية على قمم الروابي المترامية هنا وهناك.

وفي طريق عودتنا عرجنا على قصبة شيلادزي التي تضم 19 عائلة قروية نازحة شردتها الطائرات التركية التي دمرت القرى الحدودية قبل اكثر من عشر سنوات وهي تسكن منذ ذلك الوقت في خيام بائسة من البلاستك في ظل اوضاع معيشية عسيرة لا تطاق، والتقينا بمختار المخيم صالح درويش، 56 عاما. وقال درويش إن «العمليات العسكرية شبه المستمرة أسفرت عن تدمير قرانا عدة مرات منذ عام 1975 فاضطررنا الى النزوح أولا نحو ايران ثم الى تركيا والآن ومنذ ثلاث سنوات نعيش في هذه الخيام المقرفة لأن قرانا سويت مع الارض وفقدنا كل شيء». وأضاف ان سكان القرى التي دمرتها الطائرات التركية خلال العمليات الاخيرة كانوا قد نزحوا عن مناطقهم منذ عمليات عام 1997 واستقروا في المجمعات المجاورة وهم يترددون على تلك القرى في موسم الصيف للزراعة ورعي الماشية ويعودون الى المجمعات في الشتاء، وأضاف في حديثه لـ«الشرق الاوسط» أن النازحين يكابدون أوضاعا معيشية صعبة جدا في ظل انعدام الخدمات علاوة على مشاعر الخوف والهلع التي تثيرها الطائرات التركية وغاراتها على المناطق المجاورة لاسيما اثناء الليل. وقال ان رجال وشباب المجمع جميعا متأهبون بأسلحتهم لمواجهة الاجتياح التركي لأراضي الاقليم ومستعدون للجود بأنفسهم دفاعا عن وطنهم، وهم ينتظرون أوامر القيادة الكردية. وتابع درويش «لقد أمضينا عدة سنوات كنازحين في المخيمات التركية ولمسنا مظالم السلطات التركية للمواطنين الكرد هناك، فهم محرومون حتى من تسمية اطفالهم بأسماء كردية وارتداء ملابسهم الشعبية او التحدث بالكردية اضافة الى الاعتقالات المستمرة ولأسباب واهية».

وفي مجمع «ديرلوك» الذي يضم 53 عائلة نازحة من ثلاث قرى دمرت اثناء الحرب العراقية ـ الايرانية ابان الثمانينات، التقينا بمختار المخيم وحيد ياسين نيرويي، 47 عاما، الذي قال ان «العمليات العسكرية التركية المستمرة في المنطقة هي التي تحول دون إعمار قرانا، وان تركيا تتخذ من وجود عناصر حزب العمال ذريعة واهية لتدمير وتخريب المنطقة». وقال «انا مستعد لحمل السلاح ومحاربة القوات التركية حتى الرمق الاخير لأنها قوات معتدية تريد مصادرة حقنا في الوجود كشعب حر مثل سائر شعوب الدنيا». وعلى مشارف مدينة دهوك، صادفتنا مسيرة راجلة لمجموعة من الشباب المتحمسين وهم يحملون السلاح والعلم الكردستاني في طريقم لزيارة مقبرة الشهداء التي تضم رفات الاب الروحي للشعب الكردي الجنرال مصطفى بارزاني، قائد ثورة ايلول الكردية ونجله ادريس بارزاني. وقال قائد المجموعة «نحن عشرون شابا نمثل أهالي مدينة دهوك نظمنا اليوم هذه المسيرة للإعراب عن استعدادنا لحمل السلاح ومواجهة اعداء الكرد ورد الظلم عن شعبنا ووطننا والتضحية بأنفسنا في ذلك السبيل».