«الروشة»... ذلك المبنى الصغير

مركز أخبار «المستقبل» السابق كان «خلية نحل» غطت «عناقيد الغضب» واحتفلت بالتحرير

الرئيس الراحل رفيق الحريري خلال تفقده مبنى «الروشة» عندما تعرض لاعتداء بالصواريخ عام 2003 (رويترز).
TT

خرجت ألسنة النيران ملتهمة تلك اللافتة العملاقة التي تقول «الحقيقة... من أجل لبنان» معلنة احتراق «مبنى الروشة»... ذلك المبنى الصغير التابع لـ«تلفزيون المستقبل» والمتاخم لمقر السفارة السعودية ببيروت، والذي كان على امتداد قرابة 15 سنة بمثابة «خلية نحل» حقيقية تعج بالإعلاميين والمحللين والخبراء والمسؤولين، ومنارة مزدوجة للداخل اللبناني والعالم الخارجي لاسيما خلال الأزمات المختلفة التي عاشتها البلاد.

كثيرون كانوا ينبهرون بما تنتجه «المستقبل»، وحين كانوا يزورون «الروشة» كانوا يفاجأون بأن كل ما كانوا يرونه كان يخرج من ذلك المبنى الصغير ذي الطوابق الثلاثة باستديوهاته المتواضعة والمتعددة الاستخدامات.

ولم يغادر «المستقبليون» مبنى «الروشة»، هذا إلا أخيرا، وتحديدا مع نهاية العام 2007 حين انتقلوا إلى المبنى المعروف بـ«الهنغار» بالقرب من إدارة القناة الرئيسية في شارع سبيرز، وذلك مع انطلاقة قناة «أخبار المستقبل»، حيث وضعت في امكانياتهم أفضل التسهيلات وأحدثها.

لكن على الرغم من كون المبنى شاغرا، فإن للاعتداء عليه أكثر من دلالة، وفيما هو صحيح أن اللافتة احترقت فإن «الحقيقة» ستبقى... فذاكرة الإنسان لا يمكن محوها بالنيران ولا تغطيتها بالظلام.

ولا بد أن الكثيرين تذكروا بالأمس أن المبنى الذي أحرقه أعوان «حزب الله» هو نفسه الذي «خرّج» جيلا من الصحافيين الذين كانوا «شركاء» لا يقلون شأنا ولا «شرفا» عن مقاتلي حسن نصر الله في «المقاومة» إبان الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، والحديث هنا عن صحافيين خاطروا بحياتهم لينقلوا بشاعة الممارسات الإسرائيلية وبطولة أهالي الجنوب في مواجهة الاحتلال.

كذلك فمبنى «الروشة» هذا هو نفسه الذي أنتج التغطية التي أبكت العالم ودفعته للاستنكار فورا عندما تدلت «عناقيد الغضب» الإسرائيلية عام 1996 لتركب المجازر بحق لبنان وشعبه، وهو كان من أول من هنأ بتحرير الجنوب عام 2000.

وهو المبنى نفسه الذي قرر مخاطبة لبنان بجميع طوائفه ولغاته، فمنه كانت تخرج نشرات الأخبار باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والأرمنية تباعا، ذلك لأن «الروشة» كان نموذجا للبنان حلم به رفيق الحريري، حيث جميع الطوائف سواسية وحيث الهم هو بناء الوطن وحسب.

حلم الحريري كان يتحقق وراء الكواليس كما على الشاشة، ففيما كان التلفزيون يحتفل بأعياد المسلمين والمسيحيين معا عبر البرامج و«االكليبات» والتغطيات الخاصة فينقل قداسا من هنا وينقل خطبة الجمعة من هناك، كان إعلاميو «الروشة» سنة وشيعة ودروز ومسيحيين وملحدين يجلسون في الخلفية على مائدة واحدة، تارة لتناول الغداء سريعا قبل ان يحين موعد نشرة «الساعة الثالثة»، وتارة لتناول طعام الإفطار خلال شهر رمضان مبارك، وفي أعياد الميلاد والفصح يتبادلون الهدايا والتهاني... وربما ليس خفيا بحكم كون العاملين «إعلاميين» نشوء قصص حب «عابرة للطوائف» انتهت بزيجات وتكوين أسر.

أما حين كان يدق «ناقوس الخطر» فكان العمل يسير بكل دقة تماما كالساعة السويسرية، سيارات «الجيب» البيضاء التي اشتهر بها فريق الأخبار دائما متأهبة، وموظفو العمليات على السمع، ومديرو التحرير يضعون خطة العمل سواء كان الخبر في قرية مجاورة، أم في العراق.. أم أقاصي أفغانستان.

صحيح أن «المستقبل» وأخواتها «تابعة» لـ«آل الحريري»، لكن الرئيس الشهيد لم يكن يوما قمعيا... فمن كان يعرفه كان يعرف أنه دائم التقبل للنقد، وانه كان يحاور الصحافيين بغض النظر عن انتماءاتهم، ويذهب حتى لمشاهدة الـ«اسكيتشات» المسرحية التي كانت تسخر منه، وكان حريصا على نقل روحه هذه إلى قنواته.

ليست هذه المرة الأولى التي يدفع فيها مبنى «الروشة» ثمن مهنية «المستقبل» وثمن تجسيده حلم الحريري، فهو قصف بالصواريخ قبل ذلك عام 2003 وبقيت ملابسات الأمر مجهولة لفترة، واعتبر الاعتداء حينها أنه «رسالة» لرفيق الحريري الذي اغتيل بعد ذلك بعامين.

حينها لم يكن مستغربا أن يجعل «المستقبل» من التحقيق في ملابسات ما جرى محور اهتمامه تحت عنوان «الحقيقة»، فبغض النظر عن الانتماء فإن الرجل الذي اغتيل كان رمزا من رموز الوطن، وكانت «المستقبل» لتفعل الأمر ذاته وتبحث عن الحقيقة كذلك مع أي من رموز الوطن الآخرين لو أن تفجير 14 فبراير أصاب أيا منهم.

وتبقى الصورة أكثر قدرة على التعبير، فإلى جانب منظر اللافتة المحترقة أعلى مبنى «الروشة» التي تقول «الحقيقة... لأجل لبنان»، ثمة لافتة محترقة أخرى تحمل صورة الرئيس الحريري وقبتي مسجد وكنيسة وتقول «خافوك فقتلوك»... ولعل ما يريد هذا المنظر أن يقوله هو أن حلم الحريري والكثير من اللبنانيين لايزال كابوسا للبعض، حتى في مماته.