كيفون الشيعية وبيصور الدرزية قريتان تختصران المشهد اللبناني

بين الأمل في استرجاع اللحمة وألم «طعنة الظهر»

TT

وحدها شمس مايو (ايار) اللطيفة لاحت أمس على ذاك الجبل اللبناني الذي عاش الاحد الفائت احدى اشرس المعارك التي دارت منذ بدأت الاحداث في 7 مايو. قرى تلفّها حال الصدمة، يطوّقها الوجوم... ما من مارة وما من سيارات، إلا في ما ندر. مشهد غريب كل الغرابة عن القرى اللبنانية، وخصوصا بالنسبة الى من اعتاد زيارتها وإن بشكل متقطّع. تناقض حاد بين دفء الطبيعة التي استعادت خضرتها، وبرودة قراها حيث الناس يلازمون بيوتهم، خوفا وترقبا وتحسبا وتجنبا! كلمات ردّدها من تسنّى لـ«الشرق الأوسط» التحدث اليهم. خمس ساعات من التجوّل والتنقل بين القرى لم تكن كافية «لالتقاط» احاديث من اهل المنطقة. هذا وحده يكفي لاستخلاص جزء وإن بسيط من الجو العام.

حتى امس قريب، لم يكن يفصل بين كيفون وبيصور الا الاشجار والحدود الطبيعية، فيما كان التداخل العمراني وتشابك العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين اهالي القريتين يجعلان الحدود بينها شبه غائبة، لكن «غيمة الاحد»(11 الشهر الحالي)، كما سماها عدد من الاهالي فعلت فعلها. عاد الانتماء الطائفي يطبع كلا منهما، فصارتا: كيفون الشيعية وبيصور الدرزية.

ولولا هذا الانقباض، لما ادرك العابرون ان المعارك دارت في الارجاء. ذلك ان آثار القصف تكفّلت الطبيعة بالتعتيم عليها. وحدها الآثار في النفوس بدت واضحة. بين كيفون وبيصور روايتان مختلفتان كل الاختلاف، لمعركة واحدة. على طريق كيفون المقفرة تمشي أمل بحذر والقلق يفيض من عينيها. تروي «القصّة» لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «لم يدخل احد القرية. كانوا يطلقون النار علينا من بيصور. كانت رصاصات قنص، نجوت من احداها التي اخترقت جدار منزلي. تجهّز الشباب وحضّروا السلاح تحسبا ودفاعا عن النفس، خصوصا بعدما قتل شاب من القرية في السابعة عشرة، برصاص قنص اصابه وهو في منزله». لماذا كل هذا الخوف بعد وقف اطلاق النار؟ تجيب: «لقد أقاموا حاجزا الاربعاء الفائت في عيتات. وسألونا عن هوياتنا. وحين تبيّن اننا من كيفون انذرونا بعدم المرور مرة ثانية في اليوم نفسه. زوجي يعمل في بيروت، لذلك نستعد كغالبية اهل القرية، للنزوح الى ان تهدأ الامور. نخشى تكرار عمليات الخطف. وصراحة اقول لولا حزب الله لا اجرؤ على البقاء في القرية وإن ليوم واحد». وأضافت: «الجرح الذي خلّفته هذه المعارك لن يندمل سريعا. أخشى عمليات الثأر بعدما سقط منهم 40 شهيدا. إنهم لا يذيعون أسماءهم كما هي العادة في القرى، ويكتفون بأوراق النعي. وفي القماطية، الخوف اكبر لانها تقع في اسفل الجبل ومحاطة بقرى درزية».

أما في بيصور فيطالعك الشاب ريمان حيدر برواية مناقضة تماما: «كانت الثانية من بعد ظهر الاحد. كنت في دكاني وسمعت رشقات نارية من كيفون باتجاه بيصور. فسارعت الى الاقفال وعدت ادراجي الى قريتي مجدليا. أعتقد انه لو كان صحيحا ما يقال، من أن أبناء بيصور بدأوا بالتصويب نحو كيفون، لكنّا على الاقل علمنا بتوتر الاوضاع وحضّرنا انفسنا للمغادرة». وتعقّب سيدة رفضت اعطاء اسمها: «كان اطفالي يلعبون أمام المنزل وكنّا على سطوح المنازل. لم نتوقّع ان تنتقل الينا المعارك، لنصير هدفا. كل ما حصل لا نرغب في ان يتكرّر، ونتمنى أن تطوى الصفحة الى الابد». يضيف حيدر: «بعد كل ما حصل يفضّل كثيرون سلوك طريق اطول تجنبا للمرور بكيفون. أحدهم قال لي لو فرشوا الارض سجادا احمر بين القريتين لن أدوسها. نشعر بأننا طُعنّا في الظهر، بعدما كانوا اخوة لنا». وتابع: «اقدّر ان حزب الله خطط للمعركة قبل شهر على الاقل، لانهم كانوا ينتشرون في مواقع استراتيجية على اطراف القرى. ثم أيعقل ان يطالبونا بتسليم السلاح فيما كنا نتعرّض للقصف؟ ماذا كانوا ينتظرون منا إذا بادرونا بالقصف؟ واجبنا حماية قرانا».

وفي دار بلدية كيفون، مشهد آخر إذ كان يجتمع نائب رئيس البلدية محمد الحاج حكيم بنظيره في قرية بيصور نديم ملاعب للبحث في «سبل اعادة اللحمة بين ابناء القريتين».

يقول ملاعب: «روابط الدم والتاريخ المشترك الذي يجمع القريتين أقوى من كل ما حصل. لم ينقطع التواصل مع اهلنا في كيفون وهناك تحركات لاعادتها. وعدم سقوط ضحايا بين القريتين أمر مشجّع. نحمّل القرار السياسي مسؤولية ما حصل. فإذا رتّبت الاجواء تعود الامور الى طبيعتها بين القريتين». وروى ان «الحاج حكيم أنقذ عائلة درزية علما انها من الخط السياسي الثاني».

ويرفع الحاج ابراهيم جابر (63 سنة) صوته: «لقد لعب الشيطان دوره. المنطقة، منطقة تعايش. وجميعنا اهل وأصدقاء نتشارك الافراح والاتراح. لا يستغني أحدنا عن الآخر. أذهب الى بيصور لاحضار الادوية وهم يأتون لشراء الحاجيات». ويضيف: «أيعقل انني عشت حروب 1958 و1975 و1983 و1990؟ واليوم ايضا؟ لقد أهدرت العمر بين الحروب وتسديد الضرائب. فليتركونا نعيش بسلام. إن المال هو اصل خراب البلاد». وإذ رفض الدخول في تفاصيل ما حصل، قال: «القصة بدأت مع الشحن السياسي، انفجرت مع قنص الشاب وهو في بيته. حينها شعر الاهالي بالخطر يدهمهم وإن لازموا بيوتهم، فكيف بالأحرى إذا ارادوا التنقل؟».

ابتسامة هادئة ترتسم على وجه احدى شابات كيفون، وبهدوء تقول: «نأمل في ان تعود اللحمة. وبإذن الله تعالى ستعود. فإن لم تعد... ستقع المشكلات. الخوف يسيطر على الجميع ولا نضمن التنقّل». وتروي: «شقيقي، وهو يعمل سائقا لمواطن سعودي، تعرّض للضرب وهدد بالقتل في قرية شملان التي قصدها لاحضار المياه. ولولا وساطة الرجل السعودي وتدخّل بعض الاوساط السياسية لقتل. أما شقيقي الثاني وهو في الجيش وقد اعتاد النزول الى بيروت برفقة احد ابناء بيصور، فتركه الآخر وقال له صراحة: لانك من كيفون سأتركك تنتظر ولن أقلّك».

تعلّق سيدة اخرى على «جهود اللجنة العربية. لو اتى (الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو) موسى وحده لكنّا اعلنا الفشل. ولكن هذه المرة أعتقد ان هناك شيئا ملموسا».