ملك المغرب للمشاركين في ندوة أصيلة: الحضارات الإنسانية ملك للبشرية جمعاء ولايجوز لأي أمة ادعاء احتكارها

الأمير سلمان: نهج احتواء الثقافات خطة أصيلة أنبتتها عالمية الإسلام والعروبة

الأمير سلمان وإلى جانبه ميغيل انخل موراتينوس خلال الجلسة الافتتاحية لأصيلة («الشرق الأوسط»)
TT

ثمن العاهل المغربي الملك محمد السادس موضوع الندوة الأولى، التي تنظمها جامعة المعتمد بن عباد الصيفية، في إطار فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي الثلاثين. ويتعلق الأمر بندوة «تحالف الحضارات في الفضاء العربي ـ الافريقي الايبيرو ـ لاتينو ـ اميركي».

وقال العاهل المغربي في رسالة وجهها امس الى المشاركين في الندوة، وتلاها المستشار الملكي محمد معتصم، «ان اختياركم لموضوع تحالف الحضارات في فضاء تتميز بلدانه بانسجامها وتواصلها، تاريخيا وثقافيا وحضاريا، ليعد استمرارا طبيعيا ومنطقيا، لمبادرات طيبة ودعوات صادقة، أعلنت عن نفسها في أوقات وسياقات متقاربة، وعبرت عن انشغالات شخصيات فكرية وسياسية رفيعة، لمواجهة خطر التزمت والانغلاق والإرهاب، وتأجيج التطرف بالأطروحة الزائفة لصدام الحضارات».

واضاف العاهل المغربي ان بلاده ما فتئت تتخذ كل المبادرات، وتنخرط بقوة في كل الجهود الخيرة، العربية منها والافريقية والايبيرية، والاورو ـ متوسطية والاسيوية، ايمانا منها ان الصدام لا يكون الا بين الجهالات، اما الحضارات، فان جوهرها التفاعل، لما فيه خير الانسانية جمعاء، في نطاق احترام خصوصيات الهويات والثقافات.

واشار ملك المغرب الى ان بلاده كانت في طليعة المساهمين في قمة نيويورك الخاصة بتحالف الحضارات.

ودعا الملك محمد السادس جميع المؤمنين بتسامح وتعايش الديانات، وبتلاقح وتفاعل الحضارات، للتصدي للنزاعات الهدامة، المحدقة بها جميعا.

وقال العاهل المغربي ان الحضارات الانسانية، ليست سوى سلسلة مترابطة ومتكاملة الحلقات، وهي بذلك ملك للبشرية جمعاء، لذا لا يجوز لأية امة او شعب، مهما بلغت درجة اسهامه فيها، ادعاء احتكارها، او الوصاية والاستعلاء عليها، مشيرا الى ان المغرب، كأرض للتمازج العربي ـ الايبيري والافريقي، ليتوق دائما الى مد جسور التفاهم والتعاون بين الحضارات، مركزا على القواسم المشتركة بينها، معتمدا في ذلك حسن الجوار، ونهج الحوار والتفاوض الجدي، وسيلة لحل النزاعات في نطاق احترام سيادة الدول ووحدتها الوطنية والترابية، فضلا عن جعل التعاون والتنمية المشتركة، إليه بامتياز لترسيخ الامن والاستقرار، وصيانة كرامة الانسانية، وبخاصة في افريقيا.

ودعا العاهل المغربي فعاليات مؤسسة منتدى أصيلة للانكباب على انجاز دراسة معمقة، واجراء مسح شامل للفضاء الحضاري العربي الافريقي، والايبيرو ـ لاتينو ـ اميركي، بمختلف عناصره ومكوناته. وقال «ذلكم خير منطلق لتجسيد ما نتوخاه، من قيام مؤسسة تعنى بتعزيز النهوض بتحالف الحضارات في تعميق البحث المقارن في هذا الشأن انطلاقا من قاعدة الترابط بين مكونات النسق الحضاري الكوني، ومن اعتبار ان الانسان وحضارته، مهاجران بطبعهما، تحكمهما الحركية والتلاقح، ومسافران زادهما في الحل والترحال، المعرفة والاتصال».  واشاد الملك محمد السادس بالجهود الخيرة التي يبذلها محمد بن عيسى، الامين العام لمؤسسة منتدى اصيلة، وكافة اعضائها وشركائها، لتجسيد ارادة والده الراحل الملك الحسن الثاني، وارادته هو (الملك محمد السادس)، كرئيس شرفي لهذا الملتقى، منذ تأسيسه، وذلك في جعل الثقافة رافعة اساسية للتنمية، وجسرا للتواصل الحضاري، وتوطيد المكانة الرفيعة لموسم اصيلة، وهو ما بوأ هذه المدينة الجميلة (اصيلة) مكانة متميزة كحاضرة جذابة للسائح والمفكر والمبدع ومنارة مشعة وطنيا وجهويا بموسمها الذي غدا من الملتقيات المتألقة دوليا.

ومن جهته، ألقى الامير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض كلمة بمناسبة مشاركته في المهرجان جاء فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم فخامة الرئيس أحمد تجان قبة ـ الرئيس السابق لجمهورية سيراليون أيها الحضور الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، أنا سعيد أن اكون في المغرب هذا اليوم وسعادتي ليست جديدة, إذ بدأت ايام الملك محمد الخامس ثم الملك الحسن الثاني ثم اخي وصديقي الملك محمد السادس. انا مغربي هنا كما أنني سعودي هناك.

في البدء يطيب لي أن أشكر معالي الأستاذ محمد بن عيسى لهذه الدعوة الكريمة لحضور مهرجان أصيلة لصيف سنة 2008 مع أن أواصر المودة تفرض التلبية والحضور بلا دعوة.

كما أشكر لكم جميعا حضورَكم وتفاعُلكم مع المهرجان لتحقيق أهدافه النبيلة.

كنت قد عرفت معالي الأخ بن عيسى سنة 1989 يوم توافق معرض المملكة العربية السعودية مع مؤتمر القمة العربية في الدار البيضاء، وافتتح معرض المملكة جلالة الملك الحسن الثاني وخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز ـ رحمهما الله ـ وفي كلمتي ذلك اليوم استعرضت العلاقات بين المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية وأشرت إلى قِدَم هذه العلاقات، فقد جرت مكاتباتٌ وتواصُلٌ بين سلطان المغرب: سليمان بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل، وبين سلفنا الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود سنة 1226 هجرية الموافقة 1811 ميلادية في كتابٍ حمله الأمير إبراهيم بن السلطان سليمان، حيث ترأس وفدًا يضم عددًا من الفقهاء البارزين منهم القاضي محمد بن إبراهيم الزدّاغي والعباس بن كيران ـ كما ورد في كتاب: (المغرب عبر التاريخ ج2 ص164) للمؤرخ المغربي إبراهيم حركات ـ وعلى أثر ذلك كرمني الملك الحسن بوسام المعرفة؛ فقد فرح ـ رحمه الله ـ بمعرفتي لدقائق تاريخية من مراجع مغربية.

وكان معالي الأخ بن عيسى آنذاك وزيرًا للثقافة وهو المُكلف بمرافقتي خلال زيارتي تلك للمملكة المغربية، وقد استمتعتُ بصحبته التي أصبحت صداقة أعتز بها.

وفوق ذلك تجمعنا عقيدتنا الإسلامية وعروبتنا، وإنه يسرني أن ينهج الشعب المغربي نهج احتواء الثقافات، فهي خُطة أصيلة أيضا أنبتتها عالمية الإسلام والعروبة، فقد حوى الإسلام في أمته جميع الحضارات: العربية والآسيوية والأفريقية والأوروبية على امتداد العالم في القديم والحديث بين شرقِهِ وغربهِ، وهذا دليلٌ تاريخيٌ يشهد لعالمية الإسلام وأنه الإضاءة المُؤثرة في مسيرة شعوب العالم وإن لم يُؤمِن به بعضهم.

وإذا أردنا استدلالا وراء ذلك نَجِدُهُ في آلاف كتب تراثنا التي تنتظم فروع ثقافتنا ومعارفنا وتحتضنها مكتبات العالم؛ فلقد كانت الأندلس مركز الإشعاع الفكري والحضاري في غرب أوروبا بينما كان بعض أوروبا يعاند بقايا الحضارتين الإغريقية والرومانية، وورث المغرب العربي تراثَ الأندلس فحفظ أصوله وصبغ بها كِيَانَهُ، تماما كما كانت الحركة العلمية في دمشق وبغداد: مراكز النبوغ الفكري في سائر الممالك شرقا وغربا.

والأصل الأول لذلك كله من الجزيرة العربية مهد العروبة حيث انطلقت دعوة الإسلام، وإننا في المملكة العربية السعودية ـ بحمد الله وتوفيقه ـ نَجِدُ علاقاتنا وصداقاتنا الثابتة على العقيدة الصحيحة والعلم النافع وعدالة الكلمة وأمانة التعامل وشراكة العمل: هي جِسرُ اتصالنا بشعوب العالم عامة وبالمغرب العربي خاصة بروابط التميز والمودة، فليست وليدة اليوم لأن جذورها نشأت حتى من قبل الإسلام عندما كانت الجزيرة العربية ممرًا للقوافل بين الشرق والغرب ترعى رحلة التواصل الحضاري وتمثل ملتقى الثقافات في حركة تأثير وتأثر، وظلت الجزيرة العربية تفي للإنسانية بهذا الأداء إلى اليوم وإلى غدٍ إن شاء الله.

واليوم تخطو المملكة نفس الخُطى بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ حفظه الله ـ فقد أسس مبدأ الحوار الهادف حين دعا إلى المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار ـ المنعقد في مكة المكرمة ـ وأخيرا افتتح في مدريد المؤتمر العالمي للحوار بين الأديان بدعوةٍ منه وحِرص على إنماء العلاقات الكريمة بين الشعوب، ورعَى هذا المؤتمر العاهلان السعودي والإسباني.

وإننا اليوم في مهرجان أصيلة الثقافي جئنا نحمِلُ تاريخا ثابتا لا زيف فيه وصِلاتٍ قوية وثمارًا يانعة من بستان الثقافات والحضارات ويسعدني ـ وأرجو أن يسعدكم ـ أن نرتكز على أصولنا الثابتة في كل دعوة للتواصل الفكري من أجل غدٍ مُشرق يعم الإنسانية بالوعي وبالسلام.

وهذه تحيتي لجميع المشاركين مُتَمَنيًا لكم التوفيق في أداء رسالة المعرفة حيثما تكون. والله ولي التوفيق ومن جهته، قال محمد بن عيسى، في الكلمة الافتتاحية لموسم أصيلة الثقافي انه ما كان يمكن لهذا النجاح المتوالي، وبالصورة التي تحقق بها، ولهذا الصرح الثقافي أن يظل قائما، لولا العناية الفائقة التي أسبغها دائما على مواسم أصيلة، الملك محمد السادس، منذ كان وليا للعهد، أي منذ عام 1978 «حينما شرف جلالته مدينتنا بحلوله بين أهلها حيث تفقد مشاغل الفنون التشكيلية المقامة، لتتوالى زيارات جلالته لأصيلة في عدة مواسم بعد ذلك».

وقال بن عيسى انه يصعب عليه في عجالة، أن يستعرض المحطات التي عبرها مشروع أصيلة الثقافي، حتى أصبح على صورته الحالية، وكذلك الرهانات والتحديات التي واجهت هذه المسيرة الفكرية والفنية والثقافية، والتي تزامن انطلاقها مع انبثاق وتبلور مغرب جديد، اتضحت معالمه بعد حدث المسيرة الخضراء المظفرة التي اقترنت بتدشين المسلسل الديمقراطي في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، والذي يعرف في عهد خلفه الملك محمد السادس، طفرة نوعية مميزة، مست في العمق، مختلف مظاهر الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلاد.

واضاف بن عيسى قائلا: «أكيد، أنه لا أحد منا ضمن في الماضي استمرار مشروع أصيلة الثقافي الذي يجمعنا اليوم، ولا سيما في ظل الأجواء والتقلبات المتلاحقة التي عرفها عالمنا، في غضون العقود الأخيرة، والتي تجلت على الخصوص، في اشتداد أوار الحرب الباردة بين ما كان يسمى بالمعسكرين الشرقي والغربي، وما تلاها من ذيوع ثقافة وقيم حقوق الإنسان، ثم انبثاق حقوق المرأة والطفل، والتنمية البشرية المستدامة، والتعدد الثقافي والإثني، والتجمعات الاقتصادية الإقليمية وطغيان العولمة، فضلا عن التغييرات المناخية التي باتت هاجسا مقلقا لساكنة كوكبنا».

وقال بن عيسى انه في خضم تلك السياقات المضطربة والمتشابكة، حافظ موسم أصيلة على هويته الأصل التي أعلنها منذ دورته الأولى، كفضاء مستقل لحوار ممكن وضروري بين الثقافات وتلاقي الحضارات، من خلال النخب المفكرة والمبدعة التي توافدت عليه خلال ثلاثين سنة متوالية. واشار بن عيسى الى ان جيلا من المغاربة واكبوا مواسم أصيلة الثقافية، وكان زوارها والمقبلون على فعالياتها، يمثلون مختلف الشرائح المجتمعية من أساتذة وباحثين وطلبة ومبدعين ومهتمين بالشأن الثقافي عموما، اذ أمكنهم متابعة العديد من التظاهرات الفكرية والفنية، مثلما تعرفوا عن قرب واختلطوا ودخلوا في نقاش مع عدد من المبدعين، وفدوا على أصيلة من مختلف أنحاء العالم، فأضفوا قيمة ومتعة وبهجة على مواسمها.

واوضح بن عيسى انه «حين بدأنا في عام 1978، وجه خطواتنا مقصدان رئيسيان: جعل الثقافة وسيلة من أجل تحقيق التنمية، ومنطلقا لها، حينما لا تتوفر الثروات الطبيعية المتعارف عليها اقتصاديا، اقتناعا منا آنذاك حتى الآن، أن الإنسان يشكل الثروة الدائمة والباقية».

أما المقصد الثاني، يقول بن عيسى، فقد تجلى في «محاولتنا ورغبتنا أيضا، في تعبيد طريق سالكة لحوار منساب، بين الشمال والجنوب والجنوب ـ جنوب، وتأسيس ما يصطلح عليه البنيات الارتكازية اللازمة».   من جهة أخرى، قال بن عيسى: سيتم خلال هذا الموسم رفع الستار عن منحوتة للفنان المكسيكي الكبيـر انريكي كربخال سيباستيان الذي يتوج أيام المكسيك الثقافية التي تنظم بالتعاون مع سفارة المكسيك في المغرب. كما يتم خلال هذا الموسم الإعلان عن شراكة جديدة بين مؤسسة التراث في المملكة العربية السعودية، التي يرأسها الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، حيث «سنوقع معه اتفاقية بين مؤسسة التراث السعودية ومؤسسة منتدى أصيلة، للعناية بالتراث في تعبيراته المادية والمعنوية، عن طريق تبادل الأبحاث والخبرات والمعلومات».

وابرز بن عيسى ان موسم أصيلة ومشروعها الثقافي، حاول على مدى السنوات المنصرمة، أن يزرع البذور ويعتني بالجذور، «فأولينا الطفل ما هو جدير به من صقل ورعاية لمواهبه وتطوير قدراته الإبداعية وتنمية حاسة تذوق الأشياء الجميلة عنده، من خلال «مشغل الطفل» الذي يستضيف المبدعين من الأطفال كل موسم، ومن خلال صباغة الجداريات. هدفنا من ذلك أن يصبح الإنسان منذ طفولته محاطا بالفن والجمال في البيت والطرقات والممرات والجدران». إننا نعتقد، بتواضع، يقول بن عيسى, «أننا كسبنا هذا الرهان، فأصبح سكان مدينتنا حريصين على نظافة مدينتهم والحفاظ على الأعمال الفنية المعروضة والأنشطة المقامة يتنافسون في إظهار علامات الاستقبال اللائق والترحيب بضيوف مدينتهم».