«القاعدة» في الذكرى العشرين على إنشائها.. هل انتهت أم أنها ما زالت نشيطة؟

استراتيجية «العدو البعيد خير وأولى من العدو القريب».. منيت بفشل ذريع

شرطي أفغاني يراقب حركة السير في العاصمة الافغانية كابل (أ.ف.ب)
TT

في أعقاب مرور 20 عاما على بداية إنشاء أسامة بن لادن لمنظمته «القاعدة» في مدينة بيشاور على الحدود الباكستانية، التي تضم عددا كبيرا من المقاتلين، الذين شاركوا في القتال ضد القوات السوفياتية إبان غزو أفغانستان، لا تزال تلك المنظمة تحظى بالشهرة وتثير الخوف في نفوس الأفراد والشعوب أكثر من ذي قبل. لكن مشروعها الأكبر الذي يتلخص في تحويل العالم الإسلامي إلى دولة خلافة إسلامية مقاتلة، مني بفشل ذريع. وترجع أسباب ذلك الفشل إلى أن استراتيجية بن لادن في الوصول إلى الأرض الموعودة كانت محض خيال جامح. فزعيم «القاعدة» ظن نفسه خبيرا استراتيجيا، لكن كل خططه ومهاراته القيادية وشخصيته الكاريزمية اجتمعت في استراتيجيته التي ثبت فشلها.

كانت خطة بن لادن إسقاط أنظمة عربية، واستبدالها بأنظمة دينية على غرار طالبان، وهو يعتقد أن الطريقة المثلى لتحقيق ذلك عن طريق مهاجمة العدو البعيد (الولايات المتحدة) ثم مراقبة المارقين المزعومين وهم الأنظمة الإسلامية الحاكمة التي تدعمها الولايات المتحدة، والتي يسميها «العدو القريب» وهي تتهاوى.

قد يحدث ذلك إذا ما تحولت الولايات المتحدة إلى نمر من ورق، يمكن أن يتلقى بعض الضربات القليلة من «القاعدة»، لكنها لم تفعل. فتحليلات بن لادن لم تبد فهما للمصالح الحيوية ـ النفط وإسرائيل والاستقرار الإقليمي ـ التي تعزز الارتباط الأميركي بالشرق الأوسط ناهيك من الغضب الأميركي العارم الذي يمكن أن يحدث إذا ما هوجمت أراضيها منذ أن أحرق الإنجليز البيت الأبيض عام 1814.

حقيقة الأمر أن خطة بن لادن نتجت عنها نتائج عكسية. فعوضا عن الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، يحتل العراق الآن ودوريات حلف الناتو تجوب شوارع قندهار العاصمة القديمة لحركة طالبان حلفاء بن لادن، والعلاقات بين الولايات المتحدة وغالبية الأنظمة الشمولية في العالم العربي أقوى من ذي قبل، إذ يتقاسمون هدفا واحدا، وهو إلحاق الهزيمة بالمتطرفين الإسلاميين. وبالنسبة لغالبية القادة فإن هذا الإخفاق الاستراتيجي التام سيتطلب إعادة صياغة الأفكار والاستراتيجيات، وليس الأمر مقصورا على بن لادن فقط، فربما يكون قد وضع إستراتيجية جديدة في أعقاب إسقاط الولايات المتحدة لحلفائه طالبان في شتاء 2001. وربما يكون قد قال لأتباعه إن استفزاز أقوى دول العالم سيتداخل مع هدف «القاعدة» في إنشاء أنظمة على النمط الطالباني.

وبدلاً من ذلك استمر بن لادن في وضع الولايات المتحدة عدوه الأول، كما اعتاد أن يذكر ذلك دائما في أحاديثه التي دأب على التصريح بها منذ عام 2001. وفي ذات الوقت قامت «القاعدة» بتقويض مزاعمها بأنها الممثل الوحيد للمسلمين، عندما قتلت الآلاف منهم منذ 2001 وحتى الآن. هاتان الإستراتيجيتان ستكونان أهم الأسباب التي ستقف وراء الإخفاق الكامل لبن لادن ومجموعته في النهاية، لكن ذلك قد لا يكون في القريب العاجل، وحتى الآن تحاول «القاعدة» أن تجمع شتات نفسها كمنظمة إرهابية ومتمردة على طول الحدود الأفغانية الباكستانية، بعد الضربات المتلاحقة التي تعرضت لها، لتصبح نموذجا عالميا للإسلام المتشدد حول العالم.

والسؤال الآن ما هو مدى قوة ـ أو ضعف ـ «القاعدة» في الذكرى العشرين على إنشائها؟ نشب نزاع حاد في بدايات هذا العام في واشنطن بين اثنين من كبار المحللين لقضايا محاربة الإرهاب، حيث قال مارك ساجمان المسؤول السابق عن ملف «القاعدة» في وكالة الاستخبارات الأميركية إن خطر المنظمة كبير جدا. وحذر من احتمالية شن هجمات مستقبلية من قبل صغار جنود بن لادن من المتطرفين الذين تدربوا في أميركا ولا يرتبطون بصورة مباشرة بابن لادن، بينما حذر بروس هوفمان الأستاذ بجامعة جورج تاون من أن «القاعدة» تتقدم بصورة تدريجية ولا تتراجع.

تلك المناظرة تعد أكاديمية إلى حد ما، فإذا ما خلت ساحة الجهاديين على مستوى العالم من زعيم كاريزمي، فلن يكون الإرهاب ذلك الخطر الذي يثير هواجس الأمن لدى الولايات المتحدة ويصبح أمرا يمكن التعامل معه، فالمنظمات التي تخلو من القادة لا يمكنها القيام بعمليات مثل 11/9 التي تتطلب أعواما من التخطيط والتدريب، ومن ناحية أخرى وإذا ما كانت «القاعدة» قوية كما يعتقد هوفمان، فإن على الولايات المتحدة أن تنظم سياساتها في الشرق الأوسط وجنوب آسيا وفي الداخل لعقود قادمة.

ووجهة نظر ساجمان بأن خطر الجهاديين المولودين في أميركا، الذين لا يخضعون لقيادة أحد، يشاركه فيها أخصائيو مكافحة الإرهاب في أوروبا، الذين أخبروني أنهم لم يجدوا أية أدلة لوجود «القاعدة» في العمليات التي حدثت في بلادهم. ويقول بالتزر جارزون، الذي باشر التحقيقات مع المجموعات الإرهابية في إسبانيا خلال العقد الماضي: «في الوقت الذي لا يزال فيه بن لادن المرجع الرئيس لكل تحركات القاعدة فإنه لا يرى أي أثر للمنظمة في كل التحقيقات التي باشرها».

لكن تلك النظرة لا يشاركه إياها مسؤولو مكافحة الإرهاب في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية، حيث خلص تقييم الاستخبارات الوطنية الأميركية إلى أن خطر «القاعدة» مستمر في التعاظم ولم يتراجع. ما هو السبب وراء ذلك التباين في وجهات نظر الفريقين؟ ربما يكون الأمر راجعا بصورة كبيرة إلى تعامل الولايات المتحدة وبريطانيا مع ظاهرة جديدة ومزعجة، وهي الرابطة الجديدة والمتطورة بين بعض الإرهابيين البريطانيين صغار السن ومقرات «القاعدة» الجديدة على الحدود الباكستانية، فالتفجيرات التي شهدتها محطات مترو الأنفاق بلندن في 2005، والمحاولات التي أحبطت لتفجير طائرات عبر الاطلسي في 2006، والعديد من الخطط الإرهابية التي تم الكشف عنها، تعزز من وجهة نظر ساجمان بشأن «تطرف» المواطنين المحليين. ويقول مايكل شيبمان نائب مدير شرطة نيويورك المسؤول عن مكافحة الإرهاب حتى عام 2006: «إن الأشخاص حادي الطباع في المقهى دائما ما يكونون قليلين»، لكن «القاعدة» قادرة على تحويل هؤلاء الأشخاص إلى خلية فاعلة، فكما يقول «إن ذلك هو ما يقلق مسؤولو مكافحة الإرهاب، حيث لاحظوا أن عشرات من تلك النوعية من الشباب تتجه إلى المناطق القبلية في باكستان في السنوات الأخيرة. ويعد ذلك تحولاً كبيرا منذ عام 2006، فالجهاديون في أوروبا كانوا يتوجهون إلى العراق لكن أعداد هؤلاء الجهاديين تراجعت إلى الصفر في الآونة الأخيرة، وفق الإحصاءات التي أدلى بها الكثيرون من خبراء مكافحة الإرهاب في أوروبا، ويرجع السبب في ذلك إلى أن «القاعدة» في العراق تبنت شيئا أشبه ما يكون بالانتحار. فقد كانت «القاعدة» تهيمن على قطاع عريض من المناطق السنية في العراق، وأسهمت في نشوب حرب أهلية عبر استهداف الشيعة، لكنها ما أن بدأت في تطبيق النهج الطالباني في منع التدخين والحلاقة على السكان السنة، وبدأت في قتال فصائل التمرد السنية الأخرى، الذين لا يشاركونهم وجهة نظرهم الأصولية، حتى انقلب السنة الآخرون ضدهم. و«القاعدة» اليوم في العراق أشبه ما تكون بالميتة على الأقل في كونها غير قادرة على فرض إرادتها على قطاع كبير من المواطنين، وقد تكون قادرة على القيام بالكثير من الفظائع وإفساد الهدنة الهشة عبر مهاجمة الشيعة، لكنها في هذه اللحظة تواصل نشاطاتها التي توقع الفوضى، كما أنها محاطة بالكثير من الأعداء. وفي الوقت الذي قد تبدو فيه الأخبار عن «القاعدة» في العراق جيدة إلا أن هناك بعض الدلائل المثيرة للقلق في أماكن أخرى، فمنطقة الحدود بين باكستان وأفغانستان، التي تعتبر مرتعا خصبا للجهاديين الذين يمارسون ما يشبه التمرد أصبحت مأوى للمقاتلين الأجانب، وأحد التطورات غير الجيدة هنا هو ممارسة «القاعدة» المركزية سيطرة كاملة على بيت الله محسود، القائد الجديد لحركة طالبان في باكستان، الذي تعهد بمهاجمة نيويورك ولندن. وفي بلد الجوار أفغانستان تبنت طالبان الأساليب الجهادية العالمية لابن لادن، التي ساعدتهم في القيام بتمرد خطر قائم على أساليب العمليات الانتحارية، واستخدام المتفجرات المتطورة، وقد امتد تأثير بن لادن إلى ما وراء المشهد الباكستاني والأفغاني. فمسؤولو مكافحة الإرهاب في الدول الأوروبية الذين أعربوا عن ارتياحهم من خلو بلادهم من خلايا «القاعدة» في بلادهم، أعربوا الآن عن قلقهم من حلفاء بن لادن في شمال أفريقيا وهم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الذين يظن أنهم وجدوا مناصرين لهم بين مهاجري شمال أفريقيا الفقراء من الذين يعيشون في فرنسا، وبلجيكا وإسبانيا. ومعركة «القاعدة» في كسب القلوب والعقول، لا تزال مستمرة أيضا. فقد أدرك بن لادن أن 90% من معركته يشنها في الإعلام وفوق كل ذلك لا يزال العنصر الفاعل في كل الأحداث. والدليل الأوثق لكل ما ستقوم به «القاعدة» أو الجهاديين الإسلاميين على مستوى العالم كان دائما موجودا بين ثنايا تصريحات بن لادن. ووفق مركز إنتل سنتر المتعاقد الحكومي الذي يتتبع الأنشطة الدعائية للقاعدة، فإن أسامة بن لادن أصدر منذ أحداث 11/9 أكثر من 20 خطبة، وتلك كلها رسائل تصل إلى الملايين في العالم عبر أجهزة التلفزيون، وتلك الرسائل تحض أتباع «القاعدة» على مواصلة عملياتهم القتالية، وقتل الغربيين واليهود، كما تحمل بعضها تعليمات إلى الخلايا الإرهابية.

* زميل في مؤسسة اميركا الجديدة ومؤلف كتاب «الجهاد: داخل العالم السري لأسامة بن لادن» وكتاب «بن لادن كما عرفته».. وهو أول صحافي غربي التقى زعيم «القاعدة».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»