تعديلات العقيدة العسكرية الأميركية تدفع الجيش لكسر صمته وتفعيل نظرية «التفوق المعلوماتي»

أصبح التعامل مع الإعلام جزءا إلزاميا من تدريب ضباطه

«فورت رايلي» في كانساس الأميركية حيث يسمح للاعلاميين بزيارة الجنود اثناء تدريبهم (تصوير: مينا العريبي)
TT

يعيش الجيش الاميركي مرحلة انتقالية مهمة منذ سنوات، على الصعيدين النظري والعملي. فبالاضافة الى التغييرات في العقيدة العسكرية الاميركية في ما يخص مكافحة التمرد وتدريب فرق عسكرية صغيرة تتولى مهام تدريب القوات العراقية والافغانية، هناك تغييرات في العملية النظرية في مكافحة التمرد والاقتراب من الشعوب حيث تحارب القوات الاميركية. فقد اصبح التعامل مع الاعلام الخارجي، بدلا من التركيز فقط على الاعلام الاميركي الداخلي، عنصراً اساسياً في تدريب القوات الاميركية وعملها. وقد ادرجت نصوص خاصة في الكليات العسكرية الاميركية خلال الاونة الاخيرة حول التعامل مع الاعلام ضمن مهمة «التفوق المعلوماتي» الذي يعتبر من ركائز العقيدة العسكرية الاميركية. وبينما تسعى القيادة العسكرية الاميركية ايصال رسالتها، تمنح في الوقت نفسه الفرصة للاعلاميين للتعرف على عالم المؤسسة الاميركية الخاصة، مع الحذر دوماً للحفاظ على «السرية العملية» التي عادة ما تستخدم لصد الاسئلة الخاصة بتفاصيل العمليات العسكرية. ويحرص العسكريون ايضاً على الامتناع عن الابداء عن رأي سياسي في وقت يزداد تسييس القضايا العسكرية مع خوض الحربين في العراق وافغانستان واقتراب الانتخابات الرئاسية الاميركية.

«كن الأول مع الحقيقة»، هذه الجملة الأولى في تعليمات الجنود الأميركيين في ما يخص «التفوق المعلوماتي» الذي أصبح جزءاً أساسياً من العقيدة العسكرية الأميركية، لتكون المعلومات على الصعيد الإعلامي، وليس فقط الاستخباراتي، من ابرز سلاح القتال الفعلي والفكري.

واعتاد الجيش الأميركي، كغيره من الجيوش حول العالم، على تنفيذ أوامر السياسيين وقراراتهم والابتعاد عن الإعلام بشكل عام من حيث تبرير عملياتهم. وعلى الرغم من أن المراسلين التحقوا بالجيوش الأميركية في الحروب تاريخياً، من الحرب الأهلية الأميركية مروراً بالحربين العالميتين وحروب لحقتها، إلا أن العلاقة بين الجيش والصحافة عادة تركزت على تغطية المعارك ونتائجها، بينما يلتزم الجيش تقليدياً الصمت ويترك لوزارة الدفاع «البنتاغون» والبيت الأبيض مهمة التصريح السياسي حول الحروب وتبريرها. لكن اليوم الجيش الأميركي يعتبر التغطية الإعلامية جزءاً أساسياً من الحرب الفكرية ضد «العدو، خاصة تنظيم القاعدة» و«الإرهاب» بشكل عام، ويعتبرها من بين مهامه الرسمية. ومع تعديل العقيدة العسكرية الأميركية بطريقة شاملة، أصبح الإعلام يلعب دوراً بارزاً في العمليات العسكرية بحسب كتيب «اف ام 3.0»، الذي نشر في فبراير (شباط) الماضي. ومنذ توليه منصب قائد «مركز الأسلحة الموحد للجيش الأميركي» العام الماضي، يعمل الفريق ويليام كولدويل على تشجيع الجيش على الانفتاح الإعلامي واستخدام الوسائل الإعلامية الحديثة، خاصة الالكترونية منها.

وعند زيارة القواعد العسكرية الأميركية، يحث القادة العسكريون الصحافيين على الحديث مباشرة مع الجنود، من دون تقييدات معلنة عدا «الأسرار العملية» لحماية عملياتهم، ويبرر المسؤولون الأميركيون فرض هذه القيود على أنها ضرورية عدم الكشف للعدو عن «ثغرات» يستطيع استغلالها. وعلى الرغم من أن الجنود يجيبون عن الأسئلة، إلا أنهم عادة ما يلتزمون بإجابات مشابهة ومحددة. فعلى سبيل المثال، عند الحديث مع عدد من الجنود حول سبب إرسالهم إلى العراق وما يأملون في تحقيقه، كان الجواب تقريباً دائماً «أريد حماية أصدقائي في وحدتي والتأكد من عودتهم سالمين إلى الوطن». وأكد المساعد المدني للجنرال كولدويل، دانكان بوثبي، المسؤول عن «الاتصالات الاستراتيجية»، أن «الأجوبة مبنية حقاً على شعور الجنود، فهم لا يتدخلون في الأمور السياسية»، مضيفاً: «لا نعطيهم تعليمات حول ماذا يجيبون، لكن الغالبية يشعرون بأن مهمتهم هي لحماية رفاقهم وهذا ما يعلمه الجيش، إنهاء المهمة والعودة سالماً». ويعتبر العسكريون أن هناك حاجة لاستخدام الإعلام على مستويين، الأول على المستوى الداخلي في الولايات المتحدة ومن اجل كسب التأييد المحلي لحربي العراق وأفغانستان. أما الثاني، فهو على مستوى خارجي، خاصة في الدولتين اللتين يحارب فيهما الجيش الأميركي من اجل كسب تأييد الشعوب ضد التطرف والمتمردين. وقال الرائد اون راي، وهو احد الطلاب في «الكلية للدراسات العسكرية المتطورة» في فورت ليفنورث: «منذ بدء التركيز على مكافحة التمرد كاستراتيجية في الحرب (عام 2005)، زادت أهمية تأثير المعلومات في عملنا»، مضيفاً: «هذا ما نحتاجه الآن، الذي بات أكثر ارتباطاً بالواقع هناك»، أي في العراق وأفغانستان. وشرح الرائد تراي موشاك، احد زملاء راي، الذي حارب في العراق بعد أن كان متمركزاً في الكويت وعاد لإكمال دراسته: «في العراق، عادة ما نكون نحن الجنود أول أميركيين يلتقيهم العراقيون، فعلينا إظهار وجه آخر غير وجه الحرب والقتال»، مضيفاً: «علينا أن نكون قوات دبلوماسية وليست فقط عسكرية وللإعلام والتواصل مع الشعوب من خلال وسائل الإعلام دور أساسي في ذلك».

وتعتبر مسألة الانفتاح الإعلامي الذي يروج له كولدويل جديدة على الجيش الأميركي الذي اعتاد على الابتعاد عن الإعلام والعمل من دون تبرير أفعاله، إذ انه ينفذ أوامر السياسيين. وقال كولدويل: «لدينا تقليد على أن تكون مهنتنا صامتة، معتبرين أن النتائج تتحدث عن أنفسها، لكن ذلك لا ينفع الآن وعلينا التأقلم على ذلك». وإيماناً بهذه النظرية، غير كولدويل المنهج التعليمي في الكليات التي يشرف عليها. وشرح كولدويل: «كل جندي جديد يلتحق بالكلية هنا عليه إكمال درس خاص من أربعة أجزاء حول وسائل الاتصال الاستراتيجية، تشمل الكتابة في المدونات الالكترونية وفهم قوة المعلومات المنتشرة من خلال المدونات الالكترونية، كما عليهم كتابة مقال حرفي للنشر عادة ما يتطلب التأمل بظاهرة أو حدث سابقة والكتابة عنها، وعليهم أيضاً إلقاء كلمة أمام جمهور قد يكون من طلاب مدارس للحديث عن تجربتهم، والعنصر الأخير هو القيام بمقابلة إعلامية، إما مع وسيلة إعلام مرئية أو مسموعة أو مطبوعة»، وأضاف «نحاول تعليمهم طريقة استخدام الوسائل المتاحة لهم لشرح مهامهم كجنود أميركيين وان كثيراً ما يكونون هم القصة المهمة». وأقر كولدويل بأن هناك «معارضة واسعة من قِبل بعض العسكريين لأنه تغيير عن النمط الذي عادة اتبعناه». ويذكر كولدويل نفسه أن قبل هجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001، أجرى مقابلتين إعلاميتين فقط خلال 25 سنة من الخدمة العسكرية، على الرغم من مشاركته في عمليات عسكرية في باناما وهيتي وحرب تحرير الكويت، موضحاً: «حينها أجبرت على إجراء كل مقابلة». لكن بعد هجمات 11 سبتمبر «تحولنا من اعتبار الإعلام غير مهم إلى اعتباره أحياناً اهم ما نقوم به».

وفي الدفعة الحالية من الطلاب الـ299 الذين بدأوا الدراسة في الكلية العسكرية في فورت ليفنورث منذ فبراير (شباط) الماضي، كان واحداً فقط منهم قد كتب في مدونة الكترونية. واليوم، كلهم يتعلمون مهارة استخدام الفضاء الالكتروني لصالحهم. وهذه سياسة لا تختصر على الجيش، فوزارة الخارجية الأميركية تتبع السياسة نفسها وقد عينت ناطقين باللغة العربية للدخول الى المنتديات الالكترونية والحديث مع الشباب العربي للترويج للسياسة الخارجية الأميركية.

وقال الرقيب أول فيليب جوندرو: «تعودنا على أن نكون المهنيين الصامتين»، مضيفاً: «كنا نعتقد أن الإعلام هو العدو، نعطيهم اقل معلومة ممكنة، لكن اليوم نشعر بارتياح للحديث من اجل توصيل وجهة نظرنا للآخرين».

وجزء من دخول الجيش في مجال الإعلام من بابه العريض يعود إلى مشاكل السياسيين في إقناع شعبهم بصواب قراراتهم السياسية، خاصة الحرب في العراق. وقال كولدويل: «إذا كنا نتحدث إلى الجمهور ونشرح فخرنا بما نعمله، يمكنهم التوصل الى قرار مبني على المعرفة»، موضحاً: «لا نريد تغيير أفكار الناس، هذا ليس غرضنا»، وأضاف: «لا اعتقد أنه عليّ إقناع أحد بما نقوم به، عليّ شرح واجبي وبعدها القرار يعود للشعب»، وتساءل كولدويل: «إذا لم يكن الجندي الأميركي مستعداً لشرح هذه الأمور، فمن؟، لدى كل جندي مسؤولية لشرح ما يقوم به».

وأردف جوندرو قائلاً: «نفهم حاجة الشرح للآخرين، ماذا يحدث وفي الواقع، وقلة الذين يفهمون حقاً ما يحدث»، وأضاف: «الجنود يتمتعون بدعم من الشعب، فكلما اخرج بلباسي العسكري يتوجه إليّ المارة ويحيون ما افعله، وهذا أمر ضروري نستطيع نشره».

ولفت الرائد راي الذي عاد للتو من العراق: «الشعوب لديها قوة خاصة، شعبنا وشعوب الدول الأخرى، ولا يمكن لنا التغاضي عن ذلك»، مضيفاً: «التواصل الإعلامي يساعدنا على التعامل مع الشعوب». ولفت الرائد بيديل، وهو احد زملاء راي في الكلية العسكرية: «لقد اقتنعنا بهذه الاستراتيجية بعدما كان منهجنا العام «لا تتحدثوا مع الإعلاميين»، لكن أصبح التواصل الإعلامي وسيلة مفيدة»، وأضاف: «اليوم هناك رأي عام عالمي يؤثر فيه الإعلام الدولي الذي طورته التكنولوجيا وطرق التواصل المختلفة مثل التلفزيون والانترنت، علينا ان نوصل وجهة رأينا عبرها». وقاطعه راي ليقول: «لا أتوقع من الإعلام أن يحور الواقع أو أن يبيع قصتنا، فقط أن يتيح لنا فرصة إعطاء وجهة نظرنا». وتقوم القيادة العسكرية باختيار عسكريين عائدين من ساحات المعارك في العراق وإرسالهم الى منتديات ولقاءات مع الشعب الأميركي للترويج بما يقومون به. كما أن إرسال الجنود المصابين بـ«مهام خاصة» للتواصل مع الشعب الأميركي يعتبر عنصراً أساسياً في التواصل مع الشعب الأميركي. فبالإضافة إلى اهتمام قادة الجيش بتعريف العالم الخارجي بمهامه حول العالم، يواجه بتحد آخر في تعريف الشعب الأميركي نفسه بمهامه. وقال كولدويل: «من بين التحديات التي نواجهها شرح ما نفعله للشعب الأميركي، فأقل من 0.5 في المائة من الشعب الأميركي يخدم في الجيش وعندما يحدث ذلك، نصبح منعزلين من المجتمع إذا لم نأخذ الوقت للتواصل مع المجتمع وشرح مهامنا ومبادئنا». ويعتبر كولدويل أن مهمته الحالية في المركز الثقافي هي «تطوير القياديين أولويتنا الأولى، لأنه من دون قياديين فعالين لن نصل إلى ما نرنو إليه، والأولوية الثانية هي جعل كل الحكومة مرتبطة بما نعمله، فعلينا الاستعداد لذلك من خلال التدريب والتنسيق، بينما الأولوية الثالثة هي في التعريف عما نقوم به والتواصل مع الجميع»، وأضاف: «التواصل الاستراتيجي يعني انه علينا ان نحسن قابليتنا على توضيح ما نقوم به، لا يمكن ان نعتمد على الصحافة بأن تكون الناطقة باسمنا». وتبنى الجيش الأميركي وسائل عدة للتواصل مع الإعلام، من تنشيط وحدات إعلامية في العراق وقطر وأفغانستان الى شراء «البنتاغون» مساحات معينة في الصحف المحلية لنشر مقالات مدفوعة الثمن للترويج للجيش الأميركي. وبينما أكد كل من تحدث لـ«الشرق الأوسط»، رفضه لأسلوب «شراء» التغطية الإعلامية، تبقى هذه وسيلة من وسائل خوض «المعارك الفكرية» التي امتدت ساحات قتالها الى صفحات الصحف المحلية وشاشات الكومبيوتر حول العالم.

وقال الرائد موشاك: «كان هناك الكثير من الحديث عن كسب قلوب الشعوب وعقولها، لكن قبل ذلك يأتي الحوار مع تلك الشعوب وإقناعها، وهنا يأتي دور الإعلام».

«التفوق المعلوماتي»: تحدي العدو والوصول إلى الجمهور أولا

* يعرف الجيش الاميركي «التفوق المعلوماتي» بأنه «الافضلية العملية المستخرجة من القابلية على جمع ومعالجة وتوزيع السيل غير المنقطع من المعلومات بالتزامن مع منع أو استغلال قابلية الخصم على فعل الشيء نفسه». وفي ما يلي ابرز المقتطفات من كتيب «اف إم 3.0» حول مساعي الجيش الاميركي لتحقيق هذا «التفوق المعلوماتي»:

* «علينا التذكر بابلاغ الجمهور المحلي (العربي/العراقي) أولاً ـ الجمهور الاميركي/العالمي يلحقهم».

* «كن صريحاً ولا تسمح ابداً للعدو ان يقف من دون تحد».

* «طالب بالدقة والتشخيص الصحيح من الاعلام».

* «المعلومات تحدد البيئة العملية ـ انها عامل مهم، واحياناً العامل الحاسم ـ في الحملات والعمليات الكبرى».

* «العناصر المساهمة في التفوق المعلوماتي هي: مهام الجيش المعلوماتية، الاستخبارات والمراقبة، ادارة المعرفة، ادارة المعلومات».

* «محاربة القيادة والتحكم وتعتمد على الهجمات الفعلية ومحاربة الالكترونة وعمليات شبكات الكومبيوتر المدعومة من قبل الامن لتحطيم واستغلال آلية العدو للتحكم ومنع وصول المعلومات اليه».

* «أمن العمليات يعتمد على تشخيص عناصر المعلومات الصديقة وتقييم خطر حصول العدو على تلك المعلومات».

* «الخدع العسكرية تشمل كل الاعمال التي تؤدي الى مخادعة قادة العدو... افضل نجاح هو ان يؤدي الخداع العسكري الى قيام قادة العدو بخطأ كبير يمكن للقوات الصديقة ان تستغله». «على القادة ان ينجحوا في صراع مستمر من اجل التفوق المعوماتي، يبدأ هذا الصراع قبل نشر القوات ويستمر لفترة طويلة بعد انتهاء العمليات العسكرية التقليدية».