«والتر ريد» يستقبل جرحى الجيش الأميركي من العراق ويواجه مشكلة إعادة دمجهم في المجتمع

مخاوف من «رياح التغيير» في نظرة الشعب للجنود بسبب معارضة الحرب

قسم خاص لمعالجة وتدريب الجنود الذين فقدوا أحد أطرافهم في «والتر ريد» (تصوير: مينا العريبي)
TT

على الرغم من ان الجيش الاميركي يتمتع بأكثر الاسلحة تقنية وافضل الكليات العسكرية، الا انه مازال يعاني في العراق من جراء اسلحة بدائية، تجعل حروب الشوارع ونظريات التمرد الوسيلة المفضلة، التي يستخدمها المناوئون للولايات المتحدة لمحاربتها. وتكثف الولايات المتحدة جهودها لكسب الحرب في العراق، من خلال الاعتماد على نظريات مكافحة التمرد، الا ان المسلحين هناك يعتمدون على العبوات الناسفة، الخارقة للمدرعات المحصنة، لمنعها من النجاح. وخلال السنوات الاربع الماضية، تصاعدت اعداد المصابين بين الجنود الاميركيين في العراق، بسبب هذه العبوات وعمليات القتال، ليفوق عددهم 31 الفاً. وبعد استعراض العقيدة العسكرية الاميركية على مدار 3 ايام، تتناول «الشرق الاوسط» في الحلقة الاخيرة موضوع الجنود الاميركيين المصابين بعد زيارة مركز «والتر ريد الطبي»، الذي يستقبل فيه الجيش المصابين اصابات خطيرة. ومن اهم اقسام المركز الضخم، مركز خاص للذين فقدوا احد اطرافهم، وهي اكثر الاصابات المثيرة للانتباه وتعتبر علامة بارزة لنتائج الحرب التي على الرغم من اعلان الرئيس الاميركي جورج بوش انتهاءها في مايو (ايار) 2003 مازالت تجني الضحايا والمصابين. ربع مساحة العالم تفصل بين بغداد وواشنطن، وسكان منطقة جورجيا افنيو يبتعدون كل البعد عن مدينة الصدر والاعظمية والشورجة.. ولكن تقترب المساحة بشكل لافت في مكان واحد بالنسبة للاميركيين، وهو «مركز والتر ريد الطبي». فعلى بعد بضعة كيلومترات من البيت الابيض ووزارة الدفاع الاميركية «البنتاغون» يوجد مركز يحتوي على علامات تشير الى ابرز نقاط قوة وضعف الولايات المتحدة في «الحرب على الارهاب» وحصيلة 7 سنوات من خوض ادارة الرئيس الاميركي جورج بوش حربين بالنسبة للشعب الاميركي. ففي «مركز والتر ريد الطبي» يستقبل الاميركيون جرحى صفوف الجيش وفيه اكبر مركز للمصابين من جراء العبوات الناسفة التي باتت اشد سلاح يلاحق الاميركيين في العراق وافغانستان. عند التجول في المجمع الضخم الذي يضم مباني المركز الطبي، يفاجأ الزائر برؤية اماكن مخصصة لالعاب الاطفال وممارسة الرياضة، بينما يتجول البط في الحدائق التي تزينها النافورات والورود ومبان فخمة تخفي حقيقة قاسية. فهنا يأتي الجنود الذين يعانون من ابلغ الجروح من ساحات المعارك، وأغلب المصابين في «مركز والتر ريد الطبي» هم من جرحى الحرب في العراق و90 في المائة من الذين يعالجون في قسم خاص بتركيب ومعالجة الاطراف المبتورة هم من المقاتلين في العراق. وقال الكولونيل كالاهان المسؤول عن العلاج الجسدي في «مركز والتر ريد الطبي» لـ«الشرق الأوسط»: «لا يوجد مكان اقرب الى العراق من هنا، فهو جزء اساسي من حياة وتجربة كل من يعالج ويعمل هنا». وقد اصبح المركز العسكري محوراً في الجدل الداخلي الدائر في الولايات المتحدة حول بقاء القوات الاميركية في العراق بعدما تصاعدت اعداد المصابين لتصل الى 31 الفاً منذ حرب 2003 في العراق، حوالى 740 منهم خسروا احد اطرافهم، عولج اكثر من 70 في المائة منهم في «والتر ريد». وكشفت صحيفة «واشنطن بوست» في فبراير (شباط) 2007 تفاصيل عن الوضع العام في «والتر ريد» ادهشت الشعب الاميركي. وقد حصل كتاب مقال «واشنطن بوست» على جائزة «بوليتزر» المرموقة لتغطيتهم التي اجبرت الادارة الاميركية على الانتباه الى الاعداد المتزايدة من «المقاتلين المصابين»، لكنها في الآن نفسه جعلت الجيش يقع في مأزق بين الحكومة ومنتقديها مجدداً.

وقال الكولونيل كالاهان ان «هناك 3 خصال مميزة للحرب (في العراق وافغانستان)، انها اطول حرب يخوضها جيشنا بناء على التطوع، كما ان اكثر من 50 في المائة من الجنود متزوجون». وأضاف في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «بالاضافة الى ذلك، نسبة الجنود المقتولين اقل بكثير من المجروحين». وكل هذه العوامل تؤثر في الجيش الاميركي اليوم وتزيد من الضغوط عليه وعلى المجتمع المحيط به، خاصة في ما يخص الجنود المجروحين العائدين الى الولايات المتحدة والمحتاجين لرعاية خاصة للاندماج مجدداً في المجتمع. وقد خرجت صورة عن مركز «والتر ريد» بأنه قاتم ويعاني من شحة الخدمات والموارد. ولكن تغير الكثير منذ العام الماضي بسبب الحملات الاعلامية التي اختصت بالمركز المخصص لمعالجة «المحاربين المصابين». وكانت «الشرق الأوسط» أول صحيفة عربية تدخل «والتر ريد»، حيث يعمل القائمون على المركز على توضيح صورة الوضع في المركز وعن حالة «المقاتلين المصابين» وهو اسم يطلقه الجيش على جرحاه. وأكد الاختصاصي في معالجة اصابات البتر روبرت باهر: «الناس هنا ليسوا مكتئبين مثلما يتصور البعض». وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «منذ ان بدأت العمل هنا، اكتشفت ان السر وراء ذلك هو ان هؤلاء (الجنود) يؤمنون بما يقومون به، ولذلك لا يعني انهم لا يشتاقون للاطراف التي فقدوها، ولكنهم يتعايشون مع الوضع». وتتراوح فترات علاج الجندي المصاب بين بضعة اشهر الى 3 سنوات، بحسب اصابته، فاذا كان الطرف الذي فقده ساقاً تحت الركبة، تستمر فترة علاجه بين 9 و12 شهراً، بينما تستغرق اصابات مثل بتر الساقين مدة قد تصل الى 3 سنوات. ويشمل العلاج الجسدي 3 اشكال، وهي: تقوية الاطراف لتتحمل الطرف الاصطناعي وتحسين صحة المريض بشكل عام واخيراً اعادة التوازن له كي يستطيع الوقوف والتحرك من دون الوقوع. وقد شهد قسم المبتورين في «والتر ريد» اصابات تشمل بتر طرفين وحالات نادرة من بتر 3 اطراف. ويؤكد المسؤولون في المركز ان عدد حالات الاصابات الشديدة ازدادت في السنوات الثلاث الاخيرة بسبب العبوات الناسفة التي يستخدمها المسلحون في العراق وافغانستان. وقالت الكولونيل سبرينغر: «كلما رأينا طبيعة الجروح تتغير، غيرنا نظامنا ليتناسب معهم.. هناك تأثير بعيد الامد على آلية عملنا». واضافت: «طبيعة الاصابات تحولت، واصبحت الاصابات تستهدف الاطراف مباشرة»، موضحة: «مع تطور الطب الممتاز لدينا، اصبحت الالتهابات من جراء الجروح نادرة واصبح الجندي يعيش حتى وان كانت اصابته بليغة جداً». ويذكر ان 22 في المائة من الذين يفقدون اطرافهم يفقدون اكثر من طرف. ويعالج المصابون في قاعة مفتوحة يتلقى فيها المصابون العلاج الطبيعي والتدريب على الاطراف الاصطناعية لمدة 8 ساعات يومياً. وشرح باهر: «من الضروري ان يرى المصاب بأنه ليس بمفرده، بأن هناك جنودا مثله اصيبوا وانهم يتقدمون الى الامام»، مضيفاً: «هذا امر ضروري للجندي المصاب اول ما يأتي هنا، كي يرى بأن الجندي الذي جاء قبله بـ6 اشهر يتحسن، مما يعطيه الامل». وبالاضافة الى العلاج الجسدي، يعمل الاختصاصيون والاطباء في «والتر ريد» على العلاج النفسي للمصابين. ويشمل هذا العلاج مراحل مختلفة، منها الحديث مع اختصاصي نفسي واصطحاب العائلة للمركز. وقال باهر: «هدفنا هو ان يتحسنوا، فاذا شعر احد الجنود بأنه يريد الحديث عن تجربته وبحاجة الى اختصاصي نفسي، هذا امر متاح له»، مضيفاً: «نحن لا نفرض ذلك عليهم، اذا كانوا يريدون الحديث، سنستمع». وشرحت الكولونيل سبرينغر المسؤولة في «والتر ريد» ان مشاركة عائلات الجنود مهمة جداً، قائلة: «العائلة كلها تصاب عندما يصاب الجندي وعلينا اعادة تأهيل العائلة كلها ومساعدتها على التأقلم». وقالت المسؤولة عن القسم الاعلامي لـ«والتر ريد» غيل كورتون: «شاركت في عملية عاصفة الصحراء، ولكن كانت تلك العملية مختلفة كثيراً». ويستغرب الكثير من العسكريين من المقارنة بين الحرب في العراق وحرب فيتنام. فالفارق الاساسي هو ان الجيش الحالي هو جيش تطوعي وحرفي بينما كان الجيش الذي خاض حرب فيتنام يعتمد على الخدمة الالزامية التي قال الكولونيل برادلي انها مثلت للبعض «العبودية الالزامية للشعب في حرب لم يساندها». ولفت الى ان الجنود في الحرب الحالية هم متطوعون مستعدون للدفاع عن بلدهم، قائلا: «خلال السنوات الثلاثين الماضية، الوضع تغير فالجندي يتطوع ويختار التضحية من اجل البلد». وقال الكولونيل كالاهان: «هناك شعور عام بان الجندي يقوم بما هو في مصلحة البلاد ويعمل من اجل الخير»، مضيفاً: «النظرة الى الجندي اليوم رمز مهم للولايات المتحدة وتختلف كثيراً عن النظرة اليه في الستينات والسبعينات من القرن الماضي».

ولكن تعتبر اعداد المقتولين والمصابين من الجنود الاميركيين من اكثر العوامل المؤثرة على الرأي العام الاميركي تجاه البقاء في العراق. لكن من جهة اخرى، هناك مخاوف من تأثير معارضة الشارع الاميركي للحرب في العراق في النظرة الى الجيش الاميركي، خاصة مع ظهور ادلة على تورط عدد من الجنود الاميركيين بعمليات تعذيب واهانة مثل حالة «سجن ابو غريب». وتزداد عزلة الجنود وعائلاتهم مع تراجع اعداد الاميركيين الذين ينخرطون في صفوف الجيش، اذ اقل من واحد في المائة من الشعب الاميركي منخرط في الجيش، مما يجعل عناصره اكثر عزلة. وعن المخاوف من تأثير المعارضة تجاه بقاء القوات الاميركية في العراق في المشاعر تجاه الجيش، قال الكولونيل كالاهان: «بالطبع هذا امر يشغلني وافكر فيه، فعلينا ان نرصد الرياح المتغيرة في البلاد». وأضاف: «علينا الا ننسى ماضينا، ففي الماضي القريب، كانت هناك مشاعر قوية تجاه الحرب (في فيتنام) واليوم السياسة في واشنطن تؤثر كثيراً على الوضع»، مشيراً الى الانتخابات الرئاسية الاميركية. ولكنه شدد في الوقت نفسه على العلاقة المتينة بين الجيش والشعب، مؤكداً على ان المؤسسة العسكرية مبنية على حماية الدستور وصيانته في خدمة الشعب الاميركي، بغض النظر عن القرارات السياسية. وشرح الكولونيل برادلي: «الجيش الاميركي مبني على اساس لا سياسي، وعلينا تذكير انفسنا دائماً بأننا لا نخدم السياسيين بل بلدنا.. علينا الاستمرار في مهمتنا من دون الانتباه الى السياسة».

ويعتبر القادة العسكريون ان هناك دوراً مهماً للجنود المصابين في توعية الشعب الاميركي حول ما يقوم به الجيش والتقليل من عزلته بين الشعب. وقالت الكولونيل سبرينغر: «نحن نعمل مع الجمعيات المختصة بشؤون الجنود لتنظيم رحلات للجنود المصابين ولقاءات مع عموم الشعب الاميركي ليزيدوا معرفة (الشعب) حول ما يجري وليظهروا التضحية الجسدية التي يقدمها الجيش من اجل الوطن». ولفتت ان بين 18 و20 في المائة من المصابين يقررون البقاء في الخدمة الفعلية في الجيش ويعودون الى ساحات القتال، بينما آخرون يبقون في الجيش للعمل في مجالات اخرى مثل التدريب أو حملات التوعية. واعتبر الكولونيل برادلي ان قبول الجنود المصابين مهمة توعية الشعب حول ما يقوم به الجيش طريقة لمواصلة خدمهتم بعد الاصابة، مضيفاً «ان المواطن الاميركي يرى ان الجندي يجسد افضل مزايا الاميركيين، الجندي مواطن بمستوى عال من المثالية». واضاف: «من السهل للبعض ان يسوقوا فكرة ان كل ما نفعله هو قتال وامبريالية، ولكن هذا بعيد كل البعد عما نؤمن به وبما يشعر الجندي انه يقدمه للشعب الاميركي». وعند الحديث عن حوادث مثل ما وقع في سجن «ابو غريب» او الاساءة الى القرآن الكريم، هناك خجل عام من الجنود. ومن جهة اخرى، رفض عدد من الجنود اخذ صورهم ونشرها في الصحف، خوفاً من تداعيات ذلك اما عليهم مبشارة او على رفاقهم الذين ما زالوا يحاربون في العراق وافغانستان. واشار بعض العاملين في والتر ريد الى ان بعض الجنود شكوا من تلقيهم رسائل كراهية من قبل اميركيين واجانب رافضين للحرب ولذلك بدأوا يتوخون حذراً، بالاضافة الى انهم يأخذون حذرهم من الحديث الى صحف اجنبية، كما انهم عبروا عن قلقهم من نشر صورهم في العراق عبر صحيفة عربية. كما يفرض المسؤولون هناك السرية المطلقة حول طبيعة الاصابات وكيف تحصل – كي لا يحصل «العدو» على معلومات اضافية تساعد على استهداف الجنود هناك. وتوجد ايضاً مخاوف من الصحافة، ولكن هذه مخاوف متعلقة بالسياسة الداخلية الاميركية، اذ اشتدت الانتقادات للادارة الاميركية في الآونة الاخيرة بسبب تردي الخدمات المتاحة للجنود.

ولم تخف الكولونيل سبرينغر تأثرها عند الحديث عن تغطية «واشنطن بوست» للاوضاع في والتر ريد، قائلة: «مررت بمراحل مختلفة من الحزن، اولاً كانت هناك الصدمة وبعدها الغضب، ثم قبول الوضع والعمل على تخطي ما حصل». وأضافت: «تأثرت نفسياتنا وهبطت معنوياتنا ولكن تقبلنا الوضع». وتدخل الكولونيل برادلي، قائلاً: «نعرف ان هذه امور سياسية، ونعرف ايضاً ان الرعاية المقدمة لجنودنا غير متوفرة في اي مكان آخر». وأضاف كالاهان: «نعلم الآن بأن طبيعة المهمة تغيرت ولكن لم نوجه مواردنا بالاتجاه المناسب.. ومن الايجابي ان الاهتمام الاعلامي يظهر اهمية الجندي المقاتل بالنسبة للشعب الاميركي». وبعد كل التغييرات والتقلبات التي شهدها «مركز والتر ريد الطبي»، يستعد العاملون الـ4000 فيه الى مرحلة انتقالية جذرية، اذ تقرر غلق المركز ودمجه بـ«المركز الطبي في بادثيسدا البحري» بحلول عام 2011. ويؤكد القائمون على المركز ان فتح «مركز والتر ريد الطبي العسكري الوطني» في باثيسدا لا يعني غلق المركز، بل توسيعه من خلال دمجه مع اكبر مركز طبي للبحرية الاميركية. وقال كالاهان: «انه الامر الصائب اذا حصل بالطريقة الصائبة».