وثائق سنجار: المقاتلون العرب عبروا الحدود السورية قبل سقوط صدام (7)

مدينة البو كمال الحدودية السورية استفادت ماديا والسلطات غضت الطرف.. وسكان الجانب السوري تأثروا من وحشية «القاعدة»

TT

سافر عدد كبير من المتطوعين للقتال ضد القوات الأميركية في العراق، وكانت الدفعة الأولى استجابة لنداء من صدام حسين، وقد سافروا إلى العراق قبل الغزو الأميركي، وعدد كبير من هؤلاء من المقاتلين القبليين من شرق سورية. وقام صدام بتقديم دعم كبير لقبائل البدو شرق سورية، الذين كانوا يتمنون أن تكون لهم موارد مثل تلك التي يدفع بها العراق لتنمية منطقة القبائل في محافظة الأنبار. أضف إلى ذلك، الدعاية العراقية التي كانت تؤكد أن لصدام أصولا قبلية، الأمر الذي جعله متجانسا مع الرجال القبليين أكثر من النخبة الحاكمة في سورية. وخلال تلك الفترة كانت التعبئة تتم بصورة علنية وكان المتطوعون يتدفقون عبر الحدود السورية إلى العراق. ودعا مفتي سورية الشباب المسلمين إلى القتال ضد الغزو الأميركي، وكانت الخطب التي تلقى في المساجد تردد نفس الرسالة. وتم التبرع بمنازل في القرى والمدن الحدودية للمتطوعين كي يقيموا فيها، في الوقت الذي قامت به شخصيات محلية بارزة، منها رجال دين وشخصيات قبلية بتنظيم عمليات الانتقال للإقامة في العراق. وحسبما أفادت به مصادر محلية، فإن المئات من المقاتلين مروا من خلال مدينة البو كمال والحسكة السوريتين قبل الغزو الأميركي بفترة وجيزة، مما أدى إلى زيادة سريعة في اسعار المساكن والغذاء والأسلحة، الأمر الذي عاد بالنفع بصورة كبيرة على السكان المحليين. وكانت السلطات السورية تراقب تدفق المتطوعين، ولكنها لم تتحرك كي توقفهم. وعقب الهزيمة السريعة للنظام البعثي في العراق، تراجعت حركة المتطوعين. وقامت الحكومة في دمشق بتعبئة موارد إضافية إلى الحدود والمناطق وقامت على وجه الخصوص بزيادة نقاط التفتيش على الطرق الرئيسية بين مدينتي البوكمال ودير الزور، وتلك هي الطرق الرئيسية المفضلة لمن يريد الذهاب إلى العراق. وكان الوافدون إلى مدينة البو كمال يمرون من خلال نقطتي تفتيش على ضواحي المدنية، وكان يتم منع الأفراد الذي لا يثبتون أن لهم إقامة في المدينة. وكانت هناك موجة ثانية من المتطوعين، عدد كبير منهم من السعودية، يأتون من خلال المناطق السورية الحدودية في صيف 2004، خلال معركة الفلوجة الأولى. ظلت القيود الحكومية على الحركة كما هي خلال تلك الفترة، ولكن كانت هناك حالة كبيرة من الاستياء بين السكان المحليين بسبب الأحداث في الفلوجة. واستمر تدفق المقاتلين على ضوء الغضب المجتمعي، واستمرت الجهود لتوفير منازل آمنة وترتيبات انتقال للمقاتلين الذي يمرون من خلال سورية. وبصورة ملحوظة، كان هذا النشاط يتضمن رشاوى كبرى لبعض المسؤولين بالمخابرات السورية، ويبدو أن ذلك حقق بعض النجاح في تحييد الجهود الحكومية السورية لتأمين الحدود. وتقول الدراسة، التي اعدها عدد من الباحثين الاميركيين، من واقع قصص المقاتلين الاجانب في سجلات سنجار(مدينة عراقية حدودية) التي عثر عليها الجيش الاميركي، وبدأت مواقع إلكترونية تابعة بشكل أو بآخر لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بثها، أن الشبكة اللوجستية للانتقال اصبحت بعد ذلك أكثر نظاما. وفي تلك الأثناء قل الدعم المحلي لتهريب الأفراد، ويرجع ذلك جزئيا إلى عدم الرضى عن أساليب «القاعدة» في العراق. وسجلات سنجار هي من بين سجلات 606 من المقاتلين الأجانب الذين دخلوا العراق في الفترة بين أغسطس (آب) 2006 وأغسطس 2007 واكتشفت هذه الوثائق في الخريف الماضي، من جانب القوات الأميركية في مدينة سنجار شمال العراق، وتكشف عن نوعية المقاتلين الذين ذهبوا الى هناك لتنفيذ عمليات انتحارية. وكان للوحشية والعنف، اللذين اتسم بهما تنظيم القاعدة في العراق أثر على الجانب السوري من الحدود، حيث كان للكثير من المواطنين عائلات وصلة قرابة بضحايا أعمال العنف، التي كان يقوم بها تنظيم القاعدة في محافظة الأنبار. وزاد العداء بعد التهديدات بالقتل التي وجهت للقادة السوريين المحليين الذين انتقدوا أداء المسلحين، حيث تم تهديدهم بالذبح إذا ما استمروا في القيام بذلك علنا. ومع ذلك، فإن المعارضة المحلية لوجود القوات الأميركية في العراق ما زالت قوية، وكذا الكراهية للحكومة العراقية التي يتزعمها الشيعة. وقدمت سورية لـ«القاعدة» فرصا غير عادية، ومع ذلك كانت تهددها بصورة كبيرة، فلم يكن من المحتمل أن يتهاون النظام السوري مع استخدام فعلي للأراضي السورية كقاعدة يمكن من خلالها بدء الهجمات على العراق، ولكن كان النظام مستعدا، وفي بعض الأحيان غير قادر على منع استخدام الأراضي السورية كنقطة خلفية لتنظيم القاعدة في العراق. كان النظام يعتقد أنه يمكنه ضرب أنشطة «القاعدة» في العراق وفي شرق سورية، وقد قام بذلك بالفعل عندما بدت مخاطر رد عسكري أميركي تلوح في العيان. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الضربة لم يتم تعزيزها بصورة محددة على ضوء الوقائع الاقتصادية على الحدود، حيث يحتاج النظام إلى العوائد التي يتحصل عليها من فرض الضرائب على التجارة التي تعبر الحدود بصورة غير شرعية، بالإضافة الى عواطف السكان المحليين الذي لديهم صلة قرابة أو روابط دينية مع بعض القبائل في محافظة الأنبار، التي لا توافق الحكومة الحالية في دمشق أو تلك الموجودة في بغداد. وفي نفس الوقت، يتطلب اعتماد «القاعدة» في العراق على الأفراد والتسهيلات في سورية درجة معينة من الحذر والسرية لتجنب استفزاز النظام في دمشق والسلطات المحلية في المحافظات الحدودية. وقد جعل هذا التوازن الدقيق تنظيم القاعدة في العراق عرضة للمخاطر، حيث كانت هناك استقلالية في عملية تهريب الأفراد داخل تركيبة التمرد، واعتمد التنظيم بصورة كبيرة على عملياته، سواء للحصول على المال أو المتخصصين، ولكنهم لم يكونوا يخضعون إلى إجراءات نظامية حازمة. وتشير الوثائق المالية التي عثر عليها ضمن وثائق سنجار إلى نماذج تمويل «القاعدة» وإنفاقها. كما أنها تحتوي على معلومات عن ديناميكيات القيادة في المنظمة. وتعطي الوثائق اللوجستية، وخاصة تلك المتعلقة بمناطق عبور الحدود للأفراد الذين يتضح أن مهمتهم كانت انتحارية، دلالات مماثلة. ويحتوي هذا الفصل على بعض التعليقات الإضافية حول الوثائق المالية، ولكنه يركز في الأساس على المناورات اللوجستية لتنظيم القاعدة في العراق.

الكثير من وثائق سنجار سجلات مالية لقطاع الحدود، ويشار إليها في بعض الأحوال بـ«سورية ـ البعاج»، أو كما في هذه الوثيقة، منظمة سنجار. هذه هي منطقة البعاج الحدودية، وهي غرب مدينة سنجار على الحدود العراقية السورية. والمثير للاهتمام أنه يبدو أن تنظيم القاعدة في العراق يعترف بالحدود الإدارية لدولة العراق. وهذا فعل غير معتاد من منظمة إرهابية، فغالبا ما يجتهد المسلحون في خلق فوضى بوضع شبكات إدارية بديلة، لتعقيد المشاكل.

ولقد تطورت الحالة المالية لـ«القاعدة» في العراق او ما يسمى دولة العراق الاسلامية، كثيرا على مدى الفترة التي غطتها الوثائق. وقد تتعلق بعض هذه التغييرات على الأقل بقائد المنطقة. وكان الشخص الذي يعرف بعبد الله الأنصاري، قائد الإقليم الإداري من 15 مارس (آذار) 2006 إلى 16 سبتمبر (أيلول) 2006، وهي فترة اضطراب مالي. وكما أشارت واحدة من الوثائق إلى نقص الاموال من 15 مارس 2006 إلى 20 يوليو (تموز) 2006، لأن «الإخوة المنسقين» في سورية أوقفوا نقل الأموال التي يحملها المقاتلون والانتحاريون. وقد تم حل هذه المشكلة بعد 20 يوليو واستعادت القيادة صحتها المالية.

قد يعود هذا التحول إلى تغيير القيادة، فقد تولى أبو مثنى الأنصاري قيادة قطاع الحدود في خريف عام 2006 وهي فترة ازدهار مالي كبير وتحسن مستمر.

ومن المهم أن السجلات تشير إلى أن الإنفاق على عبور المقاتلين الأجانب للحدود مستقر نسبيا، وحتى ذلك الوقت كان يتم على خلفية جهود متزايدة لتحسين الرقابة الأمنية على جبهة الحدود العراقية السورية. ولا يبدو أن الجهود الأميركية قد سببت ارتفاع التكاليف المالية للانتقال عبر الحدود، على الأقل أثناء الفترة التي نتناولها.

ويمكن التوصل إلى استنتاج ثان من الإنفاق المكثف على الرواتب والدعم، وهو ما يبدو مساويا للإنفاق على المهمة الأولية في الإمارة الحدودية. وبينما تكون جموع المقاتلين الأجانب الداخلين إلى العراق عبر الإمارات شبابا غير متزوجين، إلا أن بعضهم متزوجون ولديهم أسر تحتاج إلى دعم. وفي الحقيقة، وكما سيتضح في الجزء التالي، تسجل قوائم أفراد الإمارة الحدودية، وقوائم الرواتب الحالة الاجتماعية للمقاتلين الأفراد، وإذا ما كانوا يعولون أم لا، وإذا ما كانت لديهم ممتلكات أم لا. من بين 46 رجلا مقيدا في مثل هذه القوائم، يوجد 11 رجلا أعزب، ولكن هناك 3 من بينهم يعولون. لذلك فإن العاملين في جبهة الإمارة الحدودية ناضجون ومستقرون ومسؤولون، ولديهم مسؤوليات عائلات تماثل مهامهم السرية.

توجد ملاحظة ثالثة في الصلة بين عائدات «الإمارة الحدودية» ونقل المقاتلين الأجانب والانتحاريين: تمثل الأموال التي يحضرها المقاتلون الأجانب جزءا كبيرا جدا من عائدات العمل في الإمارة. ومصدر هذه الأموال غير واضح على الإطلاق. فمن غير المرجح أن يكون المقاتلون والانتحاريون أغنياء، يبدو أكثر احتمالا أن تكون الشبكة التي تحشد الرجال في العراق شبكة لجمع أموال أيضا، والمقاتلون المسافرون هم الوسيلة المناسبة لإرسال الأموال التي تدعم هذا الكفاح.

إن وثائق سنجار اللوجستية عبارة عن مجموعة من التقارير، يغطي كل منها فترة تتراوح ما بين أسبوع إلى ستة أسابيع، تحتوي على معلومات حول أعداد المقاتلين الأجانب والانتحاريين الذين يدخلون عبر الإمارة الحدودية، وقوائم الرواتب التي تشير إلى المدفوعات من أجل التأسيس الدائم للإمارة، أي المقاتلين والموظفين الآخرين المعينين بشكل دائم. لا تتشابه الأرقام المذكورة في هذا الجزء مع تحليل لسجلات موظفي القاعدة في العراق الواردين في الفصل الثاني. ولكن بسبب أن العديد من هذه السجلات لا تحتوي على تواريخ وصول المقاتلين إلى العراق هذه المعلومات تساعدنا على فهم مجال ونسبة تقدم العمليات الحدودية التي يقوم بها تنظيم القاعدة في العراق.

إن «الإمارة الحدودية» هي الأقل في التمويل الذاتي. فهي تجمع الأموال والمقتنيات الثمينة التي يأتي بها المقاتلون الوافدون. وقد يتسبب اضطراب شبكات المواصلات والتخزين في سورية في مشاكل مالية قصيرة المدى، ولكن يجب عدم المبالغة في قيمة مثل هذه الجهود. فيمكن أن تتقدم امارة الحدود بطلب، وهي تفعل هذا باستمرار، لمستوى قيادي أعلى من أجل الحصول على أموال إضافية.

وكانت شبكات التهريب منظمة جيدا وفعالة. وهي تملك القدرة على الحفاظ على جدول زمني منتظم لعبور الحدود، ويمكنها استيعاب أعداد مختلفة من المسافرين الذين ترغب في نقلهم. وربما لا يكون الفرع السوري في الشبكة منظما على نفس درجة أعضاء القاعدة داخل العراق، ويحتمل أن يكون معتمدا على وسطاء مأجورين لأداء بعض من المهام المتخصصة التي تتعلق بعبور الحدود، ولكن لا يبدو أن هذا قلل من الأداء. ففي الحقيقة، قد يكون هذا قد حسن من الأداء لأن مثل هؤلاء المهربين أكثر الناس خبرة بعبور الحدود.

وعلى الرغم من فعالية الشبكة المذكورة، إلا أنه من الممكن استغلال الخلافات التي تنشب بين النصفين العراقي والسوري لعمليات الإمارة. فعلى سبيل المثال، قد تؤدي زيادة الخلافات الشخصية بين كبار الأعضاء في «الإمارة الحدودية» ونظرائهم السوريين إلى انهيار سريع في فعالية العملية.

وتشير الإجراءات الصارمة للرقابة على الانفاق إلى التزام تنظيمي قوي بالمسؤولية المالية ومكافحة الفساد. وهذا بدوره يؤكد على المخاوف من تأثير هذا على قدرات المنظمة. ويجب على التحالف والعراقيين أن يستغلوا هذا في عمليات التشكيل.

ويمكن أن تفعل سورية المزيد من أجل تعطيل المرور عبر الحدود. ولكن من غير الواقعي أن نتوقع أن يبذل النظام المزيد من الجهد، مع العلم بالأهمية الاقتصادية والسياسية للتجارة السرية عبر الحدود بالنسبة للقادة السياسيين والاجتماعيين السوريين وبالحدود المتأصلة لقدرة النظام على تطبيق إجراءات صارمة غير محدودة.