أزمة لبنان الداخلية تساهم في إنقاذ اقتصاده من التأثيرات المباشرة للزلزال المالي الدولي

سلامة القطاع المصرفي وقوته تحصن السوق المالية

TT

أظهرت الانعكاسات المحدودة للازمة المالية العالمية على السوق المالية اللبنانية، فداحة ما يخسره الاقتصاد الوطني وقطاعاته الناشطة من إمكانات نوعية بفعل الازمات السياسية المتكررة وفشل القيادات اللبنانية في ترسيخ حل سياسي متكامل.

وكان لافتاً منذ بدء تفاعل الازمة المالية، مسارعة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة الى الاجتماع بقيادات اقتصادية ومصرفية وإجراء استشارات مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الموجود في المغرب قبيل توجهه الى واشنطن، والاجماع على اعلان تطمينات حول سلامة الوضع المصرفي والمالي وعدم وجود أي مخاوف تطاول البورصة أو المؤسسات اللبنانية.

وواقع الامر، ان التطمينات تستند الى عوامل موضوعية. أولها عدم انغماس السوق اللبنانية كثيراً في «عولمة الأسواق» لأسباب تتصل بمحدودية الاوراق المالية والاسهم المصدرة من مؤسسات القطاع الخاص، وبالتالي الحجم الضئيل لبورصة بيروت البالغ نحو 13 مليار دولار قياساً بالاحجام العملاقة للاسواق الخارجية ومنها أسواق في المنطقة، كالسعودية والمصرية. وثانيها عدم وجود حماسة خارجية للاستثمار في السوق اللبنانية بسبب ما تشهده من تطورات سياسية وأمنية غير مؤاتية للتوظيف والاستثمار.

أما العوامل المرتطبة بالجهاز المصرفي فهي أشد ثباتاً وقوة، حيث يحوز القطاع المصرفي على موجودات تناهز 115 مليار دولار داخل لبنان وخارجه، أي أكثر من أربع أضعاف الناتج المحلي. فيما تنحصر توظيفات القطاع في تمويل القطاعين العام والخاص داخلياً وتمويل جزئي لمشاريع لبنانيين (رجال أعمال ومؤسسات) في الأسواق الخارجية، فضلاً عن محافظ قروض وتسليفات تعود للوحدات المصرفية الخارجية التابعة لمصارف لبنانية وأغلبها في أسواق المنطقة، ومنها سورية والأردن ومصر والجزائر والسودان وقبرص. وتشذ شركة «سوليدير» (الشركة اللبنانية لإعادة إعمار وسط بيروت) قليلاً عن مسار التحييد الكامل نتيجة استقطابها رساميل عربية وتمدد أعمالها الى أسواق مصر والأردن والإمارات والسعودية. لكن موجودات الشركة تشكل حماية وافية لها. ولم تشهد أسعار أسهمها طفرات كبيرة في الفترة الماضية. وتبلغ حالياً نحو 2.5 ضعفي قيمتها الدفترية. وهو مستوى متدنٍ قياساً الى «مكررات» الشركات العقارية في المنطقة، علماً أن حركة الاعمال بيعاً وتأجيراً تشهد نمواً ملحوظاً في وسط بيروت منذ أشهر ما يعزز الاداء المالي للشركة.

لكن عدم التأثر المباشر بالازمة الدولية واقتصاره على خفوضات جزئية طاولت الاسهم العقارية والمصرفية ما لبثت أن عوضتها أمس حركة الطلب بالتزامن مع الانتعاش النسبي في أسواق المنطقة، لا يعني تحييد لبنان واقتصاده عن التداعيات المحتملة لهذه الازمة خصوصاً اذا أفرزت ركوداً صريحاً قد يتحول الى كساد كبيرة. فمن المعلوم أن تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج والمغتربين تزيد عن 5.5 مليارات دولار سنوياً، أي نحو 20 في المائة من الناتج المحلي. وهي مورد اساسي لا بديل منه حالياً لتصحيح ميزان المدفوعات مقابل العجز الكبير في الميزان التجاري. وقد ينتج الركود الاقتصادي المتوقع في المنطقة والعالم تراجعاً في مداخيل هؤلاء أو فقدانهم وظائفهم، خصوصاً أن الكثيرين منهم يعمل في قطاعات مالية ومصرفية واستثمارية خليجية ولدى مؤسسات اقتصادية ناشطة في عدد كبير من الاسواق العربية.

وفي سياق متصل، يعكس انخفاض اسعار النفط، في حال استمراره، مسارين متناقضين للاقتصاد اللبناني. فهو، من جهة، يحد من العجز الكبير في مؤسسة «كهرباء لبنان» البالغ نحو 1200 مليون دولار سنوياً ويخفف أيضاً من فاتورة استهلاك المشتقات النفطية. لكنه يحد، في المقابل، من الفورة الاقتصادية والفوائض المالية في منطقة الخليج والتي تأخر لبنان عن مواكبتها في السنوات الثلاث الماضية.

وعلى خط مواز، يشكل استمرار الازمة الدولية وتفاقمها عقبة أمام انسياب بقية المساعدات والقروض التي خصصتها الدول والمؤسسات العربية والاجنبية للبنان في مؤتمر «باريس ـ3» والبالغة نحو 7.4 مليارات دولار لم يصل أكثر من نصفها فعلياً بسبب تأخر مجلس النواب (دائماً بسبب الازمة السياسية الداخلية) في اقرار مشاريع القوانين الاصلاحية من ضمن الالتزامات التي قدمتها الحكومة اللبنانية في المؤتمر. وإذ يتوقع وزير المال السابق جهاد أزعور استمرار الازمة، يقترح سلسلة خطوات واجراءات "لتحصين لبنان من تداعياتها». ويقول إنه على الصعيد المصرفي «يتوجب الاستمرار في تفعيل الرقابة على المصارف وخصوصاً على أعمالها خارج لبنان وتحديداً في الأسواق التي قد تكون تأثرت بالازمة» وأيضاً «تفعيل الرقابة في ما يتعلق بقطاعات تأثرت بالازمة، كالقطاع العقاري والقروض الاستهلاكية والشخصية».

وفي المجال الاقتصادي، يدعو أزعور الى «تسريع اصلاحات باريس ـ3» التي لم تكن تهدف الى مواجهة المرحلة السابقة الصعبة فحسب، بل الى فتح آفاق جديدة للاقتصاد اللبناني وايجاد فرص عمل اضافية». ويطالب بـ«تسريع التشريعات التي تم انجازها ومنها مشروع قانون الاجراءات الضريبية ومشروع قانون الأسواق المالية ومشروع قانون التأمين ومشروع قانون ضمان الشيخوخة ومشروع قانون المنافسة».