أوباما في ألغام الشرق الأوسط والعالم.. صقر أم حمامة؟

المحافظون في إيران قلقون من أوباما * نجاد مهنئا: نتوقع مبدئيا أن تستجيبوا بسرعة وبوضوح لمطالب التغيير الجذري * ليفني: الحوار مع طهران ضعف

وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني ووزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في مؤتمر صحافي مشترك بمنزل السفير الأميركي في هيرتسيليا أمس (إ.ب.أ)
TT

بعد استماعه لأول تقرير سري من الاستخبارات المركزية الأميركية (سي.آي.إيه) حول المخاطر والتحديات أمام السياسة الخارجية الأميركية، سيكون على الرئيس الاميركي المنتخب باراك أوباما أن ينظر عبر منظار آخر للعلاقات الدولية، فهي ليست دوما علاقات تعاون او حوار مع الأصدقاء والأعداء على حد سواء. لكن هل يحوله هذا الى «صقر في شكل حمامة» كما وصفته أمس صحيفة «كيهان» الإيرانية اليومية المحافظة التي عبرت عن قلق المحافظين في إيران من انتخابه وان لم يقولوا هذا بشكل علني؟ لا أحد يعرف الإجابة الآن. لكن رد أوباما لن يتأخر. فعليه ان يبدأ العمل فورا في كل الملفات الأساسية، بدءا من الاقتصاد الضعيف الفاقد الثقة، الى سلة ألغام الشرق الأوسط، وهى سلة ألغام لا يمكن تجاهلها لأن إصلاح الاقتصاد الاميركي من الداخل مرهون بحل عدة مسائل في منطقة الشرق الأوسط، منها القوات الأميركية في العراق التي تكلف أميركا شهريا 10.3 مليار دولار، وأسبوعيا نحو 2.4 مليار دولار، ويوميا 343 مليون دولار، وفي الساعة 14 مليون دولار، وفي الدقيقة نحو 238 ألف دولار، وفي الثانية ما يقرب من 4 آلاف دولار. لكن الانسحاب الاميركي من العراق الذي يريده أوباما سيكون مرهونا بالطريقة التي ستتصرف بها إيران. فهو يعرف أنه لا يمكن الانسحاب من العراق وترك إيران تملأ الفراغ. وفي وقت يتحسن فيه الوضع على الأرض بشكل ملحوظ منذ عام، يريد أوباما الذي أعلن رفضه اجتياح العراق، سحب القسم الأكبر من القوات الأميركية خلال ستة عشر شهرا، أي بحلول صيف 2010، بحيث لا تبقى إلا قوات مكلفة مكافحة الإرهاب. والموعد الذي حدده أوباما هو اقرب مما يضمنه الاتفاق الأمني الذي يستمر التفاوض في شأنه بين إدارة جورج بوش وبغداد والذي يلحظ انسحاب القوات الأميركية من المدن مع نهآية يونيو (حزيران) 2009 وانسحابا تاما من العراق نهآية 2011.

وينطوي الانسحاب من العراق على رهان آخر يتمثل في تخصيص عدد اكبر من الجنود وقسم اكبر من الموازنة لمصلحة الحرب في أفغانستان، التي جعلها أوباما إحدى اولويات سياسته الخارجية. ولا يزال نحو 145 ألف جندي أميركي في العراق في مقابل 32 ألفا في افغانستان، التي وصل العنف فيها وانعدام الأمن الى كابل العاصمة. ويؤيد اوباما الذي يرى ان «الجبهة المركزية للحرب على الإرهاب تتركز في افغانستان وباكستان»، ارسال تعزيزات تتجاوز عشرة آلاف عنصر تلبية لطلب القادة الميدانيين. لإنجاز كل هذا، أي تحويل جزء من نفقات العراق الى تنشيط الاقتصاد الاميركي، وتحويل جانب من القوات في العراق الى افغانستان يجب ان تبدي إيران تعاونا وانضباطا سياسيا، بحيث لا تملأ مكان اميركا في العراق، وهذا بدوره يتطلب نوعا من تحسن العلاقات بين إيران واميركا. المشكلة ان إيران نفسها قد لا تريد، أو لا تقدر على هذا. فداخلها استقطاب سياسي كبير بين المحافظين الآيديولوجيين ووجههم السياسي هو أحمدي نجاد، وبين المحافظين البراغماتيين ووجههم السياسي الأساسي هاشمي رفسنجاني وعلى أكبر ولايتي، وبين التيار المعتدل أو الإصلاحي ووجه السياسي الأساسي تيار الرئيس السابق محمد خاتمي. وأعين كل هؤلاء تتجه للانتخابات الرئاسية الإيرانية المقررة في يونيو (حزيران) 2009. ولا أحد يعرف ما إذا كان التشدد حيال أميركا، الذي أوصل نجاد للسلطة بأصوات المحافظين الإيرانيين والمرشد الأعلى آية الله خامنئي، سيكون ورقته أيضا لولآية ثانية، أم ان المرحلة الجديدة تتطلب «كلاما إيرانيا ناعما» لواشنطن. ما ظهر حتى الآن أن كلام إيران كان خشنا، وهذا ما يؤكد حدة الاستقطاب بين المحافظين والمعتدلين. فقد عنونت صحيفة «كيهان» المحافظة صفحتها الأولى بعد فوز أوباما بـ«وصول صقر مقنع بقناع حمامة». وكتبت الصحيفة ان فكرة الحوار مع ايران «تشكل تكتيكا معاديا، فهي لا تعتبر المفاوضات وسيلة للتوصل الى حل بل.. لممارسة مزيد من الضغط على ايران». اما صحيفة «رسالة» المحافظة فقالت «اذا كان أوباما لا يريد تكرار اخطاء الرئيس الاميركي السابق فعليه ان يسعى الى تغيير العلاقات عبر القنوات المناسبة وعبر تغيير لهجته». فيما نقلت وكالة «مهر» الإيرانية للأنباء أمس عن آية الله قربان علي دري نجف أبادي، المدعي العام في ايران، ان على اوباما لإبداء حسن النوايا ورفع العقوبات المفروضة على طهران. وتابع «يمكن لباراك أوباما إظهار نيته الحسنة للشعب الايراني من خلال رفع العقوبات الجائرة التي فرضتها الحكومة السابقة على إيران.. وطلب العفو وإبداء الندم على الأفعال السابقة للحكومة الأميركية من الممكن أن يؤدي الى المغفرة من الشعب الايراني». أما احمدي نجاد فقال أمس في برقية وجهها الى اوباما نشرتها (ارنا) وتمثل أمرا نادرا في علاقات البلدين «أهنئكم على تمكنكم من الحصول على أكثرية أصوات الناخبين أثناء الاقتراع». وتابع «آمل ان تقوموا بكل ما في وسعكم وان تتركوا ذكرى طيبة من خلال اعطاء الأفضلية للمصالح الحقيقية للشعب، والعدالة للطلبات الجشعة لأقلية فاحشة وانانية». ثم أضاف مخاطبا أوباما «اننا نتوقع مبدئيا، ان تستجيبوا بسرعة وبوضوح لمطالب التغيير الجذري والملائم للسياسة الأميركية الداخلية والخارجية». واعتبر احمدي نجاد ان لائحة المآخذ على السياسة الأميركية طويلة وضمنها «سياسة الحرب والاحتلال والترهيب والكذب وفرض العلاقات الظالمة والتمييزية ما جعل اميركا مكروهة من معظم الامم». وأضاف أن «شعوب العالم تنتظر» من الولايات المتحدة ان تتبنى «العدالة واحترام حقوق الأمم وعدم التدخل وان تتوقف تدخلات الحكومة الأميركية عند حدودها الجغرافية». هذه اللهجة الإيرانية المتشددة تعكس مأزقا في إيران. فمشكلة المحافظين الإيرانيين اليوم ان اوباما، الذي يعد «اول رئيس أميركي محبوب شعبيا» من العالم كله تقريبا، سيكون من السهل عليه جدا ان يبني تحالفا دولي قويا ضد إيران إذا ما أصرت على تخصيب اليورانيوم، او كانت سببا في أي اختلالات أمنية في العراق أو لبنان. وهذه مشكلة إيرانية كبيرة، فأوباما قادر على نيل موافقة الصين وروسيا، وبالتأكيد باقي الدول الأوروبية، إذا ما قرر تشديد العقوبات على إيران. وهو نفسه كرر مرارا وتكرارا خلال الحملة الانتخابية أنه سيكون شديدا حيال إيران في ما يتعلق بفرض العقوبات، كما لم يستبعد الخيار العسكري. ويقول مسؤول إيراني تحدث لـ«الشرق الأوسط»، طلب عدم الكشف عن هويته، إن إيران لن تقدم على الخطوة الأولى، ولن تقدم على أي خطوة بسرعة، موضحا ان القيادة الإيرانية مرت بتجربة مماثلة عندما تولى الرئيس الأميركي السابق بيل كلينون، وان خامنئي يعتقد الآن أنه كلما قدمت إيران تنازلات، تشددت اميركا معها والعكس صحيح. وتابع: «قلنا دائما إننا لا نمانع في تحسين العلاقات مع أميركا. قالها القائد بنفسه. لكن تحسين العلاقات لن يكون بأي ثمن. نحن نرفض أي شروط مسبقة، مثل وقف تخصيب اليورانيوم للحوار». ومع تعين أوباما للنائب بالكونغرس عن شيكاغو، رام ايمانويل، في منصب رئيس موظفي البيت الأبيض، وهو يهودي ويعيش والده في إسرائيل وتطوع خلال الفترة التي سبقت حرب الخليج الأولى في 1991 في مكتب للتجنيد تابع للجيش الإسرائيلي، سيكون على إيران الانتظار أكثر لمعرفة سياسات ادارة اوباما حيالها. وكما لا يتوقع ان تقدم إيران على خطوة أولى، قد لا تقدم إدارة اوباما على خطوة اولى ايضا. فقد حذرت وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي لفني اوباما من حوار مع طهران، قائلة ان اعلانه خلال حملته استعداده الحوار مع إيران ينظر اليه في الشرق الأوسط على أنه «دليل ضعف» في الجهود الرامية الى اقناع طهران بالتخلي عن برنامجها النووي.

وقالت لفني للإذاعة الإسرائيلية امس ردا على تغير السياسة الأميركية حيال إيران عند تولي أوباما الرئاسة «نعيش في منطقة حيث من الممكن تفسير الحوار على انه ضعف باعتبار انك فرضت عقوبات ثم تتحول الى الحوار». وردت على سؤال حول تأييدها لأي حوار مع ايران، قائلة: «الاجابة لا». ومثلت هذه التصريحات أول اشارة على اختلاف عضو كبير في الحكومة الإسرائيلية مع أوباما منذ فوزه الساحق. ومع إيران والعراق، سيكون ملف سلام الشرق الأوسط على طاولة الرئيس المنتخب اوباما. فمن المؤكد ان لا سورية ولا لبنان ولا فلسطين ستوقع أي اتفاقيات سلام قبل انتهاء ولاية ادارة بوش. وقالت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس هذا ضمنا أمس، موضحة لدى وصولها الى اسرائيل انه سيكون من المستحيل التوصل الى اتفاق إسرائيلي ـ فلسطيني بحلول نهاية السنة. أما الملف الآخر الملغوم اقليميا ودوليا، فهو ملفي باكستان وأفغانستان. فقد أبدى الرئيس المنتخب استعداده لتنفيذ ضربات محددة في باكستان ضد طالبان و«القاعدة» سواء بإذن من إسلام آباد أو من دونه، وخصوصا ان الولايات المتحدة تتهم الحكومة الباكستانية بعدم التشدد في مكافحة الإرهابيين الذين لجأوا الى حدودها مع افغانستان. وعلق الدبلوماسي السابق، ريتشارد هولبروك، في مجلة «فورن افيرز»: «سيكون أساسيا بالنسبة الى الادارة المقبلة ان تتبنى سياسة واضحة حيال إسلام آباد». ويعتبر محللون ان انتخاب اوباما يضع باكستان أكثر من أي وقت في صلب الاستراتيجية الأميركية لمكافحة التطرف، وقد يعزز الديمقراطية عبر حض هذا البلد على التصدي للمتشددين بشكل اكبر. أما روسيا التي تشكل ايضا تحديا كبيرا لأميركا، فإن اعلان رئيسها ديمتري مدفيديف نشر حائط صاروخي في مدينة كاليننغراد، قد يثير استياء الغرب، بدون أن يخيف أوباما. وأبدى حلف شمال الأطلسي (ناتو) قلقه حيال نشر صواريخ اسكندر في جيب كالينينغراد بين بولندا ولتوانيا. وقد تعمد روسيا الى تطوير مدى صاروخ اسكندر البالغ حاليا 280 كلم الى ما يتجاوز 500 كلم، ما يعني انسحابا واضحا من معاهدة 1987 الروسية ـ الأميركية حول حظر القوات النووية الوسيطة، علما ان موسكو توعدت مرارا بهذا الانسحاب منذ قامت واشنطن بالإعلان عن بناء حائط صاروخي في جمهورية التشيك. لكن رغم لهجة ميدفيديف العالية لا يعتقد ان أوباما سيتراجع عن بناء الدرع الصاروخي في التشيك. ففي رأي فرنسوا هايسبورغ المستشار الخاص لدى مؤسسة البحث حول الأمن في باريس ان «مناورة الترهيب التي قام بها الروس قد ترتد عليهم». وقال لوكالة رويترز «اذا كانوا يتوقعون ان تتخلى الولايات المتحدة عن نشر درعها فهم مخطئون». وأضاف ان الرئيس الاميركي المنتخب «يرفض في بداية ولايته اعطاء انطباع انه قد يخضع للضغوط بسهولة».

ومنذ يومه الأول استعدادا لتولي مسؤولية البيت الأبيض، توالت الطلبات على أوباما. فقد دعت الصين امس لرئيس الاميركي المنتخب الى عدم دعم استقلال تايوان، مشددا على ان هذه المسألة في غاية الأهمية لإقامة علاقات جيدة بين بكين وواشنطن. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية كين غانغ ردا على سؤال حول الملفات الحساسة بين البلدين بعد انتخاب أوباما رئيسا للولايات المتحدة «اننا ندعو الولايات المتحدة الى احترام تعهداتها.. واحترام سياسة الصين الواحدة والتوقف عن بيع اسلحة الى تايوان». وأضاف «اذا ما نظرنا الى تطور العلاقات الثنائية في السنوات الأخيرة ان قضية تايوان هي الأكثر حساسية»، وفيما تتعشم كينيا، بلد والد أوباما، ان يعطى الرئيس المنتخب اهتماما متزايدا الى قضايا افريقيا، مع اعطاء عنآية خاصة الى «بلد أبيه»، فإن التوقعات منه في اندونيسا، التي عاش صبيا لفترة 4 سنوات مع امه، لا تقل. وقال سياسيون اندونسيون إنهم يتوقعون ان تتعمق علاقات اميركا مع اندونيسيا ومنطقة جنوب شرق آسيا عموما. الطلبات كثيرة من أوباما.. وحدها الأيام هي التي يمكن ان تكشف ما إذا كان قادرا على الوفاء بكل المأمول منه، وما إذا كان صقرا أم حمامه؟