رئيس طموح لا يهاب الحقيقة.. مقتنع بضرورة الانفصال عن الماضي

كان حذرا في الموازنة بين تعهده باستخدام الدبلوماسية والتعاون مع بقية دول العالم في كلمات قوية صلبة

TT

بمجرد أن رفع الرئيس الاميركي باراك أوباما يده وأدى القسم، صنع تاريخا جديدا. ولكن من خلال خطاب تنصيبه والحشود التي ملأت شوارع واشنطن، إلى اختلاف الوجوه الموجودة في منصة بيته الأبيض، أشار أوباما إلى أنه ربما تجلب رئاسته تغيرات واسعة لدولة تواجه مشكلات ذات أهمية تاريخية.

من النادر أن يتولى رئيس منصبه، في وقت يمر فيه العامة بظروف تبدو متناقضة. ويشعر الأميركيون بتشاؤم بالغ، تحت وطأة أسوأ ركود يمرون به منذ الكساد الكبير، بشأن مستقبل البلاد ورخائهم. وقد أرهقت الحرب في العراق الشعب الأميركي، فيما تمثل الحرب في أفغانستان والصراع الدائر في الشرق الأوسط تحديا أمام أدهى القادة.

وتناسب خطاب أوباما الرزين، ودعوته البلاد للتوحد، مع الوقت الذي ألقي فيه. قال الرئيس، «اليوم أقول لكم إن التحديات التي نواجهها حقيقية. إنها تحديات خطيرة وعديدة. ولن تواجه بسهولة أو في فترة زمنية قصيرة. ولكن لتدرك أميركا، هذه التحديات ستتم مواجهتها». ولكن في لحظة الشك واليأس، وفي اليوم الذي هبطت فيه أسواق المال مجددا، أظهر تنصيب أوباما جانبا آخر من حالة الأمة الراهنة، وهو جانب مفعم بالتفاؤل والشعور بالثقة الممنوحة لرئيس جديد شاب لم يختبر نسبيا.

لقد كان الشك والتفاؤل هو ما تناولته كلمات أوباما، التي وجهها من الجهة الغربية لمبنى الكونغرس، مخاطبا حشودا كبيرة مكتظة في ناشونال مول والشوارع المجاورة ودور العبادة وغرف المعيشة في جميع أنحاء البلاد. وقال، «في هذا اليوم، نجتمع لأننا فضلنا الأمل على الخوف، ووحدة الهدف على الصراع والخلاف».

لقد كانت الصبغة التاريخية متوغلة في جميع جوانب هذا اليوم، الذي شهد تولي أول رئيس أميركي من أصول أفريقية، بالإضافة إلى حدوث تحول من جيل إلى آخر، حيث انتقلت السلطة من أيدي الرؤساء من جيل الخمسينات، الذين كانوا يقودون البلاد طوال العقدين الماضيين، إلى زعيم لم يكن جزءا من اضطراب فترة الستينات، وأيضا شهد اليوم عودة سيطرة الديمقراطيين على الكونغرس والبيت الأبيض.

من الواضح أن أحداث الأمس أكدت أن رئاسة أوباما تمثل فصلا حادا بينه وبين رئاسة جورج بوش. ولن يتردد الرئيس الجديد في التأكيد على الاختلافات بينهما. وقد تحدث أوباما عن تغيير مسار الحرب في العراق وتغيير «الاختيار الخاطئ بين أمننا ومثلنا العليا». وتقصد هذه الكلمات الأخيرة سياسات الإدارة السابقة في الحريات المدنية ووسائل التحقيقات العنيفة. وكان من المثير للاهتمام، نظرا لعدم شعبية بوش في الخارج، أن يعلن أوباما في عزم وحماس للعالم، الذي يشاهده، «أننا مستعدون للقيادة من جديد».

وربما لإدراكه للشكوك التي واجهها أثناء حملته الانتخابية حول مدى استعداده للقيادة في فترة حرب، كان أوباما حذرا في الموازنة بين تعهده باستخدام المساعي الدبلوماسية والتعاون في التعامل مع بقية دول العالم في كلمات قوية صلبة. وقال لهؤلاء الذين يريدون إلحاق الأذى بالبلاد، «إن معنوياتنا أقوى منكم ولا يمكن كسرها. ولا يمكنكم أن تتفوقوا علينا، وسنهزمكم».

ويشير التقاء الأحداث وسياسة أوباما إلى أن رئاسته قد تجلب تحولا خطيرا، من عهد حكومة المحافظين إلى عهد تقوم فيه واشنطن بدور أكثر مركزية في حياة هذه البلاد. فمنذ 28 عاما، استخدم رونالد ريغان أول خطاب تنصيب ألقاه ليعلن أن «الحكومة ليس حلا لمشكلتنا». وبالأمس، أعلن أوباما، «السؤال الذي نسأله اليوم ليس ما إذا كانت حكومتنا كبيرة أو صغيرة، ولكن ما إذا كانت تؤدي عملها». لقد تغيرت العلاقة بين الحكومة والاقتصاد قبل أن يصل أوباما إلى الحكم، بسبب الأزمة الاقتصادية. وقال أوباما إنه على الأرجح سيعمل على إسراع عجلة هذه التغيرات. وقال إن القضية ليست ما إذا كانت الأسواق الحرة قوة خير أو شر، بل ما إذا كانت تعمل من أجل مصلحة جميع الأميركيين بدون المزيد من المراقبة من جهة الحكومة. وفي طرحه لهذا السؤال، قدم الإجابة التي ستوجه صناع سياساته.

وما زال من المبكر للغاية أن نعرف إلى أي مدى ستفرز رئاسة أوباما ارتدادا لعصر المحافظين أو بداية لعصر تقدمي جديد. ولكن تصل طموحاته إلى درجة أعلى من أي رئيس منذ ليندون جونسون، ويبدو أنه لا يهاب هذه الحقيقة. وقد قال، «هناك من يشكك في حجم طموحاتنا، وهناك من يقول إن نظامنا لن يتحمل الكثير من الخطط الكبرى. هؤلاء ذاكرتهم ضعيفة، لأنهم نسوا ما حققته هذه البلاد بالفعل، ما الذي يستطيع الرجال والنساء الأحرار فعله عندما يمتزج الخيال مع الهدف المشترك، والحاجة مع الشجاعة».

وتضم أجندة أوباما خطة تحفيز تبلغ تكلفتها 800 مليار دولار، اضافة الى 700 مليار دولار ساعد على الكفاح من أجلها لحل أزمة الائتمان واستعادة عافية النظام المصرفي المنهار في البلاد. ومن أجل معالجة الاقتصاد، من المحتمل أن يزيد أوباما من حجم العجز القياسي في الموازنة. ويعتزم أوباما أيضا أن يعيد تنظيم الصناعة المالية، ويأمل في إعادة رسم سياسة الطاقة في البلاد من الأساس، بهدف تقليل الاعتماد على البترول الأجنبي، وهو الهدف الذي أغفله جميع الرؤساء منذ ريتشارد نيكسون. واضافة الى ذلك، يفضل أوباما أن يجري تغييرات بعيدة المدى في نظام الرعاية الصحية، بتوسيع نطاق التغطية وتخفيض النفقات. وهذا أيضا هدف ثبت أنه كان أكبر من قدرات رؤساء وأعضاء كونغرس سابقين.

وقد خاض أوباما حملته الانتخابية بوعد أن يطوي صفحة سياسة الماضي، من الخلافات المجمدة التي أنهكت واشنطن إلى الاستقطاب الفكري الذي أغضب العامة. ويقول، «في هذا اليوم، نعلن نهاية الأحزان والوعود الكاذبة، وتبادل الاتهامات والمبادئ البالية التي كبلت سياساتنا لوقت طويل». ولكن بثقته المعهودة، حاول أن يضع نفسه على أساس أعلى في عصر مختلف. وقال، «ما يعجز المشككون عن فهمه هو أن الأرض اهتزت تحت أرجلهم. وأن الحجج السياسية البالية التي طالما أنهكتنا لم يعد لها مكان».

وفي بداية فترته الرئاسية، يتمتع أوباما برصيدين يعتمد عليهما. يعتقد الناس بأنه فاز بتفويض كبير في نوفمبر (تشرين الثاني)، وهم راغبون في منحه الثقة ليضع أساس العمل وأجندته. وفي الوقت ذاته، يحكم أوباما وهو يتحلى بقدر وافر من الصبر. ولا يتوقع الأميركيون حدوث معجزات أو حلولا سريعة للمشاكل، التي يدركون أنها شديدة التعقيد. ربما يتغير هذا في الشهور المقبلة، وفقا لكيفية استجابة الاقتصاد لخطة التحفيز ومدى ثبات أوباما في التعامل مع المشكلات العالمية. ومن خلال كلماته وتصرفه يوم التنصيب، أظهر أنه كان يأمل في الفوز بهذه اللحظة التاريخية وليس الهرب منها. وسيحتاج إلى جميع المهارات التي أظهرها طوال حملته الانتخابية من أجل الفوز، وإلى قليل من الحظ أيضا.

* خدمة «واشنطن بوست» الخاصة بـ«الشرق الاوسط»