الانتخابات المحلية تحمل دلائل جديدة على «فك الارتباط» الأميركي في العراق

الأميركيون يتركون الساحة تدريجيا.. ومعظم العراقيين جاهزون لرؤيتهم وهم يرحلون

جنود أميركيون يوفرون الحماية لمراقبين أميركيين في انتخابات مجالس المحافظات في بلدة سنجار أول من أمس (رويترز)
TT

من المؤمل أن تساعد انتخابات مجالس المحافظات التي جرت أول من أمس على صياغة مستقبل العراق، وبغض النظر عن النتيجة، بات من الواضح أن الأميركيين يتركون الساحة شيئا فشيئا، وأن معظم العراقيين جاهزون لرؤيتهم وهم يرحلون. وتبدو علامات «فك الارتباط» في كل مكان. ففي الأيام التي سبقت الانتخابات، كان من الممكن قيادة السيارة في أمان بدءا من المناطق القريبة من الحدود التركية في الشمال مرورا ببغداد ووصولا إلى البصرة جنوبا، على بعد أميال قليلة من الخليج العربي، وقد تقطع هذه المسافة كلها دون رؤية موكب أميركي. وفي المنطقة الخضراء، التي استضافت من قبل سلطة الاحتلال الأميركية، وحاليا هي مقر الحكومة العراقية، تراجع الأميركيون إلى مجمع سفارتهم الجديد الرحب المحصن، ويتولى حاليا الجنود العراقيون كافة المعابر على المنطقة الخضراء. وقد تكون الهليكوبترات الأميركية والطائرات دون طيار في الأجواء، ولكن الأحذية العسكرية العراقية هي التي على الأرض. ويشعر الأميركيون بالقلق بشأن تأمين الطريق إلى الكويت فقريبا سوف يكون عليهم سحب الكثير من البنية التحتية التي أسسوها في الكثير من القواعد في مختلف أنحاء العراق. ولا تأتي نهاية حقبة ما في لحظة واحدة، ولكن بالنظر إلى الوراء يبدو جليا أن الوضع قد تغير وأن السلطة تحولت، وأن العالم لم يعد كما هو. وفي الولايات المتحدة ينظر الكثيرون إلى أن الحرب قد انتهت بالفعل، على الرغم من أن أكثر من 140 ألف جندي أميركي ما زالوا على الأرض العراقية. وقد بين الرئيس باراك أوباما بصورة واضحة أن العراق ليست حربه، وأنه يريد التركيز على أفغانستان. ففي ظل الأزمة الاقتصادية، لا تكون هناك وفرة من المال للدولة كي تبقي على إنفاق مئات الملايين من الدولارات يوميا في العراق. ويبدو أن أي نقاش باق في واشنطن يرتبط بشكل وتوقيت انسحاب القوات خلال العام الجاري، على ضوء مدى ما سيظهره العراقيون بخصوص قدرتهم على الحكم بأنفسهم وإلى أي مدى يرغب الأميركيون في تسليم المسؤولية إلى العراقيين حتى يتسنى لهم الوفاء بمواعيد سحب القوات. وقد بدأت عملية «فك الارتباط» الرسمية فعليا في نوفمبر (تشرين الثاني)، عندما وافق البرلمان العراقي على اتفاقية أمنية جديدة مع الأميركيين حددت تاريخا للرحيل، وهو بنهاية عام 2011، وغيرت من ميزان القوة على الفور. وقد تغيرت نظرة المواطنين العراقيين هي الأخرى، فقد أصبحوا أكثر ثقة في أن مشكلاتهم تخصهم أنفسهم وأن الأميركيين لا يمكنهم معالجتها وأنهم يجعلون من الأمور أكثر سوءا. وفي الوقت الحالي، يرى كلا الجانبين أن ثمة شيء قد تغير وأنه مهما كان ما سيحدث في المستقبل، فإن العراق لن يعود إلى الطريقة القديمة التي كان عليها. ويقول الجنرال راي أوديرنو، قائد القوات الأميركية في العراق، «نحن على أعتاب مرحلة انتقالية في العراق في الوقت نفسه الذي نمر فيه بمرحلة انتقالية في قواتنا هناك. أعتقد أنهم سوف ينتخبون حكومات جديدة في المحافظات، وأعتقد أن 75 إلى 80 في المائة من حكومات المحافظات سوف تتغير وأننا سوف نبدأ في تقليل حجم قواتنا».

وتجرى التغييرات بصورة غير ملحوظة، وعادة لا يكون هناك حديث عنها، حيث أصبح الجيش الأميركي معنيا بدرجة أقل بحماية العراقيين، ويهتم بقدر أكبر بطمأنتهم نفسيا وجعلهم يشعرون بأنهم يستطيعون التعامل مع ما سوف يقف أمامهم. لم يعد الأميركيون يقولون للعراقيين ما يجب عليهم فعله، ولم يعد العراقيون، لا سيما ضباط الجيش، يرجعون إلى الأميركيين من أجل الحصول على موافقتهم. وعلى الأقل فإن هذا هو الوضع في المناطق التي توقف فيها القتال، وبدرجة أقل في مناطق مثل الموصل، حيث ما زالت هناك حاجة إلى الجيش الأميركي لإخماد أعمال العنف. وعندما توقف الجنرال أوديرنو كي يتفقد مركزا انتخابيا في منطقة تقع جنوب بغداد يوم الأربعاء، كان كلامه مع لواء الجيش العراقي الذي يشرف على المنطقة يتسم بالاحترام، والرسمية إلى حد ما؛ كانا رجلين في الجيش يتبادلان المعلومات. لم يكن حديثا بين نظراء، فكل منهما يعلم أن الآخر من عالم مختلف، وكلاهما يعلم أن الأميركيين لديهم أسلحة أكثر تطورا ويتمتعون بتدريب أفضل، ولكن كان كل منهما يبدي ملاحظاته للآخر. ويقول الجنرال أوديرنو، «أرى أن هناك عددا من القضايا ذات الصلة بالسنة والشيعة أقل من القضايا الأخرى». ويوافقه على هذا الرأي اللواء في الجيش العراقي قاسم المالكي. ويضيف، «لدينا الكثير من الشيعة الذين يدلون بأصواتهم هذه المرة، لم يكن لدينا الكثير في الانتخابات الماضية».

وفي الوقت الذي أخذ فيه الجيش الأميركي يتراجع، بدأ الدبلوماسيون والمدنيون في الظهور، وبالتأكيد فإن الأمر يختلف كثيرا عن العلاقات الدبلوماسية الطبيعية، فما زال العراقيون الذين يدخلون أي منطقة قريبة من الأميركيين يخضعون لعمليات تفتيش مهينة وعليهم الانتظار لفترات طويلة. ولا يستطيع الدبلوماسيون الأميركيون حتى الآن مغادرة السفارة، فهم يعيشون كسجناء، وكل خطوة خارج بواباتها يجب أن تصاحبها مهمة مسلحة. ومع ذلك، من الممكن أن يتحدث الأميركيون والعراقيون عن قضايا غير البقاء أحياء. وقد بدأ العراقيون، هم الآخرون، يتصرفون بطريقة مختلفة، فقد أصبحوا لا يتجهون إلى الأميركيين طلبا للحماية فقط. فأخيرا، وافق رئيس الوزراء نوري المالكي على تمويل برنامج منح دراسية لإرسال العراقيين إلى الولايات المتحدة والدول التابعة للكومنولث البريطاني للدراسة، ويأتي ذلك في محاولة لبناء طبقة مهنية متعلمة تحصل على مستوى أفضل من التعليم. ومع ذلك، لا يمكن القول بأن الحقبة الأميركية في العراق على وشك الوصول إلى مرحلتها الأخيرة. ويحتاج العراقيون إلى الأميركيين، ليس لكبح جماح الأعمال الإرهابية في العراق وحسب، ولكن لحمايتهم من جيران مفترسين. فقد تدخلت سورية وإيران في العراق منذ الغزو، وعلى الرغم من أن العراقيين لا يشعرون دائما بالراحة في الطريقة التي يتبعها الأميركيون في التعامل مع هاتين الدولتين، فإنهم يترددون في إيقافها لأنهم يخشون من جيرانهم بدرجة أكبر. وعندما قامت القوات الأميركية بتعقب المتمردين على الحدود العراقية إلى داخل سورية في نهاية أكتوبر (تشرين الأول)، تحول الحادث إلى حادث دولي. شعر العراق بالخجل أمام العالم العربي. ومع ذلك، يحتمل أن تظهر مثل هذه الحوادث من جديد وقد تصبح أكثر إثارة. وبالنسبة للولايات المتحدة، ما يزال العراق يمثل جائزة إستراتيجية بالقرب من النقاط المضيئة في الشرق الأوسط داخل إسرائيل ولبنان وسورية، بالإضافة إلى إيران ودول الخليج العربي. ولم يكن الأمر مصادفة أن وضعت وكالة الاستخبارات المركزية أكبر محطة لها على مستوى العالم في بغداد. ومما لا شك فيه أن الولايات المتحدة لديها نفوذ هنا أكبر من نفوذها في أي دولة أخرى منتجة للنفط، وسوف تحرص على الإبقاء على ذلك. وسيكون العراق متحمسا كي يبرهن على استقلاليته، وسيكون على الولايات المتحدة العوامل المساعدة بدلا من الوجود العسكري المستمر والضخم. ويعرض ذلك توترات كبيرة، في الوقت الذي يقوم فيه كل جانب بإعادة تحديد ملامح علاقته. كانت الانتخابات التي أقيمت يوم السبت بمثابة خطوة تجاه منحى سلمي لتسوية الخلافات بين الفصائل بشأن شكل العراق، وإذا ما تولت دفة الأمور حكومات جديدة من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، فسيمكن للعراق دخول المرحلة الجديدة بجدية. ويقول وزير الداخلية جواد البولاني، وهو شيعي علماني، إنه إذا سارت الأمور على نحو جيد، «لن تكون الولايات المتحدة الأميركية في حاجة إلى قوات كبيرة هنا، الأميركيون في حاجة للنظر إلى شيء ما بجانب الأمن. والعراق في حاجة إلى أن تبدأ أميركا فصلا جديدا».

* خدمة «نيويورك تايمز»