كشف مكان دفن أول رئيس لأفغانستان يثير لغزا مستعصيا وينهي حقبة من تاريخ البلاد

اغتياله جر البلاد إلى 5 أعوام من حمام الدم

TT

عندما أمر بدفن 16 جثة في ظلام إحدى ليالي عام 1978، حاول ذلك الضابط الشاب بذل كل ما بوسعه لتذكر الموقع، وقام بإحصاء الخطوات من ذلك القبر الجماعي إلى جانب الطريق.

علم الضابط من زملائه أن من دفنوهم للتو كانوا عائلة ساردار محمد داود خان، أول رئيس لأفغانستان. وقد اغتيل خان خلال الثورة الشيوعية، التي وقعت إبان أحداث العنف التي خلّفت ثلاثة عقود من الحرب في أفغانستان، وأورثت نزاعات لم تنفض واكتوى بنارها كل بيت في أفغانستان.

لقد استغرق الأمر من باشا مير، الضابط السابق، ثلاثين عاما وهدوءا نسبيا وحرية تحت حكم الرئيس الأفغاني حامد كرزاي، لكي يفصح عن سره. ومن خلال مساعدته والشهود الآخرين تعرفت الحكومة أخيرا على موقع رفات الرئيس السابق وعائلته، وأُعلن عن استعدادات لإعادة دفن تلك الجثامين في جنازة رسمية الأسبوع المقبل.

كان داود المؤسس الأول لجمهورية أفغانستان، وشخصية بارزة في تنمية الدولة الحديثة، وكان قد أطاح ابن عمه آخر ملوك أفغانستان محمد ظهير شاه في انقلاب عام 1973، لكن اغتياله بعد ذلك بخمسة أعوام جر البلاد إلى حمام من الدم والفوضى.

ويقول نادر نعيم، أحد أفراد الأسرة الملكية الأفغانية وحفيد داود، الذي يبلغ من العمر 43 عاما، «إذا ما سألت أي أفغاني، متى بدأ كل ذلك، سيقول لك إن ذلك بعيد اغتيال داود الذي كان أشبه بنقطة تحول، وأن يوم السابع والعشرين من أبريل (نيسان) 1978، كان آخر أيام الاستقلال التي شهدتها أفغانستان». في تلك الليلة قتل 18 فردا من أسرة داود، وجدوا في القصر الرئاسي ومعهم عدد من الضباط والمساعدين، ثم دفنوا تحت جنح الظلام خارج أسوار المدينة، غير أن أحدا لم يتمكن من معرفة مكان الجثث.

وكان من بين الضحايا زوجة الرئيس واخته وأخوه نعيم خان وأبناؤه الثلاثة وكذلك بناته الثلاث، وصهره وزوجة ابنه وأربعة أحفاد كان أحدهم يبلغ من العمر 18 شهرا.

القصة الشائعة عن المذبحة التي أعاد نعيم روايتها تفيد بأن العائلة قد قتلت ما بين الساعة الرابعة والخامسة صباحا في 28 أبريل (نيسان) 1978، وبعد يوم من القتال العنيف دخل أحد ملازمي الجيش يدعى إمام الدين، القصر الرئاسي مع وحدة من الرجال للقبض على داود، وقد رفض الرئيس المضي معه وأطلق النار من مسدسه على الرجال الذين أطلقوا عليهم وابلاً من الرصاص.

في أعقاب وفاة الرئيس شهدت البلاد عشرين شهرا من حمامات الدم من قبل الشيوعيين، أدى في نهاية الأمر إلى الغزو السوفياتي للبلاد في ديسمبر (كانون الاول) 1979 واحتلالها لأفغانستان، مما ترك آلافا من المفقودين الأفغان أو من تعرضوا لمذابح.

تم دفن العديد من الضحايا في قبور غير معروفة المكان أو بالقرب من مكان إطلاق الرصاص التابع للجيش في بوليتشارخي في منطقة على الأطراف الشرقية لمدينة كابل، وهي المنطقة التي بدأ فيها المحققون يجرون عمليات بحث خلال الصيف الماضي، بمساعدة اثنين من الشهود القدامى. وكان أحد أولئك الشهود هو باتشا مير، الذي كان حينها ملازما صغيرا في الجيش ومسؤولا عن وحدة الصيانة، حتى أمر تلك الليلة بدفن الشاحنة المحملة بالجثث بالقرب من قاعدته في بوليتشارخي. وفي مقابلة معه استعاد الجنرال المتقاعد ذكريات تلك الليلة، عندما وضع هو وزملاؤه الجثث في حفرة دبابة ثم نزل بين الموتى وأدار وجوههم نحو مكة كما هو العرف الإسلامي.

وقال، «لم أستطع أن أتعرف عليهم لكنني علمت أنه داود خان، عندما قال أحد السائقين إنه عمل لمدة طويلة جدا مع عائلة الرئيس، وأن الرائد إسلام واتانجار وهو أحد قادة الانقلاب كان حاضرا الدفن».

وعندما أُمر بحفر قبر لمواراة الأجساد قام مير بوضع قطعة من القماش عليها، وعندما غادر أحصى 90 خطوة تفصله عن الطريق في محاولة لتذكر مكان القبور، وفي الليلة التالية أُمر أحد العريفين التابعين له بدفن 13 جثة أخرى في مقبرة قريبة.

بعد ذلك هرب مير من العاصمة والتحق بالمقاومة المناوئة للشيوعيين في الجبال، بعد ذلك بعدة أعوام اتصل بأسرة داود وأطلعهم على القصة.

كان، مولا غول، أحد القرويين وكان يبلغ من العمر السادسة عشرة حينذاك، قد علم هو الآخر بالقصة عندما زار مجموعة من الجند الذين يخيمون على أرض أسرته في أيام الانقلاب الشيوعي، وحثوه على وضع شاهدة على القبر حجرا وأن يضع عليه علم الشهيد، وقد قام بذلك بعد ثلاثة أشهر بعد أن رحل الجند.

كان تصرفه كفيلاً بإيفاد مجموعة بحث حكومية إلى منزله لكن الصبي فر إلى الجبال للانضمام إلى المجاهدين، وهربت عائلته إلى باكستان.

احتفظ غول بالسر حتى التقى المفوضية الحكومية التي تفتش المنطقة بالقرب من قريته خوجا جار منذ ستة أشهر، حيث قادهم إلى الموقع.

شهد عملية الحفر أيضا ساردار محمد غازي الحفيد الآخر لداود، الذي طالب مير بالسفر من مكان إقامته بخوست إلى مكان الخفر للمساعدة، وقد قدم الجنرال الدليل الأخير الذي يحتاجونه.

وقال غازي، «كنا نقف جميعا أعلى تلة، ثم قال هذا هو المكان، وأشار مير إلى أحد الأماكن على الأرض، وبعد يومين من الحفر وجدهم الباحثون».

وقال الدكتور فايز الله كاكار، نائب وزير الصحة، الذي قاد التحقيقات، لقد استغرق الأمر شهورا للتعرف على الرفات، فبعد سنوات عديدة من البقاء تحت الأرض، لا بد أن القماش الذي يغطى الضحايا قد تحلل، ولم يتبق سوى الحلقات المثبتة في النسيج». وفي النهاية تم التعرف على داود عن طريق الأسنان ومصحف صغير كان يحمله داخل جيب في سترته. وقال الدكتور كاكار إن الجنرال أنور شاه خان، أحد مساعدي الرئيس، قال إن المصحف يخص الرئيس داود وقد أهدي إليه من ملك المملكة العربية السعودية.

وقد أجرت اللجنة مقابلات مع خادم الرئيس غلام درويش، الذي اعتاد غسل ملابس داود، والذي أكد أن الرئيس كان يحمل المصحف في سترته.

وأضاف كاكار أنه تبين للمحققين من خلال تحليل الرفات أن الرئيس قتل بوابل من الرصاص، لايزال ثقبان لرصاصتين في قميص ابنه عمر.

وهناك جثتان إحداهما لزوجة ابنه وحفيدته أطلق عليهما الرصاص يوم الانقلاب لكنهما توفيتا في المستشفى، ولا يوجد لهما رفات، أما باقي الأسرة فقد حُبسوا ثم تم نفيهم، ولم يعودوا إلى أفغانستان إلا بعد سقوط طالبان في عام 2001.

لن تغلق جنازة داود، أحد أدمى الفصول في تاريخ أفغانستان فقط، ولكنها ستجلب بعض السلام إلى باقي أفراد أسرته، الذين لا يزالون على قيد الحياة والذين أصيب البعض منهم خلال تبادل إطلاق النار منذ 30 عاما.

وعبر غازي ونعيم، حفيدا داود، عن أملهم في أن يؤدي الدفن الجديد لإفساح الطريق لعملية المصالحة الوطنية حتى تتشكل لجنة تحقق في الكثير من جرائم الحرب التي ارتكبتها الحكومات الأفغانية التي تلت حكومة داود.

وقال غازي، ابن محمد نظام صهر داود ومسؤول وزارة الخارجية الذي قتل إلى جوار الرئيس، «لم نعد إلى هنا من أجل الانتقام، بل لكشف الحقيقة وأن تطرح أمام الشعب الأفغاني». وقد أحدث ذلك الكشف ارتياحا لدى الأسرة. وأضاف غازي، «كمسلمين يجب أن يكون لدينا قبر ومكان للصلاة، وإذا ما استطعنا الحصول على ذلك فبإمكاننا أن نرتاح».

* خدمة «نيويورك تايمز»