إيران: 30 عاما على الثورة الحلقة (الأخيرة) ـ بين دولة بني صدر ودولة أحمدي نجاد.. قُبلة على يد خامنئي

خامنئي اكتفى بمنصبه كرأس للدولة.. وإيران استطاعت أن تجعل طهران «محل السياحة السياسية».. وقم «محل السياحة الفكرية» * إيران بين من يريدون «دولة الشهداء».. ومن يريدون «دولة الأحياء»

السلطة في طهران استطاعت أن تسيطر على قم.. بدون أن تلغيها («الشرق الأوسط»)
TT

يوم الجمعة 2 يونيو (حزيران) عام 1989 استمع آية الله الخميني إلى الأخبار في التلفزيون الإيراني من غرفته بمستشفى طهران، حيث كان يعالج من السرطان، ثم قرأ بعض الأخبار والمقالات في الصحف الأميركية والإسرائيلية والإيرانية كما هي عادته. كان بصحبته هاشمي رفسنجاني رئيس البرلمان وعلي خامنئي رئيس الجمهورية آنذاك، يأتيان ويذهبان، فيما ابنه أحمد دائماً بجواره. عندما كان أحمد يذهب لمتابعة بعض أمور أبيه، كان الخميني يضبط الراديو على محطة الأخبار أو القرآن الكريم يستمع حيناً، أو يمشط لحيته ويضبط عمامته في مرآته التي كان يضعها بجواره على المكتب الصغير بجوار السرير. يوم السبت 3 يونيو كانت حالته تتدهور بسرعة، وقال الأطباء إنه ليس بإمكانهم فعل أي شيء. تجمع كل أفراد الأسرة وكبار المسؤولين في المستشفى. وبعد فترة قال الخميني لابنته زهراء: «أطفئي المصباح.. من أراد أن يبقي ومن أراد فليخرج.. أطفئي المصباح» ثم دخل في غيبوبة وأُعلنت وفاته صباح اليوم التالي. بعد وفاة الخميني تحدثت وسائل الإعلام عن صراع على خلافته بين من وُصفوا ساعتها بـ«المثلث الذهبي»، وهم أحمد الخميني وخامنئي ورفسنجاني. كان أحمد الخميني في اعتقاد الكثيرين الأوفر حظاً بخلافة الخميني كمرشد أعلى لإيران. لكن وبعد مرور ساعات فقط على الوفاة انعقد مجلس الخبراء لاختيار مرشد أعلى جديد، فالخميني لم يوصِ بشخص معين لخلافته، وإن كان أظهر ميلا إلى عدم توريث أحمد الخميني لمنصب قائد الدولة، كما أظهر ميلا نحو خامنئي لسبب ليس معروف بدقة. وذلك بعدما عزل منتظري قبل وفاته بأشهر من منصب نائبه. ويقول المفكر اللبناني هاني فحص الذي كان همزة الوصل بين الثورة الإيرانية والثورة الفلسطينية لـ«الشرق الأوسط» حول أسباب عزل منتظري: «السبب الجوهري هو أن منتظري بقي في موقعه الثوري لأنه لم يوضع في موقع سلطوي (أو في موقع رسمي بالدولة). ومن هنا أعطى منتظري نفسه حق المراقبة والاعتراض. وكانت مراقبته دقيقة واعتراضاته دقيقة وصادقة وشجاعة. لكن ضرورات الدولة كانت مختلفة وبعض القوى المستفيدة من السلطة والدولة عموماً لا تتحمل أن تبقى موضع مراقبة وإدانة واعتراض من خارجها. وأنا أشك بأن الخميني كان يرى تناقضاً حقيقياً بينه وبين منتظري. ولعل الصورة التي نُقلت إليه حول انتقادات منتظري كانت مضخّمة. بالإضافة إلى أن فريق عمل منتظري لم يكن واقعياً، وهذا ما لمسته بيدي. مع محبتي المعروفة له. كما أن فريق عمله لم يكن متماسكاً، ما أدى إلى اختراق من قبل الأجهزة، وعادة ما يكون المعارضون من داخل الفريق، والمخترقون، أقرب إلى المبالغة في تصوير الأمور وتضخيمها. وفي النهاية تقديري أن منتظري كان ضرورة ثورية، ومن دون شك ضمير، وبقى ضرورة علمية وأخلاقية للدولة، لكنه لا يملك ذهنية المساومة والتسوية كضرورة من ضرورات الحكم والإدارة». غاب منتظري في الإقامة الجبرية في منزله بحوزة قم. ومن قبله غاب آية الله محمد بهشتي وآية الله مرتضى مطهري ومحمد مفتح وآية الله طالقاني بعدما قُتلوا كلهم في التفجيرات التي أرعبت إيران بعد نجاح الثورة وظهور الخلافات بين تياراتها المختلفة. غياب هؤلاء أثر على طبيعة الدولة التي ستولد لاحقاً. فبينما كان الخميني يرى العالم بعين الفقيه، كان طالقاني يرى العالم بعين المجتهد الحر، وبينما كان الخميني ممثل الحوزة الدينية وطلابها خلال الثورة، كان طالقاني ممثل الجامعات والطلاب والمثقفين. وبالرغم من أن طالقاني عُين رئيساً لمجلس الثورة، وإمام جمعة طهران ممثلا عن المرشد الأعلى بعد نجاح الثورة، فإن علاقته مع الخميني لم تخلُ من اختلافات. ويقول فحص: «في حدود ما تيسر لي عرفت وعن كثب في علاقتي القصيرة مع طالقاني أنه لم يكن مختلفاً مع الخميني. وإن كان مقربون منه ومن أرحامه يؤكدون أن الخلاف بينه وبين الخميني كان عميقاً جداً. وأن الإمام وفريقه كانوا حريصين على استبعاده، لكنني أشك في ذلك. ما عرفته أن طالقاني كان على شك وتناقض غير خفي مع عدد من القيادات الدينية التي تحولت من الصفين الثاني والثالث إلى الصف الأول بعد الثورة، وحينها أخذ طالقاني ينعي الثورة.. والدولة لاحقاً». بغياب قادة الصف الأول مثل بهشتي وطالقاني ومطهري ومفتح، ظهر خامنئي ورفسنجاني من الصف الثاني إلى الصف الأول، وفي فترة وجيزة أصبح رفسنجاني رئيساً للبرلمان وخامنئي رئيساً للجمهورية عندما سمح الخميني لرجال الدين باحتلال المناصب السياسية بعد التصادمات الحادة بينه وبين حكومتي مهدي بازركان وأبو الحسن بني صدر المدنيتين. وفي 2 أكتوبر (تشرين الأول) 1981 انتخب علي خامنئي الرئيس الثالث للجمهورية الإيرانية بعد أبو الحسن بني صدر ومحمد رجائي، ليكون بذلك أول رجل دين معمم يحتل هذا المنصب في تاريخ إيران، ومير حسين الموسوي رئيساً للحكومة. وكان الخميني مرتاحاً أخيراً لشخصية الرئيس ورئيس الوزراء. وفي كلمة للخميني يوم تنصيب خامنئي قال: «عليكم أنتم المحافظة على هذا النظام.. فإن استمرار ما حصل في إيران أمر صعب. وعليكم القيام بحفظ هذا النظام رغم كل العقبات التي تواجهنا». إذ بعد عامين و8 أشهر من الثورة الإيرانية، استطاعت دولة الثورة أن تستقر قليلا برئاسة خامنئي للجمهورية ومير حسين موسوي للحكومة ورفسنجاني للبرلمان. لكنّ أياً من هؤلاء، خامنئي ورفسنجاني ومير حسين موسوي، لم يكن بارزاً في الأيام الأولى بعد الثورة، بل كان بهشتي ومطهري مثلا أكثر أهمية بكثير. كما أن أياً منهم لم تكن له اليد العليا، أو مقرباً من الخميني بما يكفي ليكون مرشحاً «طبيعياً» لخلافته. ويقول فحص: «كان محمد بهشتي ومرتضى مطهري ومحمد مفتح وعلى إشراقي حول الخميني، وكلهم كانوا متساوين في الأهمية، لم يكن بينهم شخص راجح على الآخرين. أما السيد خامنئي في هذه اللحظة فلم يكن له موقع متقدم، كان ممثلا للإمام في وزارة الدفاع، فيما كان رفسنجاني ممثلا للإمام في وزارة الداخلية. لكن عندما احتدمت المواجهات بين رجال الدين والجبهة الوطنية صعد نجم رفسنجاني الذي كان رقمه 17 في انتخابات طهران، لكنه أصبح في الصف الأول لاحقاً لأن رجال الدين خافوا من صراعهم مع الليبراليين وهجوم الليبراليين عليهم. لكن ساعتها لم يكن هناك أحد مرجح لدى الخميني». ويقول علي دري نجف آبادي، الذي كان ساعتها أحد أعضاء مجلس الخبراء، إن مجلس الخبراء عندما تدهورت صحة الخميني بسبب تمكن سرطان المعدة منه، بحث هل يكون منصب الولي الفقيه من عدة أشخاص يعملون معاً كمجلس «شورى مصغر»، أم يكون الولي الفقيه شخصاً واحداً، مثلما كان الخميني. لكن لم يتم التوافق على مجلس شورى، وتم التوافق على أن تكون القيادة «فردية» وأن يتم اختيار مرشد أعلى خلافة للخميني. ويقول نجف آبادي: «تم التداول على الشخصية المناسبة. وقد اختار مجلس الخبراء بأكثرية حاسمة شخصية حازمة صلبة شجاعة فقهيهً، وهى آية الله خامنئي». لم يكن خامنئي معروفاً آنذاك كواحد من آيات الله الكبار. والصورة التي انطبعت عنه في أذهان الإيرانيين هي صورته والكوفية الفلسطينية ملفوفة على عنقه، فيما تغطي عينه نظارة كبيرة وهو يتحرك بلباس عسكري على جبهة الحرب مع العراق يصافح الجنود والمتطوعين. وفي أوقات الهدوء يقرأ كتباً تاريخية وروايات، غالباً روسية مترجمة للفارسية. كان خامنئي يحب في الأدب الروسي واقعيته وحسه بالقدر وإدراكه لأهمية التاريخ، ويرى الرواية طريقاً للتعلم ونقل تجارب الآخرين، سواء أشخاص أو أمم. قرأ خامنئي على جبهة الحرب مع العراق عشرات الروايات، كان قارئاً نهماً وسريعاً، ومن ضمن الكتب التي قرأها رواية الكاتب الروسي ميخائيل خولوتشوف «الفجر الهادئ» أو quiet down وهى رواية حول الحياة والموت والقدر والوطن ومعنى الولاء. وعندما سأله أحد المقربين منه عن رأيه في الرواية، جاوبه بنقد كامل للرواية، فقد كانت له عين ناقد أدبي أيضاً. أما رفسنجاني فكانت له اهتمامات أخرى، كانت لديه مطبعة تجارية في قم أسسها مع أشقاء له خلال دراسته في حوزتها من أجل أن تساعدهم على تكاليف الحياة، وعندما تيسرت الأمور بعض الشيء بدأ يشترى أراضي ويستثمر فيها، كما كانت لديه أراض مزروعة بالفستق. كان رفسنجاني محباً للتجارة، ولديه مؤهلاتها، من الإقناع، إلى المساومة، إلى حب الربح. لم يكن خامنئي ورفسنجاني قريبين من بعضهما البعض في الصفات، إلا أنهما كانا قريبين من بعضهما البعض في المكانة في الأيام الأخيرة من حياة الخميني.

لم يزعج اختيار خامنئي لمنصب المرشد الأعلى أحمد الخميني، فقد كان حريصاً على تأكيد أن «بيت الخميني» لن يرث لا منصباً سياسياً ولا مالا من إرث الخميني (لم يتولَّ أحمد الخميني أي منصب رسمي في إيران حتى وفاته عام 1993)، إلا أن هناك شخصاً حامت الشكوك في أنه لم يكن مرتاحاً تماماً لاختيار خامنئي لخلافة الخميني، هذا الشخص هو رفسنجاني. فالبرغم من أن رفسنجاني دعم اختيار خامنئي في المنصب، إلا أن تبديل ميزان القوى بينهما أثر على علاقتهما. فقد كان رفسنجاني الأكثر نفوذاً وقوة قبل أن يتم تعيين خامنئي في منصب الولي الفقيه. بعد التعيين تغيرت الصورة. ويوضح فحص: «في تقديري أن التمايزات بين خامنئي ورفسنجاني بدأت مبكراً منذ أن كان رفسنجاني رئيساً للبرلمان. كان دور خامنئي كرئيس جمهورية ثانوياً جداً. وكنت في هذه الفترة أعيش تفاصيل هذا الوضع.. وإحدى العلامات أن خامنئي، بعد مقتل محمد علي رجائي ومحمد باهنر، رشح على أكبر ولايتي لرئاسة الوزراء، فأسقط ولايتي مرتين في مجلس النواب (البرلمان) الذي يرأسه رفسنجاني، وحل محله مير موسوي رئيساً للوزراء. وكان موسوي مرشح رفسنجاني. واعتبر اختيار موسوي وإسقاط ولايتي هزيمة لخامنئي. لكن عندما أصبح رفسنجاني رئيس جمهورية وأصبح خامنئي مرشداً أعلى تعدلت طبيعة النظام. تحول النظام إلى نظام رئاسي، وأصبح رئيس الجمهورية هو رئيس السلطة التنفيذية، فوضع عملياً حداً لسلطة المرشد، فخلال عهد رفسنجاني كرئيس كان قوياً أمام خامنئي. ثم جاء محمد خاتمي والتبست الأمور. إذ كان التيار المحافظ مصرّاً على تحقيق مكاسب أمام الإصلاحيين. فعمل على إبطال مساعي الإصلاحيين، وساعد على هذا تردد خاتمي وقتها، ووضع الإصلاحيون المزعزع. عندما تدهور وضع الإصلاحيين، رجع رفسنجاني للانتخابات البرلمانية عام 2004 فدفع الثمن، فقد عاداه الإصلاحيون (بسبب اتهامات أنه لم يدعمهم بما يكفي). أما المحافظون فلم يصوتوا له في طهران، كما لم يصوت له الإصلاحيون، ليأتي في المرتبة 29 أو 30 في انتخابات طهران». ويتابع فحص: «تم تحمل رفسنجاني مسؤولية الفشل الاقتصادي. الطبقة المتوسطة حملته مسؤولية تراجع دورها، فذهب باتجاه رئاسة الجمهورية عام 2005 ليرمم الوضع، فعمل المحافظون بجد كي يمنعوه من النجاح. والإصلاحيون عملوا ضده بشكل موازٍ، كما عملوا ضد بعضهم البعض، فدفعوا الثمن معاً (الإصلاحيون ورفسنجاني) مما جعلهم الآن يميلون للتفاهم أكثر، مع بقاء رفسنجاني على صلة أوثق بتيارات معينة داخل تيار المحافظين ظهرت آثارها في انتخابه رئيساً لمجلس الخبراء». كان تبدل موازين القوى بين رفسنجاني وخامنئي والخلاف بينهما على تعيين ولاياتي أو مير حسين موسوي في رئاسة الوزراء أولى الدلائل على التوتر الذي سيأتي مستقبلا في العلاقات بينهما. فقد تلى ذلك محطات أخرى من بينها التباينات حول خطط إعمار إيران بعد انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية وإزالة رفسنجاني للافتات الحرب. تلى ذلك التباينات بينهما حول انتخاب محمد خاتمي رئيساً للجمهورية عام 1997. فعندما طرح خامنئي اسم علي أكبر ناطق نوري رئيس البرلمان ساعتها للرئاسة الإيرانية خلفاً لرفسنجاني، مقابل رئيس المكتبة الوطنية في طهران محمد خاتمي، الذي كان سياسياً مغموراً لكن بخطاب ملهم وثقافة واسعة وروح إصلاحية، توقع خامنئي أن يفوز ناطق نوري بسهولة. وكان فوز خاتمي الكاسح بالنسبة له أشبه بالصدمة التي فاقمها ميل رفسنجاني لهذا الجناح الليبرالي أمام ناطق نوري الذي كان، وما زال، من رجال الحلقة الضيقة المحيطة بخامنئي. وطوال 8 سنوات من حكم خاتمي كانت علاقات خامنئي مع رفسنجاني وخاتمي باردة على أحسن الأحوال، ومشتعلة في أحيان أخرى كثيرة على خلفية استهداف أبرز الوجوه الإصلاحية في حكومة خاتمي، ومن بينها وزير الداخلية عبد الله نوري، ووزير الثقافة عطاء الله مهاجراني، ورئيس بلدية طهران غلام حسين كرباستشي، الذين اضطروا كلهم للاستقالة. ثم تدهورت العلاقات تماماً بعد دعم خامنئي للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أمام رفسنجاني في انتخابات الرئاسة 2005. وفي انتخابات مجلس الخبراء الأخيرة، لم يكن خامنئي يريد لرفسنجاني أن يترشح، ناهيك عن أن يفوز، وكان ميالا إلى آية الله جنتي. وكان من ضمن أعضاء مجلس الخبراء آية الله يزدي الذي قال لرفسنجاني إن جنتي هو الشخص المناسب لرئاسة مجلس الخبراء، فلم يعلق رفسنجاني، واعتقد يزدي أن رفسنجاني قرر عدم الترشح، لكن لاحقاً كان اسم رفسنجاني في قائمة المرشحين ليفوز بهامش كبير على جنتي. ولم يكن هذا خبراً طيباً لخامنئي الذي عندما توجه إلى المجلس في أول جلسة بعد انتخابه لم يتحدث عن رفسنجاني بصفته رئيساً للمجلس بل تحدث إلى المجلس بصفته الجماعية. ثم لاحقا أتسعت التباينات لتشمل هوية المرشد الأعلى لإيران مستقبلا بعد خامنئي. فرفسنجاني من بين الأسماء المطروحة، وهناك أيضاً رئيس جهاز القضاء في إيران آية الله محمود شهرودي. لكن هناك أيضاً مجتبى خامنئي، ابن خامنئي. وبينما لا يملك مجتبي لا الشعبية الجماهيرية ولا المكانة الدينية التي تؤهله للقيادة الفقهية لأنه درس في «حوزة طهران» لا «حوزة قم» ويحمل فقط مرتبة حجة الإسلام وليس آية الله، وبالتالي لا تنطبق عليه الشروط الدستورية لتولي منصب ولاية الفقيه، إلا أنه يملك قدرات وعلاقات سياسية وأمنية توفر له قاعدة دعم مهمة. فهو الساعد الأيمن لأبيه، إضافة إلى أنه يمسك بمفاتيح الحرس الثوري والاستخبارات والأجهزة الأمنية التي امتدت قوتها من مجرد القوة العسكرية، إلى القوة الاقتصادية والاجتماعية، مما يجعل من يسيطر عليها.. يسيطر ضمناً على مفاتيح السلطة في إيران. وبالتالي يلفت نظر الإصلاحيين اليوم ويقلقهم أن المؤسسات الحاكمة في إيران باتت تنتقل تدريجياً وبشكل سريع من يد رجال الدين والتكنوقراط إلى يد العسكريين من الحرس الثوري، الذين باتوا يسيطرون على الحكومة والكثير من الوزارات. وأحمدي نجاد يعد تعبيراً عن هذا التحول، فهو أول رئيس إيراني من الحرس الثوري. كان هناك فارق كبير بين دولة أبو الحسن بني صدر الذي عندما أقسم اليمين الدستورية كأول رئيس بعد الثورة بدون أن يذكر اسم الخميني، وبين أحمدي نجاد الذي أقسم اليمين ثم توجه وانحنى أمام خامنئي وقبّل يده (ليس هذا أمراً شائعاً، فقد أثار جلبة في إيران. وفيما قال البعض إن الحركة يمكن أن تفسر ببراءة على أنها إعجاب من تلميذ بأستاذ، إلا أن آخرين كانوا أكثر تشككاً قائلين إن تقبيل اليد أمر رمزي سيدل لاحقاً على نوعية العلاقة المستقبلية بين أحمدي نجاد وخامنئي)، وهكذا ظهرت بين العهدين هوة كبيرة تكشف عن تحولات اجتماعية واقتصادية وآيديولوجية وسياسية كبيرة. فإذا كان رفسنجاني عندما كان رئيسا قد مهد لمشروع دولة ما بعد الثورة، ودشن عصر التكنوقراط والانفتاح على الخارج والاستثمارات الخاصة، فإن هناك قوى داخل داخل النظام قريبة من خامنئي، كما يقول ابو الحسن بني صدر لم ترتاح لهذا المشروع، فمشروعها كان مختلف تماما وهو الحفاظ على دولة الثورة وايديولوجية المواجهة، وهذا ما وفرته شعارات دولة أحمدي نجاد، وهو ما ساهم أكثر في صعود الحرس الثوري. ويقول فحص لـ«الشرق الأوسط»: «سمعت في إيران قبل سنة أن خامنئي قال إنه استلم الحكم فعلياً منذ 3 سنوات. أي منذ بداية رئاسة أحمدي نجاد، من دون أن يعني ذلك في ذهني أن أحمدي نجاد أداة للسيد خامنئي. خامنئي ليس حاكماً مطلقاً وإن رغب في ذلك، لكنه الأول، ومعظم مقاليد السلطة في يده. فهناك قوى متفقة معه وأخرى مختلفة معه، تضيق وتتسع دائرة اتفاقها واختلافها، كما هي طبيعة التحالفات في الدول التي تحكمها أطراف متعددة متمايزة على قاعدة مشتركات متحركة بينها، مع وجود مركز ليس في معزل عن الاهتزاز». ويشير فحص إلى أن ما حدث خلال الثلاثين عاماً بعد الثورة الإيرانية هو تدهور حال رجال الدين كقوة اجتماعية وسياسية، وصعود العسكريين، لكن بدون أن يلغي أي طرف الطرف الآخر، موضحاً: «لم يتم إلغاء أحد. كانت هناك مجموعة قوى، ما زالت موجودة. أحمدي نجاد يمثل بعضها، رفسنجاني يمثل بعضها، الشيخ أحمد جنتي يمثل بعضها، مصباح يزدي يمثل بعضها، الحرس الثوري يمثل أكثرها. بل إن هناك تمايزات داخل الحرس الثوري. فيما أصبح السيد خامنئي بعد انتخاب أحمدي نجاد في الوسط؛ بمعنى القدرة على التوازن، القدرة على حسم الأمور، صار هو المرجح بين كل القوى». ويتابع: «في تقديري أن الحرس كمؤسسة صارت كبيرة ومسيّسة، حتى السلطة التنفيذية موجودة فيها، هناك تفاصيل تدل على أن بها تمايزات. منذ البداية كان الحرس الثوري لاعباً سياسياً، ليس فقط لأن عدداً من أعضائه أصبحوا في الرئاسة أو في الحكومة أو البرلمان. الحرس لاعب سياسي يمكن أن يأتي بأحمدي نجاد، لكن هل يمكن أن يأتي بأحد قياداته في رأس الرئاسة أو السلطة التنفيذية؟.. لا أعرف. (أحمدي نجاد كان بالحرس الثوري في شبابه ولم يكن أحد قيادييه). التمايزات موجودة داخل الحرس الثوري، لكنها غير متفجرة، ودور خامنئي منع التفجير عادة، مثل تغيير قائد الحرس سابقاً، واستقالة علي لاريجاني من رئاسة مجلس الأمن القومي الإيراني. كلها تحركات ليس الحرس الثوري بعيداً عنها». لكن الحرس الثوري، الباسيدج والباسدران، وإن كان أعضاؤهم بالملايين، إذا تم حساب المتطوعين، إلا أنهم لا يشكلون طبقة اجتماعية. وبالتالي في إيران اليوم لا يستفيد الكل من هذا الصعود الكبير للحرس الثوري اقتصادياً واجتماعياً أو سياسياً، بل يستفيد البعض، ومن بينهم الطبقة «الطبيعية» لنفوذه من أبناء «شهداء» الحرب العراقية – الإيرانية. أما المشروع السياسي للحرس الثوري فهو «إحياء دولة الشهداء»، فنفوذ الحرس يتزايد كلما تم تذكير الإيرانيين بالخطر المحدق بهم والتضحيات التي ضحوا بها خلال الثورة والحرب والاحتياجات الأمنية للدولة اليوم والأعداء المحدقين بها وبثورتها. وهناك قصة حقيقية توضح كيف أن رمزية «الشهيد» ما زالت مهمة جداً في آيديولوجية الدولة الإيرانية، بدون أن تحمل لطبقتها امتيازات كبيرة اليوم كما كان عليه الحال قبل عِقد مثلا. هذه القصة هي أنه خلال الحرب العراقية - الإيرانية أسرت القوات العراقية صبياً إيرانياً في الثالثة عشرة من عمره، أُخذ الصبي إلى العراق ووُضع في معسكر اعتقال لأسرى الحرب كان مخصصاً للصبية. وسمح النظام العراقي آنذاك لوسائل الإعلام الأجنبية بالتوجه إلى المعسكر وتصوير الصبي الإيراني ومعه عدد آخر كبير من الأطفال والصبية صغار السن الذين شاركوا على جبهات القتال الأولى ضد العراق، وذلك للتدليل على أن إيران تستخدم أطفالاً في الحرب في انتهاك للقوانين الدولية. جاءت صحافية فرنسية إلى معسكر الاعتقال، وسألت الصبي عن حاله وعما إذا ما كان يلقى معاملة جيدة. فرد عليها الطفل قائلا: يا سيدتي.. رسالة فاطمة إليك هي أن أهم شيء للمرأة هو حجابها. نقل التلفزيون العراقي هذه اللقطة، كما نقلها التلفزيون الفرنسي. لكن الأهم أن التلفزيون الإيراني أيضاً نقلها مفتخراً بـ«البطل»، مكرراً أن هذا «الصبي البطل» فخر إٍيران، وأنه بالرغم من أنه في الأسر فإن لديه الشجاعة ليقول لهذه الصحافية هذا الكلام. كبر الصبي+ وصار رجلاً وترشح في انتخابات البرلمان الإيراني العام الماضي، إلا أن مجلس صيانة الدستور رفض ترشيحه لعدم الأهلية. قصة هذا الرجل تختلف كثيراً عن قصة حسين جانبخش، فهو ابن «شهيد» من «شهداء» الحرب العراقية – الإيرانية. دخل إحدى الجامعات الإيرانية في إطار النسب التي تحدد لأبناء الشهداء، وعندما تخرج وجد بسهولة عملا في إحدى المؤسسات الحكومية الإيرانية في إطار التسهيلات التي تعطى لأبناء «الشهداء». فذكرى «الشهداء» في كل مكان. في مدخل صحيفة «كيهان» المحافظة وبهو الإذاعة والتلفزيون هناك صور لشهداء الحرب مع العراق. وعند أعلى نقطة في سلسلة جبال «البرز» في شمال طهران تضاء شعلة خضراء عملاقة فوق الجبل على مدار الـ 24 ساعة للدلالة على عدم نسيانهم. والشعلة تقف على رفات العشرات من ضحايا الحرب الذين لم يتم التعرف على رفاتهم ودُفنوا بشكل جماعي في تلك المقبرة التي يزورها الإيرانيون في المناسبات الدينية. وأينما حولت عينيك في إيران تجد آثار الشهداء. أسماء الشوارع، مطهري وبهشتي ومفتح وطالقاني وقرني وجمران وهمت. وليست فقط أسماء الشوارع هي التي تحمل أسماء «شهداء»، بل الجامعات أيضاً. وهناك نصب تذكاري لضحايا الحرب العراقية الإيرانية في كل مكان بإيران تقريباً، ورفات للضحايا مدفون وسط جامعة طهران، يسير حولها الطلبة الذين لم يعودوا يبالون كثيراً بالسياسة. ويقول هاني فحص: «الشهيد هو الذي يحكم وليس البطل.. وهذا الفرق بين السنة والشيعة.. يحكمنا، نحن الشيعة، الإمام الحسين وهو شهيد لم ينتصر. أما السنة فيحكمهم عمر بن الخطاب وعمرو ابن العاص وعثمان ابن عفان وأبو بكر الصديق وعبد الملك بن مروان وعمر بن عبد العزيز، وهؤلاء جميعاً أبطال». لكن وفيما يصعد نجم العسكر، مستندين على آيديولوجية الشهادة وتأثيرها السياسي، يخفت صوت رجال الدين. فإذا كان الخميني قد حكم إيران من مدينة قم بعد نجاح الثورة، إلى أن استقر في طهران مضطراً بعد اكتشاف مرضه بالقلب، فإن قم اليوم ليست مهمة، ورجال الدين «خافتو الصوت»، فيما مدينة طهران هي مصنع السياسة والحكم».

ويقول محسن كديور المفكر الإيراني البارز لـ«الشرق الأوسط» إن ميل الحوزة في قم اليوم للصمت يعني ضمناً اعتراضها، موضحاً أن الكثير من آيات الله الكبار فيها معارضون لحكومة محمود أحمدي نجاد، ومن هؤلاء آية الله صانعي، وآية الله وحيدي وآية الله منتظري وآية الله أردبيلي الذي قال مؤخراً إن إيران في مفترق طرق. هؤلاء المنتقدون والمعارضون للحكومة الإيرانية الحالية وسياساتها يتعرضون للتضييق، غير أن هذا التضييق لا يبلغ حد المنع، ففي الحوزة اليوم منشورات من كل نوع، تعبر عن كل التيارات والأفكار. ومقابل آيات الله المعارضين، هناك آيات الله مؤيدون وداعمون لأحمدي نجاد والتيار المحافظ المتشدد، ومن هؤلاء آية الله همداني، وآية الله شيرازي، ومصباح يزدي، وهو ليس من آيات الله الكبار وليس مرجع تقليد، لكنه نافذ جداً وسط التيار المحافظ المتشدد. وعلى الجانب الآخر هناك آيات الله لا تتدخل في السياسة بشكل مباشر مثل آية الله صافي الكلبيكاني، الذي يعد من أبرز آيات الله في قم. ويقول هاني فحص لـ«الشرق الأوسط» حول قم وعلاقتها مع الدولة الإيرانية اليوم: «برأيي أن الدولة استطاعت أن تسيطر على الحوزة. وبعد السيطرة وسعت هيمنتها لدرجة أنها تركت الحوزة تعمل كما تريد (في إطار السيطرة الكلية). بمعنى أن التيار الكلاسيكي التقليدي قوي ومستمر ويعيد إنتاج نفسه. في الوقت نفسه التيار الإصلاحي، تيار السؤال الفلسفي واللاهوتي الفكري المفتوح على كل شيء أيضاً استراح وتحميه الدولة الآن من المحافظين. بات هناك نوع من التعايش؛ كل فريق يعمل على مساره بدون منغصات كثيرة، وهذا مسموح به، بشرط أنه لا يقترب من الدائرة الخطرة، وهى أن لا يحمل مشروعاً سياسياً آخر، سواء من قبل الكلاسيكيين التقليديين أو من قبل تيار الفكر الإصلاحي. المهم أن (مربع السياسة) يظل خارج اهتمامهم المباشر، أي لا يحملون مشروعاً. هذا التعايش يسمح بالتعدد داخل التيار التقليدي، أو الموالي للدولة، أي يسمح أن تخرج أصوات منتقدة من بين التيار المحافظ، خاصة أن مصباح يزدي لم يكن معدوداً في المراجع من وجهة نظر فقهية. وله نفوذ، وأحمدي نجاد محسوب فكرياً عليه، وهو يستقوي بالدولة، فمن الطبيعي أن تحدث الانتقادات. بالإضافة إلى أن المراجع علاقتهم الميدانية بالناس يومية. كنت أشاهد بعيني وأسمع بأذني أن شكوى الناس تصل إليهم، وفي هذه الحالة ليس لديهم مقدسات في السلطة. يعني ينتقدون الجميع، مطمئنين إلى أن موقعهم محفوظ، والدولة مطمئنة إلى أن دورهم محدد في مكان معين. أي لم يعودوا يشكلون خطراً على الدولة حتى لو انتقدوها، ولم تعد الدولة تريد إلغاءهم حتى لو انتقدوها.. فالدولة لا تقوي شخصاً على آخر داخل الحوزة. بمعني أن الأرجح علمياً هو آية الله خراساني لأسباب فقهية، لكن في السياسة في تقديري أن الدولة الإيرانية استطاعت أن تسمح بتعدد في المرجعية غير عادي، وتحفظ الجميع بدون أن تعطي مجالاً لأن يستقوي أحدهم على الآخر. ليس هناك زعامة الآن في قم. هناك مرجعيات بالمعنى الأكاديمي والديني تطل على السياسة لكنها لا تحمل رؤية سياسية. لا توجد زعامة ، ليست هناك هرمية. هناك تعدد متكافئ».

على الجانب الآخر وبعيداً عن العسكر والحوزة ومجالس العزاء الحسينية ومقبرة الشهداء في جامعة طهران والشعلة الخضراء فوق قمة جبل البرز. هناك إيران أخرى. فاليوم في طهران بنايات ومشروعات تعادل في بذخها أي مكان آخر في العالم. بنايات من الرخام، مقسمة لشقق، مع كل بناية حمام سباحة ومرآب سيارات خاص بكل شقة، أما الأسعار فتتجاوز دوماً المليون دولار. ولا يستطيع إلا قلة قليلة جداً شراء هذه الشقق شديدة الفخامة، إلا أن الأغلبية في إيران تسأل أيضاً عن نصيبها وتتحدث عن تباين كبير في مستويات المعيشة تبلور خلال الأعوام العشرة الماضية. يتساءل محمد محمدي: «أسر وعائلات شهداء الحرب تعطى مساعدات. أولادها يدخلون الجامعات مجاناً. لكن هذا وحده لا يجعل الحياة سهلة»، فيما يقول محمدي مفتح «أريد أن أعيش في بلدي، لكن الوضع غير واضح. الاقتصاد سيئ، والأسعار مرتفعة جداً، حتى لشخص مثلي يعتبر أساساً من الميسورين. لقد تزوجت حديثاً، لكنني لا أمتلك ما يكفي لشراء منزل. أي منزل لائق سيكون أكبر كثيراً من قدراتي المالية. ولأنني لا أدري ما الذي يمكن أن يحل بي، أو بأولادي عندما أنجب، فقد تقدمت مازحاً بطلب للحصول على البطاقة الخضراء للهجرة إلى أميركا لأن زوجتي، وهى إيرانية ولدت في أميركا، تحمل جواز السفر الأميركي. والمفاجأة أنه تم اختياري عشوائياً للحصول على البطاقة الخضراء. أنا لا أجيد الإنجليزية ولا أريد مغادرة إيران. لا أدري ماذا أفعل». بعد فترة قرر محمدي السفر مع زوجته. فهل الإيرانيون فخورون بالثورة بعد 30 عاماً على قيامها بالرغم من التباين الطبقي والمشاكل الاجتماعية؟. غالبية الإجابات ستكون نعم. يقول حميد رضا بهاني وهو شاب إيراني في العشرينات إنه وإن كان لا يخرج في الشارع ليحتفل كما يفعل الكثير من الإيرانيين بذكرى الثورة، إلا أن والدته تحيي الذكرى في منزلها بمشاهدة الأفلام في التلفزيون التي تتحدث عن الثورة، فيما يعكف هو ووالده على قراءة الصحف. ويوضح رضا بهاني: «كان والدي من الذين يحتفلون بالثورة، إلا أنه لم يعد يحتفل. هناك الكثير من الأشياء التي لا تعجبني ولا تعجبه. هذه الحكومة لا تعبر عن الثورة. هذه الدولة لا تعبر عن الثورة. لدينا سياسيون يمارسون السياسة، لكنهم لا يريدون منا أن نحاسبهم كما يحاسَب السياسيون في العالم. بل أن نتعامل معهم على أنهم فقهاء فوق الخطأ». واليوم وبعد 30 عاماً على الثورة يبدو أن نجاح الثورة كان أمراً سهلا مقارنة ببناء دولتها، وعندما يتذكر الكثيرون الخميني اليوم، لا يذكرونه بصفته قائد الثورة الإيرانية فحسب، بل بوصفه آية الله الذي أحيا نظرية قديمة لم يعطها أحد أي اهتمام حقيقي من قبله في حوزة قم، وهى ولاية الفقيه. وإذا كانت إيران قد توحدت خلف الثورة ضد الشاه، فإنها انقسمت حول «ولاية الفقيه» ودور رجال الدين في السياسة. حدث هذا منذ اليوم الأول للثورة قبل 30 عاماً كما أوضح لـ«الشرق الأوسط» أول رئيس إيراني بعد الثورة أبو الحسن بني صدر والذي اضطر للجوء إلى فرنسا، وكما أوضح إبراهيم يزدي أول وزير خارجية في حكومة مهدي بازركان أول حكومة بعد الثورة، والذي فضل البقاء في إيران والإصلاح من الداخل. لكن بالرغم من التأثير المركب الذي تركه مبدأ ولاية الفقيه وسيطرة رجال الدين ثم العسكر على السلطة في إيران، يرى فحص أن الدولة الإيرانية تخرج تدريجياً من حالة الثورة لتؤسس نموذج الدولة، موضحاً: «برأيي أن فكرة الدولة غلبت في إيران على الثورة وعلى الدين. بمعنى أن إيران دولة وطنية إيرانية ذات ثقافة إسلامية عامة، وفيها نكهة شيعية. لكنها دولة وطنية تعمل وفق معايير وطنية إيرانية. خامنئي طرح نفسه كمرجع، ثم هو نفسه وضع حداً لهذه المسألة.. مرجعيته لم تعد شرطاً إدارياً. اكتفي بمنصبه كرأس للدولة وليس للمرجعية. في رأيي أن إيران استطاعت أن تجعل طهران «المحل السياسي» وقم «محل سياحة فكرية» لطهران. في رأيي الدولة احتوت الحوزة بدون أن تلغيها. بالعكس لو لم يكن البابا موجوداً لخلقته، كما قال نابليون بونابرت. اى لو تكن الحوزة موجودة لوجدتها. هذا ما أثير في أعمال فكرية كبيرة من أن الحوزة والتعليم الحوزوي هو تعليم للسلطة، تعليم للدولة. وليس عملية معرفية خالصة. هذا ما حدث، حتى الإصلاحيون في النهاية إذا صارت لهم دولتهم، فالأولوية للدولة لا للحوزة. وهذه أولوية طبيعة، المسألة ليست أخلاقية. الأولوية للدولة عملياً وواقعياً». ويتابع: «إذا أردت أن أصف إيران بعد الثورة ومن خلال الدولة بكل تطوراتها أرى أنه في كل الحالات كانت إيران هي أكثر دولة مركزية فيها حريات، وأكثر دولة ديمقراطية فيها مركزية. إذا جئناها في جهة الديمقراطية نصل إلى المركزية، إذا جئناها في جهة المركزية نصل إلى نسبة ديمقراطية. تقديري أن هذه النسبة من الديمقراطية خفت في الإدارة وفي صناعة الرأي في القرار التنفيذي في الأزنة الأخيرة. وفي رأيي أن الجمهور الإيراني جمهور إصلاحي. والإصلاحيون لم يصلوا إلى مستوى إصلاحية الجمهور. في رأيي هناك مسلمة وهى أن الذي يقاتل يريد أن يحكم. ففي النهاية :الأمن موضوع سياسي، علماً بأن الحرس الثوري أعاد بناء نفسه بطريقة متماسكة بعد الحرب مع العراق، وأعطى أهمية للمسألة الاقتصادية. الحرس الثوري مؤسسة شاملة، ليست عادية أبداً وهى صاحبة النفوذ الأول، علماً بأن داخلها يوجد تعدد ما، حتى يوجد مزاج إصلاحي لا يعرف كيف يعبر عن نفسه. وهذا ليس سراً». ومن الشاه إلى مهدي بازركان وبني صدر بعد الثورة، إلى علي خامنئي ورجال الدين من قم، إلى سيطرة العسكر والحرس الثوري اليوم.. تتأقلم إيران. تتأقلم مع الظروف الداخلية والإقليمية والدولية.. لكن التأقلم يترك بصماته، لذلك من الإنصاف القول إن إيران اليوم مزاجها سيئ. ولا تحتاج إلى جهد كبير لتتبع آثار هذا المزاج السيئ. يكفي أن تسير في الشارع فترى الفتيات لا يرتدين غير الأسود والرمادي والبني. ونادراً ما تجد فتاة لبست ألواناً زاهية، إلا في المناطق الثرية في شمال العاصمة، لكن نسب هؤلاء قلت كثيراً في خلال عام واحد. يكفي أن تنظر إلى الناس في الشارع لترى تأثير المشاكل الاقتصادية، وطوابير البنزين، وتأثير تقنينه. يكفي أن تنظر إلى مزاج الإيرانيين العصبي بسبب تقنين الكهرباء، تنقطع بشكل يومي لمدة ساعتين أو ثلاث، وتترك الناس في حالة من الغضب والإحباط وتعكير المزاج بسبب عدم استخدام الكمبيوتر أو ثلاجات المنازل أو التلفزيونات خلال ساعات الانقطاع هذه، في بلد به ثالث أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة على مستوى العالم، لكنه يستورد قرابة 40% من احتياجاته من الجازولين لأنه يفتقر إلى الموارد أو المعرفة اللازمة لتحديث معامل التكرير لديه بما يمكنه من ضخ المزيد من النفط. إيران اليوم بمزاجها السيئ تجد نفسها بين عالمين. عالم يحكمه من يريدون «دولة الشهداء» وعالم يتطلع إليه من يريدون «دولة الأحياء».