علماء في النجف: النفوذ السياسي لرجال الدين في إيران يقوض سلطتهم الدينية

ممثل للسيستاني في الكاظمية: لا نحذو حذو إيران وإنما عليها الاحتذاء بنا

رجال دين شيعة يحضرون درسا دينيا في النجف (أ.ب)
TT

في الوقت الذي تموج فيه إيران بالتوترات بسبب الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها، يتطلع رجال الدين الشيعة في العراق نحو الجانب الآخر من الحدود وبداخلهم شعور بالرضا لتمكنهم من التوصل إلى إجابة أفضل عن تساؤل فرض نفسه على المذهب الشيعي لقرون طويلة: ما دور الدين على الصعيد السياسي؟

ومع ذلك، لا يوجد أي فرد في هذه المدينة، التي تعد معقل العلوم الشيعية على مستوى العالم، يتفاخر علانية بهذا الأمر. وليس هناك من بين كبار رجال الدين ولا الحاشية المحيطة بهم من طلابهم ومستشاريهم أصحاب العمائم من يتباهي بالأمر. وإنما يجري تبادل التعليقات والتلميحات حول هذه المسألة همسا، عبر إيماءات واستعارات، بما يتوافق مع تقاليد رجال الدين الشيعة. إلا أن رجال الدين هنا يقولون إنه بعد ثلاثة عقود من إقرار الثورة الإيرانية فكرة حكم رجال الدين ـ وبعد ست سنوات من سقوط صدام حسين الذي ساعد في إرساء أسس صورة أخرى للسلطة الدينية هنا ـ تبدو العلاقة بين الدين والدولة في العراق أقوى وأكثر قدرة على الاستمرار عما عليه الحال بالنسبة للرؤية البديلة القائمة في إيران المجاورة. في هذا الإطار، علق غيث شبر، رجل الدين الذي يتولى إدارة مؤسسة في النجف على صلة بآية الله علي السيستاني، بقوله: «هذا صحيح. لقد أصبح الإرشاد الروحي للشعب في العراق أقوى من الإرشاد المطروح، في ظل النظام الإيراني الراهن. وتحظى المرجعية بنفوذ أكبر في العراق، روحيا وما إلى غير ذلك، عنها في إيران».

الملاحظ أن الكثير من النقاشات حول المصطلحات أو التفاصيل المعقدة المرتبطة بدور رجل الدين وماهية العلاقة بين رجال الدين والدولة، ترتبط بلب الحياة السياسية في العراق وإيران، وتضم كلتاهما أغلبية شيعية، إلى جانب مجموعة متنوعة من الأعراق واللغات. وعلى الرغم من كونهم غير منتخبين، فإن رجال الدين في كل من الدولتين يتمتعون بمكانة فريدة لا نظير لها في أي من دول الشرق الأوسط الأخرى. ويمكن القول إن السيستاني اضطلع بالدور الحاسم الأكبر على الصعيد السياسي العراقي أكثر من أي زعيم وطني آخر خلال السنوات اللاحقة للغزو الذي قادته الولايات المتحدة للإطاحة بصدام حسين عام 2003. في المقابل نجد أنه نظريا على الأقل، يتمتع آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى في إيران، بسلطة يقول إن الله منحه إياها. لكن السخط المُنصبّ على النتائج الرسمية للانتخابات الرئاسية الإيرانية المعلنة الشهر الماضي شكل تحديا لسلطته.

على أرض الواقع، يختلف النظامان العراقي والإيراني على نحو بالغ، الأمر الذي يعكس انقساما عانى منه المذهب الشيعي طيلة قرون. وتجلى هذا الانقسام على نحو خاص منذ عام 1970، عندما صاغ آية الله الخميني، القائد الأعلى للثورة الإيرانية، للمرة الأولى فكرة حكم رجال الدين في إطار سلسلة من الخطب ألقاها خلال إقامته في النجف. وعرفت النظرية باسم «ولاية الفقيه»، وتقوم على فكرة أن سلطة الله، التي جرى تناقلها عبر سلسلة من الأئمة بدأت بالإمام علي وانتهت بالإمام الاثني عشر الذي اختفى في القرن التاسع، يتقلدها رجل الدين الذي يقع الاختيار عليه كمرشد أعلى. وقد تم إقرار هذه السلطة داخل الدستور الإيراني وشكلت أساس الحكم في إيران منذ اندلاع الثورة. على الجانب الآخر، تفتقر سلطة رجال الدين في العراق إلى أي أساس قانوني، وإنما تقوم على المكانة والنفوذ، فعلى سبيل المثال، يتطلع الملايين نحو السيستاني باعتباره مرشدهم الروحي. وينظر أكثر أتباعه ولاء إلى فتاواه باعتبارها في قوة القانون. ومن المعتقد أن السيستاني، رجل الدين الزاهد طويل القامة إيراني المولد، يتبع ما يوصف في بعض الأحيان بأنه أكثر مدارس الإسلام الشيعي محافظة، حيث يتخلى رجال الدين، تبعا لها، عن الاضطلاع بدور صريح في المشهد السياسي. وعليه، غالبا ما تترك للسياسيين مهمة تخمين موقف السيستاني المحتمل إزاء قضية ما ـ حال وجود مثل هذا الموقف.

إلى جانب ذلك، تعد سلطة السيستاني منفصلة عن تلك الخاصة بالأحزاب السياسية في العراق التي تتبع توجهات إسلامية معلنة، وغالبا ما تضم في صفوفها القيادية العليا رجال دين من مراتب صغيرة. أما آيات الله الأعلى شأنا فيعتبرون أمثال هؤلاء من رجال الدين سياسيين في المقام الأول، وليسوا رجال دين.

ومثلما أوضح أحد رجال الدين، فإن التباين القائم بين الرؤيتين العراقية والإيرانية أشبه بالاختلاف بين الأدوار المتنوعة داخل موقع بناء. وطبقا لمبدأ «ولاية الفقيه»، بمقدور رجل الدين الاضطلاع بدور كبير العمال، بحيث يتولى مسؤولية الإشراف على جميع جوانب التصميم والتنفيذ. أما في ظل الرؤية المحافظة العراقية، فيمكن النظر إلى السيستاني باعتباره المالك، لكنه قد يكون غائبا عن الموقع. الواضح أن كلتا الرؤيتين تمثلان فكرة مثالية نادرا ما تترجم إلى واقع. في إيران، شكّل السخط السائد في أوساط كبار رجال الدين حيال الانتخابات الرئاسية واستجابة الحكومة تحديا لسلطة خامنئي المطلقة. وفي العراق، مارس السيستاني في أغلب الوقت نفوذا حاسما على الصعيد السياسي، بدءا من إحباط الخطط الأميركية عام 2003 فيما يخص فترة الانتقال السياسي إلى الحكم الذاتي، وحتى ضمان إقبال الناخبين خلال انتخابات عام 2005 التاريخية. من ناحيته، شدد أحد المسؤولين العراقيين قائلا: «لا تغفلوا قط نفوذ السيستاني». إلا أن الاختلافات القائمة بين النموذجين لا تزال تمثل مصدر أحد أكثر النقاشات الساخنة بين رجال الدين، والتي تعزز شهرة كل من مدينة النجف المقدسة ونظيرتها الإيرانية قم. في هذا الصدد، قال محمد حسين الحكيم، الذي يعمل والده في خدمة السيستاني باعتباره واحدا من أقوى أربعة آيات الله في النجف: «الصراع (بين الاثنين) لا يزال مستمرا». ويبدي غالبية رجال الدين العراقيين ترددهم حيال الإدلاء بأي تصريحات بشأن الأزمة الإيرانية التي بدأت فصولها الشهر الماضي. أما العبارة التي تتردد دوما في النجف، التي تعج بالحجاج الإيرانيين وعائلات لرجال دين تربطها صلات قربى بإيران، فهي «إن ما يدور في الجوار لا يعنينا».

ويعكس هذا الصمت، في أحد جوانبه، الرغبة في الالتزام بمتطلبات الكياسة والمجاملة بين رجال الدين، ووجهة نظر ترى أن من الأفضل إجراء النقاشات بعيدا عن العلن. بيد أنه ربما ينبع هذا الصمت بالنسبة للبعض من رغبتهم في خلق مسافة فاصلة بينهم وبين إيران، خاصة أن إحدى الحجج التي يسوقها السنة العراقيون منذ أمد بعيد تدعي أن الشيعة أكثر ولاء لمذهبهم من الدولة العراقية. وفي هذا السياق، قال علي النجفي، أكبر أبناء واحد من أبرز أربعة آيات الله هنا، بشير النجفي: «في الحقيقة، لا نود التدخل في شؤون الآخرين».

وعندما يتحدث رجال الدين فإنهم غالبا ما يرفضون، علانية على الأقل، فكرة وجود أزمة في إيران. على سبيل المثال، وصف أحد رجال الدين، رفض الكشف عن هويته، ما يدور هناك بأنه «زوبعة في فنجان. لا يزال الأمر يفتقر إلى الشرارة اللازمة لإشعال ثورة».

إلا أن هناك شعورا لدى هؤلاء الأشخاص أنفسهم بأن السلطة السياسية التي حظي بها رجال الدين الإيرانيون هددت سلطتهم الدينية. وشرح أحد رجال الدين وجهة نظره بهذا الشأن بقوله: «إذا رغبت في كسب حب الناس، فعليك ترك شؤونهم الدنيوية لهم». وقال غيث شبر «عندما ينأى المرجع بنفسه بعيدا عن المشهد السياسي، سيتنامى نفوذه الروحي».

وقد لفتت مفارقة أن دولة رجال الدين تعرض نفوذهم الديني للخطر انتباه الكثيرين. وقال شبر «رغم أن الحكومة في إيران إسلامية، فإن نسبة كبيرة من السكان ـ ربما لا تصل إلى الغالبية ـ علمانية. على الجانب الآخر نجد أن الحكومة العراقية ليست دينية، على خلاف الحال مع النسبة الأكبر من الشعب هنا». واستطرد موضحا أنه في الشرق الأوسط «يميل الشعب للتحرك في عكس اتجاه حكومته».

من ناحية أخرى، نادرا ما يجري التشكيك في شخص السيستاني، الأمر الذي يرجع لكونه رجلا بالغ التحفظ، انضم إلى صفوف المؤسسة التعليمية الدينية منذ العاشرة من عمره، وقد نجح في رسم صورة له تقوم على الزهد الشديد لدرجة أنه لا يزال يجلس على بسط رديئة رخيصة، ولم يقدم على شراء جهاز تبريد للأطعمة سوى منذ قرابة عقد. وعندما يتعرض لانتقادات، غالبا ما تكون بسبب أصوله، خاصة أن لغته العربية لا تزال تحمل لكنة فارسية واضحة، على الرغم من رحيله عن إيران منذ ما يربو على 60 عاما. ويرى البعض أن السيستاني يتدخل في الحياة السياسية على نحو مفرط، ويلقون باللوم على عاتقه عن الطابع الطائفي العميق الذي يتسم به المشهد السياسي العراقي. في المقابل، يرى آخرون أن العكس تماما هو الصحيح. مثلا، كثيرا ما يشكو أتباع مقتدى الصدر، الذي يؤيد اضطلاع رجال الدين بدور سياسي أقوى، من أن السيستاني كتوم ومقل في حديثه على نحو مفرط. وفي معقلهم المعروف باسم مدينة الصدر، وهو عبارة عن حي واسع فقير من أحياء بغداد، يطلق على شارع يعج بمتاجر البسط والفراش «شارع السيستاني»، في إشارة إلى أنه نائم معظم الوقت. من ناحيته، وصف الحكيم دور السيستاني وأقرانه بأنه التوجيه. وتوحي الثقة التي يبديها رجال الدين في النجف بشعورهم بأن مدينتهم استعادت مكانتها البارزة على صعيد الفكر الشيعي. يذكر أنه على امتداد عقود، تراجع نفوذ المدينة، الذي لم تجرؤ مدينة أخرى على تحديه في فترة من الفترات، في مواجهة قم، وهبط نفوذها إلى الحضيض خلال حكم صدام حسين. أما اليوم، فيبدو أن نجم النجف في الصعود، اعتمادا على نفوذ السيستاني وأقرانه. وفي تلك الأثناء، بدأ الازدهار الاقتصادي في إحداث تحول في المشهد العام للمدينة، عبر إضافة فنادق شاهقة ومجمعات دينية واسعة إلى المدينة، التي هيمنت عليها حتى وقت قريب المباني الصفراء المنخفضة.

من ناحيته، أكد علي الواعظ وهو ممثل للسيستاني في مدينة الكاظمية ببغداد «نحن لا نحذو حذو إيران. وإنما على إيران الاحتذاء بالنجف».

* خدمة: «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»