محكمة لاهاي تعيد ترسيم حدود أبيي: النفط للشمال.. والأرض والماء للجنوب

طرفا النزاع أكدا قبولهما بالقرار.. الخرطوم تتحدث عن انتصار.. والجنوبيون يطالبون بالابتعاد عن الاستفزاز

منظر عام لجلسة النطق بالحكم حول تبعية منطقة أبيي السودانية في قصر السلام بلاهاي أمس (أ.ب)
TT

حسمت محكمة التحكيم الدولية في لاهاي أمس النزاع الدائر بين الحزبين الحاكمين في السودان، «المؤتمر الوطني» بزعامة الرئيس عمر البشير، و«الحركة الشعبية» (الحاكمة أيضا في جنوب السودان) بزعامة نائب الرئيس سلفا كير، بشأن ترسيم حدود منطقة أبيي الغنية بالنفط، بقرارها تقليص مساحة المنطقة وبالتالي منح الخرطوم السيطرة على الحقول النفطية، في قرار أكد طرفا النزاع قبولهما به.

وأعلن طرفا النزاع، اللذان رفعا في ديسمبر (كانون الأول) 2008 إلى محكمة لاهاي نزاعهما حول حدود هذه المنطقة إثر معارك دامية فيها، قبولهما بالقرار التحكيمي. وقضى قرار المحكمة بتقليص حدود منطقة أبيي من 18500 كلم مربع إلى 10 آلاف كلم مربع، بحسب خريطة أصدرتها المحكمة، وبناء عليه باتت الحدود الشمالية للمنطقة عند خط العرض 10 درجات و10 دقائق، فيما اعتبرت المحكمة أن لجنة الخبراء المكلفة من قبل الطرفين، وتتكون من 15 خبيرا بينهم أميركيون وأوروبيون، بترسيم حدود المنطقة، قد تجاوزت المهمة الموكلة إليها، وألغت قرارها بشأن الحدود الشمالية، والشرقية والغربية، فيما اعتمدت ترسيمها للحدود الجنوبية. وهو ما اعتبر حلا وسطا.

وبحسب حكومة الخرطوم فإن هذا القرار يمنحها السيطرة المباشرة على الأراضي الواقعة شمال خط العرض هذا، وهي أراض غنية بالحقول النفطية وكانت حتى الساعة جزءا من منطقة أبيي. وكانت الخرطوم تخشى من أن تُعتبر محكمة التحكيم هذه الأراضي جزءا من منطقة أبيي، وبالتالي أن تصبح هذه الأراضي في قبضة الجنوبيين إذا ما قرر سكان أبيي الانضمام إلى الجنوب، في استفتاء سيجري في يناير (كانون الثاني) 2011، لتحديد مصير المنطقة بشأن ما إذا كانت تتبع للجنوب أو الشمال.

وينص اتفاق السلام الشامل الموقع بين الشمال والجنوب 2005، على تنظيم استفتاءين في 2011، أولهما في أبيي حيث سيقول سكان المنطقة (غالبيتهم من قبيلة المسيرية العربية والدينكا نقوق الإفريقية) كلمتهم في ما إذا كانوا يريدون الاحتفاظ بالوضع القانوني الخاص لمنطقتهم في إطار سيادة الشمال عليها، أم يرغبون بالانضمام إلى الجنوب. أما الاستفتاء الثاني فسيجري في الوقت عينه في الجنوب حيث سيحدد السكان ما إذا كانوا يريدون الاستقلال عن الخرطوم وتكوين دولة جديدة أم لا.

وقال ممثل حكومة الخرطوم درديري محمد أحمد إثر النطق بالحكم: «ربحنا كثيرا بهذا الحكم»، مؤكدا أن الأراضي التي أصبحت بموجب القرار تحت سيطرة الحكومة «تتضمن الحقول النفطية المتنازع عليها». من ناحيته، أبدى رئيس محكمة التحكيم الدولية في لاهاي بيار ماري دوبوي ثقته «في أن طرفي النزاع سينفذان الحكم بنية حسنة».

ولفت القاضي دوبوي إلى أن «الطبيعة النهائية والملزمة للحكم الصادر حاسمة لمواصلة عملية السلام»، داعيا طرفي النزاع إلى تشكيل لجنة مشتركة مهمتها تعليم الحدود على الأرض. من جهته قال ممثل الحركة الشعبية لتحرير السودان في لاهاي رياك مشار إثر النطق بالحكم: «لم يخب أملنا جراء القرار. أعتقد أنه قرار متوازن سيؤدي إلى ترسيخ السلام في السودان».

بدوره أعلن وزير الخارجية السوداني والقيادي الكبير في الحركة الشعبية لتحرير السودان دينق ألور أن «قرار محكمة التحكيم الدائمة ملزم لطرفي النزاع. الحركة الشعبية لتحرير السودان وشعب المنطقة سيحترمون هذا القرار». غير أن الوزير الجنوبي المتحدر من أبيي كان أكثر دقة في تفسيره للقرار، ناصحا بالتروي لرؤية تطبيقه. وقال من أبيي: «هناك نفط أينما كان في هذه المنطقة، علينا أن ننتظر لرؤية الحكم على الورق وعلى الأرض لتحديد أين توجد فعلا الثروات».

وقال درديري محمد أحمد: «لقد حصلنا على ما نعتبره عادلا، إنها الصيغة التي يمكن أن نحيا معها. يمكننا الآن المضي قدما نحو الخطوة المقبلة في 2011». وقال إن القرار به بعض الجوانب الإيجابية مثل «إلغاء تقرير الخبراء»، الذي وصفه بأن ظل كابوسا يجثم على صدر القضية منذ عام 2007. وأضاف أن إلغاء محكمة التحكيم لتقرير الخبراء رغم المعايير التي اتبعتها المحكمة يعتبر «إنجازا وانتصارا كبيرا وتأكيدا على أن مصداقيتنا في محلها».

وحسب المسؤول السوداني فإن القرار أعاد للشمال ما يتراوح بين 10 و12 ألف كلم من جملة نحو 16 ألفا إلى الشمال كانت هي موضوع النزاع بين الوطني والشعبية يعد إنجازا مهما للغاية. وقال الدرديري إنه على الرغم من أن الحكومة لم تمنح كل ما كانت تطالب به إلا أن أمر الفصل في بقية أجزاء المنطقة التي لا تزال ضمن منطقة أبيي سيكون القرار النهائي فيها لأهلها، سواء الانضمام إلى الجنوب أو البقاء في الشمال من خلال الاستفتاء الذي سيجرى في نهاية 2011 والذي سيشارك فيه المسيرية (الموالية للمؤتمر الوطني) جنبا إلى جنب مع الدينكا نقوق الموالية لحكومة الجنوب.

وقال الدرديري إن حديث المحكمة عن أن الخبراء لم يتجاوزوا التفويض في ما يختص بالحدود الجنوبية «هو أمر بالنسبة إلينا ليس له معنى كبير»، وأضاف أن الخلاف كان منصبا حول الحدود الشمالية والشرقية والغربية، وقالت المحكمة إن الخبراء تجاوز التفويض في كل هذه الحدود. وبدا متفائلا بمرحلة الاستفتاء المقبلة حول وضعية المنطقة بمشاركة المسيرية ودينكا نقوق.

وعلى صعيد الحركة الشعبية قال مالك عقار نائب رئيس الحركة الشعبية في تصريحات صحافية إنه يرحب بشدة بالقرار، وأضاف: «إننا قلنا سلفا إن أي قرار يصدر من المحكمة نحن ملتزمون به». داعيا شركاءه في «المؤتمر الوطني» إلى الالتزام بتنفيذ القرار فورا، غير أنه قال إن مناطق الميرم وهجليج اللتين أبعدتهما المحكمة من حدود أبيي، ستدخلان ضمن المناقشات بين «المؤتمر الوطني» والحركة الشعبية عند ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب.

واستقبلت العاصمة السودانية قرار التحكيم بهدوء، وقال شهود عيان لـ«الشرق الأوسط» إن الحياة في مدينة أبيي سارت هادئة بعد صدور القرار، وذكروا أن أنصار الحركة الشعبية في المدينة خرجوا في مظاهرة «ابتهاج»، على حد وصفه، بقرار المحكمة، وقدر شهود العيان المظاهرة بنحو 2500 شخص، جابوا المدينة وهم يرددون: «أبيي بيتنا»، فيما لم يشر شهود عيان إلى مظاهرة مماثلة من قبل المسيرية. ولاحظوا وجود إجراءات أمنية مكثفة يقودها وزير الداخلية السوداني وقائم القوات الأممية السودانية المشتركة، والممثل الخاص للأمم المتحدة.

وكشفت اتصالات أجرتها «الشرق الأوسط» مع عدد من قيادات من قبيلتي المسيرية ودينكا نقوق وجود تباين في التفسيرات للقرار، حيث تعتقد المسيرية أن القرار أخذ منهم الأراضي الخصبة ونهر «بحر العرب»، الذي يلجأون إليه كمورد مياه لهم ولمواشيهم في فصل الصيف، كما اعتبر البعض من أبناء المسيرية أن قرار المحكمة بإعطاء حرية التنقل للمسيرية في مناطق الماء والكلأ في المنطقة قد لا يتم تنفيذه بالشكل الجيد على أرض الواقع.

وحرصت أغلب القيادات الشعبية عدم الإفصاح عن أسمائهم باعتبار أن القصية بالنسبة إليهم حساسة وحل دارسة. وأقر بعض أبناء المسيرية بأن قرار المحكمة أعطى الشمال أغلب مواقع النفط. فيما ترى قيادات من دينكا نقوق أن القرار سلبهم مواقع النفط في مقابل ذلك يعترفون بأنهم حصلوا على أكثر من 75% من الأراضي، ويرون أنها في الأصل تتبع لهم. وقال أحدهم: «ربحنا الماء والأرض وخسرنا النفط»، فيما قال آخر: «لم نخسر شيئا يذكر»، ورأى قيادي من المسيرية أن القرار «توافقي» بمعني الكلمة، وأضاف: «أرضى هذا الطرف من جهة ولم يرضه من الجهة الأخرى، والعكس بالعكس».

ورصدت «الشرق الأوسط» اجتماعا في الخرطوم بعد صدور القرار لسلاطين وعمد من القبيلتين أكدوا خلاله ضرورة قبول القرار، مهما ظهر لكل طرف من أطراف النزاع من علات فيه. ولم يتخط التعبير الشعبي إزاء القرار مشاهد لاجتماعات بين الأطراف لدراسة احتمالات الأوضاع في الفترة المقبلة. ووجد قرار التحكيم الدولي ترحيبا من المجتمع الدولي حيث اعتبر المبعوث الأميركي اسكوت غرايشن الذي حضر إعلان صدور القرار من أبيي أنه متفائل بتنفيذ قرار المحكمة من قبل الطرفين بشكل سلس، وقال إن على الأطراف أن تعمل على ضمان التنفيذ الكامل لقرار التحكيم وترسيم حدود منطقة أبيي لتتمكن قبائل المنطقة من الاستفادة القصوى من السلام، فيما قال ممثل الاتحاد الأوروبي في السودان أن المجتمع الدولي سيدعم القرار باعتباره نهائيا وملزما للأطراف، وأضاف أن القضية الجوهرية ليست في تفاصيل القرار وإنما في توفيره الحل السلمي في المنطقة التي شهدت مآسي المواطنين.

من جانبه أعلن أشرف قاضي ممثل الأمم المتحدة في السودان أن الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان اتفقا على أن النزاع بينهما على هذه المنطقة قد سوي. وفي أول رد فعل خارجي على القرار دعت باريس طرفي النزاع إلى تطبيق قرار محكمة التحكيم الدائمة الذي وصفته بـ«الجوهري». وقالت الخارجية الفرنسية إن «فرنسا تدعو الطرفين اللذين اتفقا على إحالة نزاعهما الحدودي إلى المحكمة الدائمة واتفقا على تشكيل محكمة تحكيمية لهذه الغاية، إلى التطبيق الكامل لهذا القرار في أسرع وقت ممكن»، مذكّرة بأنها أسهمت بملبغ 100 ألف يورو لتمويل محكمة التحكيم حول أبيي.

ويتفق خبراء النفط على أن قرار المحكمة أعطى أغلب النفط المستخرج من أبيي الشمال، مثل مناطق «هجليج» التي تُعتبر مركز إنتاج النفط في السودان ومنها يتمدد أنبوب النفط الرئيسي للنفط صوب العاصمة الخرطوم حيث أكبر مصفاة للنفط، وإلى ميناء «بشائر» لتصدير النفط على البحر الأحمر. وحسب الأرقام المتداولة فإن ثلثي النفط السوداني المستغل ينتج من أبيي. غير أن خبراء آخرين يقللون بشدة من أهمية نفط أبيي، ويرون أن منطقة أبيي مرشحة لأن تواجه مشكلة فنية خطيرة، بسبب تسرب المياه إلى حقول النفط الذي يفوق عدده مائة حقل، وهناك من يتنبأ بأن النفط في أبيي قد ينضب بعد ثلاثة أعوام من الآن، ويشيرون في هذا الخصوص إلى حدوث تراجع في حجم الإنتاج في المنطقة منذ عام 2006 مقارنة بمواقع الإنتاج الأخرى في السودان. ويقدر الخبراء أن حجم الاحتياطي في أبيي نحو 200 مليون برميل وأنه في تراجع مستمر.

نائب رئيس حكومة الجنوب رياك مشار يضع منطقتي هجليج والميرم اللتين أبعدتا من حدود أبيي أمام لجنة ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، والدرديري ينفي إعادة مناقشة المنطقتين باعتبارهما ضمن منطقة كردفان