من ذاكرة المام ـ رئيس ـ طالباني: أغمي علي عندما التقيت بمصطفى بارزاني.. وبطلب منه أعفاني قاسم من إكمال الخدمة العسكرية

الرئيس العراقي بكى وهو يتحدث لـ«الشرق الأوسط» عن ذكرى لقائه الأول بزعيم الثورة الكردية (الحلقة 7)

جلال طالباني في كلية الضباط الاحتياط عام 1959 («الشرق الأوسط»)
TT

يفترض أن يوم الجمعة هو يوم استراحة الرئيس جلال طالباني، حيث لا يمارس أي نشاطات مكتبية أو اجتماعات، لكنه لا يترك أي يوم من أيام الأسبوع من دون أن يعمل، إذ يقوم في عطلة نهاية الأسبوع، خاصة عندما يكون في مدينة السليمانية، بزيارات للقرى أو البلدات الكردستانية، ملتقيا بمواطنيه وأصدقائه ورفاق السلاح في الجبل، وغالبا ما يدعو بعض أعضاء المكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني لمرافقته في هذه الجولات التي يصطحب فيها زوجته، هيرو خان، التي لا تجد الفرصة المناسبة للقاء زوجها المنشغل باستمرار.

يذهب إلى القرى ويجلس مع الأهالي، شيوخ ونساء وأطفال ورجال، متحدثا معهم، مستفسرا عن أوضاعهم، ليس باعتباره رئيس جمهورية العراق، ولا كونه الأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني، بل لأنه مام جلال فحسب، وهم يتعاملون معه على هذا الأساس، فتجدهم بسطاء في استقباله والحديث معه وكأنه أحد أفراد العائلة، يحدث هذا من غير أن يتدخل فريق حمايته أو أعضاء سكرتاريته في منع أو حجب أي مواطن يريد تحيته أو الحديث إليه أو التقاط صورة تذكارية معه.

قبل يومين من إجراء اللقاء الخاص بالحديث المنشور في هذه الحلقة كنت في منتجع دوكان، وكان يوم جمعة، إذ اصطحبني أحد أعضاء سكرتاريته، كاكا كامل، لنذهب صباحا مع مام جلال في زيارة إلى إحدى ضواحي السليمانية، اجتزنا حقولا من الورود البرية الصفراء والحمراء، براري مفروشة ببساط أخضر مطرز بمئات الألوان، عبرنا أنهارا تجري مياهها الصافية بقوة، وعلى طول الطريق كانت هناك مئات العوائل التي خرجت إلى الجبل، وهذه عادة كردية، إذ لا تبقى عائلة في بيتها يوم الجمعة، خاصة إذا كان الجو صافيا. يخرجون إلى البراري، يدبكون ويغنون ويفرحون من كل أعماقهم، وأينما مر مام جلال، كان يتوقف ليحيي العوائل ويتحدث ويضحك معهم، منتشيا بسعادتهم الروحية. وصلنا إلى ما يشبه المصيف، كان هناك شلال يتدفق من قمة الجبل، وسرادق هيئ لاستقبال مام جلال وضيوفه الذين تنوعت ميولهم وانتماءاتهم وأعمارهم، ما أن جلسنا حتى قال شارحا لي إن هذه المنطقة تدعى (جمي رازان)، وهي أول قاعدة اتخذها طالباني عام 1961 في الدفاع عن كردستان ضد القوات الحكومية، واليوم تحولت إلى مصيف بناء على رغبة أحد المقاتلين، الذي استشهد فيما بعد، والذي طلب من قائده ورفيقه طالباني أن يتحول هذا المكان إلى مصيف يتنزه به الناس لجمال طبيعته، فكان له ما يريد وحمل المصيف اسم المقاتل الشهيد. وفي هذه الحلقة يتحدث الرئيس العراقي عن اندلاع الثورة الكردية في عهد عبد الكريم قاسم.

بقيت أمنية جلال طالباني بلقاء زعيم حزبه، ملا مصطفى بارزاني، نابضة في داخله، ذلك أن بارزاني، مثلما أوضحنا في الحلقة الماضية، لم يكن زعيم حزب كردي وحسب، بل هو رمز للتحرر الثوري الوطني، والمدافع عن حقوق الشعب الكردي، وأحد أعمدة دولة مهاباد الكردية، إذ تبقى هذه الدولة، أو جمهورية مهاباد، على الرغم من عدم استمرارها، فإنها تشكل رمزا لأماني الأكراد في أن تكون لهم دولتهم المستقلة.

كان طالباني لا يزال يحفظ كلمة السر التي هي بمثابة الكلمة السحرية التي ستفتح أمامه الباب لمقابلة زعيمه بارزاني، وبقي تنفيذ هذه الأمنية مؤجلا إلى عامين حيث دعي مام جلال، وباعتباره الأمين العام لاتحاد طلبة كردستان، إلى حضور مهرجان الشباب والطلبة العالمي في موسكو عام 1957 كجزء من الوفد العراقي، وكان هناك شبه يقين في داخل طالباني بأنه سيلتقي بارزاني هذه المرة.

يقول طالباني: «قبل أن أصل إلى موسكو للمشاركة في مهرجان الشباب العالمي عام 1957، كنت قد كتبت إلى ملا مصطفى بارزاني عن زيارتي إلى عاصمة الاتحاد السوفياتي ورغبتي في مقابلته، وراسلته عن طريق عنوان الشخص الإيراني في ألمانيا الغربية، كما أني كنت لا أزال أحتفظ بكلمة السر التي نقلها لي النجفي من بارزاني عام 1955».

ويروي مام جلال حادثة ظريفة عن لقائهم بالأكراد العراقيين في موسكو، فيقول: «في اليوم الأول من وصولنا إلى موسكو استقبلنا في محطة القطار أكراد سوفيات، إذ تعرفوا علينا من أزيائنا الكردية المميزة، وكنا طبعا ضمن الوفد العراقي، ثم حضر كل من الدكتور عبد العزيز شمزيني، والدكتور مراد، عضوي المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني، باعتبارهما أيضا من الأكراد السوفيات، وذلك لأسباب أمنية، وجاء الاثنان بعد أن عرفا بوجود أكراد عراقيين ضمن الوفد العراقي، كان معنا الشيخ علي النقشبندي، الذي جاء ضمن وفد الحزب الشيوعي العراقي، وكان يعرف شمزيني جيدا، فانتحى بي جانبا وقال لي مام جلال هذا عبد العزيز شمزيني وأنا أعرفه جيدا، حيث كان ضابطا في العراق وكان لوالدي علاقة به وأنا أعرفه شخصيا، لهذا توجهت إلى شمزيني وحييته باعتباره عبد العزيز، وقلت له: مرحبا دكتور عزيز، فأنكر في البداية أنه عبد العزيز، وقال: أنا لست عبد العزيز، فقلت: لماذا تخفي نفسك عنا ونحن أكراد ومن حزب واحد ونريد اللقاء بكم وببارزاني؟ ثم ناديت النقشبندي الذي سلم عليه بحرارة وقال له: كنا نلتقي في المقهى الفلاني ببغداد، فابتسم وقال: أي والله أنا عبد العزيز وأهلا وسهلا بكما، لكنه استطرد قائلا إن ملا مصطفى بارزاني لا يستطيع أن يقابلكما إلا بموافقة السوفيات».

إلا أن مام جلال لم يفقد الأمل، وكان يعمل جادا باتجاه لقاء زعيم حزبه، ويقول: «تكررت لقاءاتنا مع شمزيني، وفي إحدى اللقاءات قال لي إن ملا مصطفى بارزاني يريد اللقاء بك، لكنني لا أعرف متى، لهذا عليك أن تجلس هنا، وحدد لي مكانا أمام البناية التي كنت أسكن فيها، وخلال وقت محدد كل يوم، وسوف يأتي من يأخذك إليه، وهكذا كنت أجلس على كرسي أمام البناية منتظرا من يأتي ليأخذني للقاء بارزاني، وفي أحد الأيام جاء شخصان تعرفت على سيمائهما الكردية، اقتربا مني وألقيا علي التحية بهدوء وسألني أحدهما إن كنت من الوفد العراقي، فقلت نعم، فقال: نحن نبحث عن صديق لنا، فإذا أمكن ساعدتنا للقاء به، قلت: تفضلا، عمن تبحثان؟ فقالا: نبحث عن جلال طالباني، قلت: أنا جلال، لكنهما لم يكونا متأكدين من ذلك، فقلت: أنتما بارزانيين، أليس كذلك؟ وكنت أعرف أحدهما، وهو أسعد خوشوي، وكان أحد القادة البارزانيين المعروفين، ثم سألني عن كلمة السر التي كان النجفي قد أبلغني بها، فقلت له الكلمة، فقال: نعم أنت جلال طالباني، وقال خوشوي إن ملا مصطفى يريد أن يراك فتعال معنا، قلت حسنا، وفرحت فرحا شديدا».

يصف مام جلال تفاصيل هذا اللقاء بكثير من الفرح، يستعيده ويستحضره وكأنه يحدث الآن، ارتسمت ابتسامة على وجهه، وشع ألق في عينيه، وبدأ يتحدث مهيئا إياي لحدث مهم، بل بالغ الأهمية، وقال: «كان عمري وقت ذاك 24 عاما، توجهنا إلى العمارة التي كان يسكن فيها بارزاني وصعدنا بواسطة المصعد من غير أن أنتبه في أي طابق كان، وضرب أحد المرافقين الجرس، ففوجئت أن ملا مصطفى بارزاني فتح الباب بنفسه، حييته، ثم عانقني، فأغمى علي من شدة الفرحة»، وهنا فلتت دمعتان من عيني الرئيس طالباني مسحهما مزيحا قليلا نظارته، هدأ قليلا واستعاد وضعه، ثم قال: «ذلك أن بارزاني يمثل، بالنسبة لي، رمزا كبيرا وأسطورة في نضالنا الكردي، كان على علم بالرسالة التي بعثت له بها بأني عضو المكتب السياسي في الحزب، وجلسنا نتحدث، ثم أعقب هذا اللقاء لقاءات أخرى معه، إذ لم يكن يصله إلا القليل، القليل من أخبارنا، ودارت بيننا أحاديث عن الحزب ووضع الأكراد والقضية الكردية والعراق، وكيف ينظر السوفيات إلى القضية الكردية، وماذا يجب أن نفعل، وهكذا أحاديث تهم البلد وشعبنا وقضيتنا».

بعد عامين من ذلك اللقاء، أي في عام 1959 عاد ملا مصطفى بارزاني إلى العراق عن طريق البحر ووصل إلى البصرة.

وعندما وصل أقلته باخرة حكومية تحمل اسم (تموز)، وكانت باخرة ملكية مخصصة للعائلة المالكة، من ميناء الفاو إلى ميناء المعقل. ويتحدث كبار السن من أهالي البصرة عن استقبال أهل المدينة والعراقيين من أكراد وعرب، الذين وصلوا إلى العشار، مركز البصرة، حيث بلغ عددهم مئات الآلاف، تزاحموا على ضفاف شط العرب حتى أن قسما منهم قد هوى إلى النهر وغرق. وأرّخ كبار السن من أهالي البصرة حوادث مدينتهم على أساس تاريخ وصول بارزاني إلى مدينتهم، فيقولون، مثلا، حدث ذلك قبل وصول بارزاني، أو بعد وصول بارزاني، وهكذا.

كان الشخص الأول في الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق وقت ذاك إبراهيم أحمد، ثم حمزة عبد الله، ونوري شاويس، وعلي عبد الله، وعمر مصطفى دبابة، وجلال طالباني يأتي بعدهم مرتبة في الحزب.

يقول طالباني: «في عام 1959 تخرجت في كلية الحقوق، وسجلت اسمي في نقابة المحامين، وحسب القوانين العراقية التي كانت سائدة فإن خريجي الجامعات لا بد من أن يخدموا في الجيش العراقي، لهذا انتسبت إلى كلية الاحتياط لأتخرج ضابطا احتياطا، وقد نسبوني لأكون مدرس قانون في الكلية العسكرية، لكنني توسطت لأتخلص من الكلية العسكرية وتم تنسيبي إلى مدرسة الدروع في معسكر أبو غريب لأدخل دورة الدروع لثلاثة أشهر حيث تدربنا على قيادة الدبابات والاتصالات والتعبئة وقتال الدروع، وبعد أن انتهيت منها تم تنسيبي إلى كتيبة الدروع الرابعة في أبو غريب، التي كانت مجهزة بدبابات (تي 54) السوفياتية الحديثة، والتي كانت قد وصلت توا إلى العراق، وبقيت ضابطا في هذه الكتيبة لستة أشهر، حيث كان الحزب الديمقراطي الكردستاني قد تمت إجازته رسميا، ثم طلب ملا مصطفى بارزاني من عبد الكريم قاسم إعفائي من الفترة المتبقية من الخدمة العسكرية، وهذا ما تم، حيث عدت محاميا».

وقال طالباني: «كان عبد الكريم قاسم محبوبا جدا في البداية، وخاصة السنتين الأولى من ثورة 14 يوليو (تموز) 1958، باعتباره حرر العراق من الاستعمار والحكم الملكي، ثم إن المادة الثالثة من الدستور الذي صدر في عهده كانت تنص على أن العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن، ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية، وكانت هذه المادة تعني الكثير بالنسبة للأكراد، وأجيز في عهده إصدار صحيفة الحزب(خابات)، التي صارت تصدر بصورة علنية في بغداد، وباللغتين العربية والكردية، وأسس مديرية الثقافة الكردية في وزارة المعارف، وتم تدريس اللغة الكردية بصورة أوسع من السابق ووضع في العلم العراقي ما يرمز إلى الأكراد، لهذا كان قاسم محبوبا جدا من قبل الأكراد»، وأضاف طالباني: «عندما عاد بارزاني من موسكو بعد عام من الثورة واستقر ببغداد، خصص له قاسم بيتا قديما من بيوت المؤسسة العامة للسكك الحديدية، وكان يقيم فيه رئيس الوزراء في العهد الملكي نوري السعيد، في منطقة الصالحية (جانب الكرخ من بغداد)، قرب بناية الإذاعة والتلفزيون، وصرنا نعمل سياسيا بصورة علنية حتى قبل إجازة الحزب عام 1960، وفتحنا فروعا ومقرات في الكثير من المدن الكردية والعربية، وتوسع الحزب بشكل كبير، وصارت منظمات النساء والعمال والطلبة والشباب تعمل بصورة أفضل وبصورة شبه علنية».

على الرغم من أن قاسم عين وزيرا كرديا من الحزب الديمقراطي الكردستاني فإنه فعل ذلك من غير أن يأتلف أو يتفق مع الحزب الديمقراطي، وحسب شهادة طالباني الذي قال: «لم نشارك رسميا في الحكم في عهد قاسم، ولكن تم تعيين عوني يوسف، وهو أحد قياديي الحزب، وزيرا للإسكان، لكننا لن نشارك كائتلاف مع الحكومة، ولم يتم تعيين يوسف باسم الحزب، ولم يطلب قاسم منا أن نسمي ممثلنا في الحكومة، وكأننا في ائتلاف مع الحكومة، ولكن قاسم أعجب به وعينه، وهذا أيضا كان نصرا لنا وللأكراد».

لكن الخلافات بين قاسم وبارزاني سرعان ما طفت على سطح الأحداث السياسية، يقول طالباني: «هذه قصة طويلة لم يحن الوقت بعد لأرويها، ومما عمق هذه الخلافات هو أن ثورة يوليو (تموز) بدأت بالانحراف عن نهجها وإبعاد العناصر الديمقراطية والتقدمية ومعاداتها، ثم كانت هناك ردة في توجه قاسم منذ منتصف عام 1959، بدأ بمعاداة الحزب الشيوعي العراقي، ومن ثم الأحزاب الأخرى، وكانت جريدة (الوطن الديمقراطي) التابعة للحزب الشيوعي تنتقد هذه الممارسات، مما أدى إلى انزعاج السلطات من هذه الجريدة التي قدمتها إلى محكمة عرفية، أما السبب الثالث فهو أن حكومة قاسم بدأت بتسليح العشائر الكردية الرجعية التي كانت مع النظام السابق(الملكي) وتحرضها ضد البارزانيين، وهذه الخطوة أدت إلى التراجع في تطبيق الإصلاح الزراعي الذي كان يشكل واحدة من أهداف حزبنا، وبدأت الحكومة تتراجع عن الحقوق الكردية تدريجيا حتى تعمق الخلاف، ووصل ذروته عندما قصفت الطائرات الحكومة عام 1961 تجمعات الكرد في دربندي خان ودربندي بازيان وزاخو وبارزان والقرى البارزانية، مع أن بارزاني كان وقت ذاك في بارزان، وكان هذا الإيذان ببدء القتال وإشعال نار الثورة الكردية».

وكان لطالباني جولته هو الآخر في الخلاف بين الأكراد، وقاسم الذي كان قد كال الاتهامات بحق بارزاني، يقول مام جلال: «في أعياد نوروز عام 1961 كنت في بغداد، وكنت عضو المكتب السياسي المعلن، وكان عمر دبابة معتقل، بينما مصطفى بارزاني في بارزان، كما أسلفنا، وأنا الذي ألقيت خطاب أعياد نوروز في قاعة الشعب (جانب الرصافة من بغداد، والملاصقة لبناية وزارة الدفاع القديمة التي كان قاسم يتخذ منها مقرا له)، وانتقدت قاسم في هذا الخطاب، ودافعت عن بارزاني الذي كان قاسم قد اتهمه، كما دافعت عن الثورة الكردية، وقلت: عندما كان الشعب الكردي يثور في العهد الملكي ضد الاستعمار كان هنالك من يعمل تحت قيادة الجنرال البريطاني، رنتن ضد الثورة الكردية، وكنت أعني قاسم نفسه، ثم خرجت من الاحتفال واختفيت في شقة كانت لنا في بغداد، ومنذ ذلك اليوم بقيت مختفيا حتى ذهبت إلى السليمانية لأنني كنت أعرف بأنهم سيلقون القبض علي، وبالفعل صدر أمر إلقاء القبض علي».

وأضاف طالباني مسترسلا: «في السليمانية كان عندنا تنظيم قوي وفعال، وكنت عضوا فاعلا نشطا في المكتب السياسي، ومن أكثر أعضاء المكتب قربا للجنرال بارزاني، خرجت أنا من المكان الذي كنت أختفي به في السليمانية قبيل بدء الثورة، وذهبت إلى تجمعات كانت لنا نفوذ فيها في خلكان وفي جبل هيبة سلطان ودربندي خان ودربندي بازيان، وكنا نتجول بين هذه المناطق».

وبعيدا عن مركز مدينة السليمانية، متوغلين بين وديانها وطالعين إلى جبالها، حيث الطبيعة هناك كريمة مثلما الأكراد، تعطي كل ما عندها من عيون ماء وشلالات وأنهار وحقول من الورود البرية، هناك، وعند حافة جبلين متقاربين تقع منطقة ساحرة اسمها (جمي رازان)، ومعناها الوادي الذي يتجمع فيه المطر، حيث ينزل من أعلى الجبل شلال يدعى بافيل، وهو الاسم الذي أطلقه طالباني على ابنه الأول، وتمتاز (جمي رازان) سابقا بوعورتها وصعوبة الوصول إليها، وأيضا بوفرة مياهها وكثرة كهوفها الطبيعية، من هذه المنطقة اتخذ طالباني قاعدة لانطلاق فعالياته القتالية بعدما أسندت إليه مهمة قيادة منطقة السليمانية وكركوك. ويقول طالباني: «كانت أول قاعدة لنا هي (جمي رازان)، كنا ثلاث مجموعات في منطقة السليمانية، الأولى في جبل ماوت بقيادة محمد حاجي طاهر، والثانية في دربندي خان بقيادة حلمي شريف، والمجموعة الثالثة كانت بقيادتي في جمي رازان، حيث كنا في هذه القاعدة 14 مقاتلا، بيننا 4 من المسلحين فقط و10 من دون سلاح، لكننا تدريجيا صرنا نتوسع عددا ونحصل على الأسلحة، إذ لم تكن عندنا الأموال لشراء الأسلحة، كما لم يكن هناك من يدعمنا ويرسل لنا الأسلحة وقت ذاك، بل كنا نستولي على مخافر الشرطة ونأخذ ما فيها من أسلحة، كما أنه كان لنا تنظيم في الشرطة، وكانوا يمدوننا بالأسلحة والعتاد، كما كان المتطوعون للثورة من الجنود والشرطة يهربون وينضمون إلينا مع أسلحتهم، وعلى العموم فإن تسليحنا كان بسيطا ومتواضعا ولا يزيد على البنادق، بينما كانت الحكومة تستخدم الطائرات والمدفعية ضدنا».

ويشرح مام جلال الموقف القتالي وقت اندلاع الثورة الكردية، قائلا: «كانت هناك قوتان فاعلتان في الثورة الكردية وقت ذاك، قوة بقيادة الجنرال بارزاني في منطقة بهدنان، وتتألف من بضع مئات من الثوار، والأخرى في جبل سفين بقيادة عمر دبابة، ثم أجليت هذه القوة التي كانت تتكون من 250 مقاتلا من سفين إلى منطقة رانية، أما قوتنا فقد كانت تتكون من عدد قليل من المقاتلين، ومن ثم توسعنا تدريجيا مثلما نوهت».

ويعترف طالباني قائلا: «لم تقم الحكومة بأي عملية ضدنا في جمي رازان، بل كنا نحن من نتحرش بها ونقوم بعمليات ضدها، وأول عملية عسكرية خططت لها وقدتها بنفسي كانت مهمتها توفير الأموال للثورة والثوار، إذ لم تكن الأموال تتوفر لدينا، فقمت بعملية الاستيلاء على أموال التبغ المرسلة من أربيل إلى كويسنجق، ونصبنا كمينا للقافلة التي تنقل الأموال، وسيطرنا عليها، حيث كانت تبلغ 30 ألف دينار شكلت بالنسبة لنا مصدر تموين ضخما وثروة كبيرة جدا، ولم نشتر أسلحة بهذه الأموال، ذلك لأننا، وكما ذكرت لك، كنا نستولي على الأسلحة، ولم نجد صعوبة في ذلك، لكننا وزعنا مبلغ الـ(30) ألف دينار كالتالي: أرسلنا عشرة آلاف دينار إلى الجنرال بارزاني ليوزعها على المقاتلين الذين تحت قيادته، و10 آلاف دينار أرسلناها إلى المكتب السياسي الذي كان لا يزال مختفيا في المدن، خاصة في السليمانية، ووزعنا 10 آلاف دينار على المقاتلين (البيشمركة) وكانت هذه هي المرة الأولى التي نمنح فيها البيشمركة بعض الأموال، كما اشترينا لهم ملابس جديدة».

يتذكر طالباني، الذي تم اختباره كقائد عسكري وتفوق في تلك المهمة مثلما كان قد تفوق في دراسته وعمله الحزبي، أبرز المعارك التي خاضها مع مقاتليه وقت ذاك، فيقول: «في جمي رازان كنا 14 مقاتلا، مثلما أسلفت، وبعد فترة صار عدد المقاتلين معي بالآلاف وخضنا الكثير من المعارك، وأهم معركة خضناها وقت ذاك هي تحرير منطقة (شار باجير) ليلة 21 مارس (آذار) سنة 1962 حيث قمنا بشن هجوم واسع في منطقة شار باجير، وقمنا باحتلال جميع المخافر، ما عدا مخفر المدينة الذي لم نستطع احتلاله، لكننا كسبنا المئات من قطع السلاح وتطوع معنا العشرات من المقاتلين، أما المعركة الثانية فقد كانت معركة تحرير بنجوين، حيث قمنا باحتلال بنجوين وما حولها، ثم معركة جمي رازان التي استمر القتال المباشر فيها ضد القوات الحكومية لأسابيع».

هذه المعارك والانتصارات التي حققها المقاتلون الأكراد بقيادة طالباني كانت في معزل عن توجيهات الزعيم الكردي بارزاني، وفي ظل غياب كامل للاتصالات المباشرة مع زعيم الحركة الكردية ملا مصطفى بارزاني الذي كان وقت ذاك في منطقة بهدنان البعيدة. ومام جلال كان القائد العسكري لمنطقتي كركوك والسليمانية وحتى خانقين. ويقول طالباني: «كانت القوات التي أقودها تحمل اسم رزكاري (التحرير)»، ويضيف قائلا: «لم تكن لتتوفر لدينا وسائل اتصال سواء مع بارزاني أو بقية القوات، وكنا عادة نبعث بمندوب أو مراسل لتبليغ أي أمر أو لتبادل الأخبار والأوامر، ومع ذلك كان التنسيق بيننا جيدا جدا، كما كنا نسيطر على مناطق واسعة تمتد حتى قرة داغ، وكان النقيب كمال مفتي يسيطر على حلبجة والمناطق المحيطة بها».

ولكن هل تكفي دروس كلية الاحتياط من صنع قائد عسكري متميز مثل طالباني، يقول، أنا اكتسبت خبرتي القتالية من الميدان ومن المعارك التي خضتها، بالإضافة إلى ما اكتسبته من خبرة ومعلومات خلال دراستي في كلية الضباط الاحتياط، وكنت أقرأ كتب ماوتسي تونغ عن حرب العصابات.