نازحون في كردستان يتوقون للعودة إلى بغداد.. وآخرون: لن نعود حتى لو بُعث صدام

ناشدوا الهاشمي الذي زارهم الإيفاء بوعوده.. وأحدهم لـ«الشرق الأوسط»: التسول مصدر رزقنا

TT

تؤكد دائرة الهجرة والمهجرين في محافظة السليمانية بإقليم كردستان العراق بأن أكثر من 8 آلاف أسرة عربية نازحة غالبيتها المطلقة من سكان العاصمة بغداد وديالى ما زالت تقطن مدينة السليمانية وضواحيها منذ نحو أربع سنوات، وهي موزعة على بلدات كفري وكلار ودربندخان وحلبجة ومركز مدينة السليمانية.

فالعوائل التي حالف الحظ أربابها في العثور على فرصة عمل مناسبة، نجحت في الحصول على مساكن متواضعة بإيجارات شهرية زهيدة في البلدات والقصبات الصغيرة، أما التي ما برحت تعاني من البطالة وخصوصا تلك المقيمة في السليمانية، فإنها ظلت تصارع الجوع والمعاناة الشديدة في مخيم بائس على مشارف المدينة يفتقر إلى أبسط مقومات العيش الإنساني.

مجمع «قالاوا» في الجهة الجنوبية من السليمانية ما زال يحتضن 57 عائلة جلها من أهالي حي الدورة في بغداد، وهي تمثل مجموع ما تبقى من أصل 189 أسرة كانت قد نزحت نحو السليمانية خلال السنوات الأربع الماضية من الدورة وديالى والموصل جراء عمليات الاقتتال الطائفي هناك.

وتكابد هذه العوائل أوضاعا أقل ما يقال عنها أنها مأساوية، حيث لا مساكن ولا كهرباء ولا مياه نقية ولا مدارس ولا مأكل ولا رعاية طبية.

ومن يتجول في المخيم يرَ مشاهد حية ومؤلمة من مظاهر البؤس والفقر والعوز والحرمان بكل معانيها وصورها، فتحت تلك الخيمة النايلونية الممزقة يرقد عجوز أو شيخ عليل طريح الفراش يداهمه الذباب من صوب ولا يقوى على الكلام ألما وجوعا وحزنا على ما فقده من أولاده وماله وممتلكاته، وقرب خيمة ممزقة أخرى قائمة على بضع أخشاب متهرئة تجلس عدة نساء من مختلف الأعمار في حزن شديد كأنهن في مأتم إنسان عزيز، وعيونهن تذرف الدموع على ما آلت إليه أوضاعهن، وعند بركة مياه آسنة يلتئم ثلة من الأطفال والصبية بملابسهم الممزقة وأقدامهم الحافية يلعبون بكرات من الطين وعبوات العصائر البلاستيكية الفارغة وإلى جانبهم بضعة شبان بعمر الورد يجلسون القرفصاء واضعين أيديهم في جيوبهم الخاوية في انتظار الفرج من السماء وقد نال منهم اليأس والقنوط بعد أن فقدوا مقاعد الدراسة والأمل في الحياة.

ويقول مختار المخيم وسام كريم شعلان (36 عاما، من أهالي الدورة، وأب لطفلين) إن «جميع المتبقين في المخيم هم من الذين قضت الحرب الطائفية على مساكنهم ومصادر رزقهم في منطقة الدورة ولم يعودوا يملكون شبرا من الأرض كي يعودوا إليها حتى لو تحسنت الأوضاع الأمنية في بغداد»، وتابع حديثه لـ«الشرق الأوسط» بأن «زوجتي ومعظم نساء وشباب المجمع يجوبون الشوارع والأسواق والساحات في السليمانية من الصباح وحتى المساء متسولين لأننا لا نجد أي فرصة للعمل الشريف والحياة لا ترحم».

وعاتب شعلان نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي، وقال: «لقد وعدنا سيادته بالكثير في زيارته لنا قبل عام، إلا أننا لم نلمس شيئا على أرض الواقع»، وختم بالقول: «نتوق إلى العودة إلى بغداد ونتمنى أن تستقر الأوضاع فيها اليوم قبل الغد». لكن نزار نصيف جاسم (44 عاما) فند بشدة «ادعاءات» بعض المسؤولين العراقيين من أن النازحين توجهوا إلى السليمانية بحثا عن فرص عمل لا هربا من الأوضاع الأمنية، وقال: «كنت أملك 5 بيوت في منطقة أبو غريب وقد هربت بعائلتي إلى سورية في البداية وصرفت هناك كل مدخراتي من المال ولم أجد أمامي سبيلا سوى العودة إلى كردستان»، وتابع: « أنا أب لثمانية أطفال ومصدر رزقي الوحيد هو التسول، فأين السلطات العراقية من كل ما نعاني؟».

أما أبناء النازحين من الأطفال والصبية فإن لهم النصيب الأكبر من الحرمان والبؤس لأن طفولتهم مُعدَمة وهم محرومون من التعليم ومباهج الحياة، لكن إحدى المدارس الإنجليزية في السليمانية تتولى تدريسهم الحروف الأبجدية مجانا لثلاث ساعات ولمدة يومين في الأسبوع، عبر نقلهم إلى المدرسة بسيارات خاصة. وتؤكد سلامة رحمن (60 عاما) التي تعاني من مرض السكري وارتفاع الضغط، أنها وزوجها العليل لم يحظيا بأي رعاية صحية باستثناء بعض الفحوصات الدورية التي يقوم بها أطباء السليمانية، وأنها تحصل على العلاج من الصيدليات الخارجية، ورغم ذلك ترفض العودة إلى بغداد وتفضل أن تموت في السليمانية على العيش هناك.

أما ابنها قاسم شامي طلب (27 عاما ويعمل خبازا في المجمع) فقال «لن نعود إلى بغداد حتى لو بُعث صدام من قبره مجددا وتسلم نظامه زمام الأمور في العراق بشكل مطلق مثل أيام زمان، فالعيش في هذا المجمع القذر أفضل من العيش في بغداد مائة ألف مرة»، وتابع: «إننا متورطون في عداوات شخصية لأن إحدى الجماعات المسلحة خطفت شقيقتي، ولم تفرج عنها إلا بعد أن أخذت منا فدية قدرها أربعون ألف دولار اضطُررنا أن نبيع من أجلها مسكننا بسعر زهيد».

فيما قال عمار عماد (22 سنة) وشقيقه خطاب (19 سنة) إنهما يبحثان باستمرار عن فرص عمل مع شقيقيهما الآخرين ولكن بلا جدوى لأن القوانين تمنع النازحين من العمل دون أن يتكفلهم مواطنون أكراد من سكنة السليمانية، لذلك يضطرون إلى التسول لأنه فرصة العمل الوحيدة التي لا تحتاج إلى كفيل شخصي، وقالا: «لقد قتل المسلحون اثنين من أشقائنا دون ذنب أو جريرة بل لأسباب طائفية فقط، لذلك هربنا إلى السليمانية بحثا عن الأمان ولن نعود إلى بغداد حتى لو متنا جوعا في كردستان». ومع حلول شهر رمضان المبارك فإن مجمع النازحين بات المكان الوحيد الذي يؤمه أثرياء السليمانية من المتدينين لتوزيع صدقاتهم وزكواتهم ولحوم ذبائحهم التي ينحرونها في سبيل الله. ومن جانبه، يقول جبار محمد علي مدير دائرة الهجرة والمهجرين في محافظة السليمانية، إن مديريته رغم إمكاناتها المالية والفنية المتواضعة، لم تالُ جهدا في خدمة هؤلاء النازحين حيث وفرت لهم الأرض التي يسكنون عليها وزودتهم بالخيام وحصص المواد الغذائية عبر التعاون مع منظمة الأغذية والزراعة العالمية، ولكن على نحو غير مبرمَج، وتوفر لهم أيضا المياه الصالحة للشرب بشكل يومي، إلا أن إمكانات مؤسسته لا تسمح بالمزيد.

وأضاف علي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن «250 عائلة نازحة فقط من أصل 8319 أسرة عادت إلى مواطنها الأصلية في بغداد وبعقوبة والموصل وضواحيها، إثر التحسن النسبي للأوضاع الأمنية هناك، أما البقية الباقية الموزعة على ضواحي السليمانية فإنها تأبى العودة». وأوضح علي أن «أكثر من ثلاثة آلاف أسرة نازحة حرمت من المخصصات المالية الشهرية البالغة 150 ألف دينار أي ما يعادل 125 دولارا والتي أقرها مجلس الوزراء العراقي لجميع النازحين في البلاد بسبب الأوضاع المتوترة فيها وفقا للقرار 1152 الصادر في يوليو (تموز) 2007، كما حُرمت من المنحة المالية التي خصصتها السلطات العراقية للنازحين بواقع 450 ألف دينار (ما يعادل 300 دولار)، مناشدا السلطات في بغداد بتقديم يد المساعدة والعون للنازحين المقيمين في السليمانية، كما ناشد نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي الإيفاء بوعوده التي قطعها لهؤلاء النازحين في أثناء زيارته لهم شتاء العام الماضي.