السوق السوداء المنتشرة في أرجاء العالم تساعد طهران في التكيف مع أي عقوبات

خبير: حتى العقوبات الصارمة المعززة بتأييد دولي.. لن تفرض عزلة كاملة على دولة بضخامة وتعقيد إيران

TT

تعهد الرئيس الأميركي باراك أوباما بالإبقاء على الضغوط على إيران بشأن برنامجها النووي بعد اجتماع الأسبوع الماضي في جنيف، وقال مستشاروه إن الولايات المتحدة بذلت جهودا مكثفة لحشد تأييد دول أخرى لفرض حصار اقتصادي أقسى ضد طهران، تحسبا لإخفاق الجهود الدبلوماسية. إلا أنه مع تزايد التركيز على العقوبات، توحي مراجعة التجارب الأميركية الرامية لفرض قيود من جانبها منذ أمد بعيد ضد التجارة مع طهران بأنه سيكون من العسير إقرار عزلة حقيقية على الاقتصاد الإيراني.

الملاحظ أن شبكات السوق السوداء انتشرت بمختلف أرجاء العالم للالتفاف على العقوبات. وفي اليوم السابق لإعلان أوباما وحلفائه الأوروبيين وجود منشأة إيرانية لتخصيب اليورانيوم بالقرب من قم تم الكشف عنها مسبقا، تجلى مثال مفصل على المخططات الساعية لتقويض العقوبات في دعوى تم عرضها أمام محكمة فيدرالية أميركية في 24 سبتمبر (أيلول).

طبقا للوثائق المعروضة أمام المحكمة، اعترفت شركة هولندية لخدمات الطيران والشركة الأم المالكة لها بتمريرهما على نحو غير قانوني مكونات من طائرات أميركية وأخرى إلكترونية إلى إيران خلال الفترة بين عامي 2005 و2007. طبقا للمخطط، تقدم عملاء إيرانيون سرا بطلبات شراء إلى الشركة، التي عملت بمثابة واجهة، وقامت بشراء العناصر المطلوبة وشحنتها على هولندا وقبرص والإمارات العربية المتحدة. ثم جرت إعادة تغليف المواد بهدوء وشحنها إلى المشترين الحقيقيين في إيران. في نهاية الأمر، تم ضبط الشركة الهولندية. إلا أن السهولة التي مارست بها نشاطها حتى وقت ضبطها تسلط الضوء على عقبة جوهرية أمام الولايات المتحدة، ذلك أنه حتى حال التغلب على التحديات الدبلوماسية أمام إقناع الدول الأخرى التي تربطها صلات اقتصادية كبيرة بإيران مثل الصين بتأييد العقوبات، فإنه ربما يصبح من المستحيل في النهاية فرض حظر صارم. في هذا الصدد، قال مايكل جاكوبسون، الخبير بمجال الاستخبارات والعقوبات لدى «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»: «يتميز الإيرانيون بخبرة عريضة في الوقت الراهن بمجال الالتفاف على العقوبات. إنهم قادرون على التكيف، والتعلم من الأخطاء، والتعرف على الأصعدة التي تشدد فيها الولايات المتحدة إجراءاتها والتحول باتجاه أخرى. وفيما يتعلق بالشركات التجارية، فإن كثيرا منها يتعمد غض الطرف». من جهتها، اعترفت وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، الأسبوع الماضي بأن العقوبات الاقتصادية القائمة ضد إيران «بها ثغرات». لكن العديد من مسؤولي الإدارة البارزين أعربوا عن اعتقادهم بأن المعلومات التي كشف النقاب عنها مؤخرا حول الجهود النووية الإيرانية السرية خلقت تضامنا غير مسبوق وراء الإجراءات الجديدة الرامية للضغط على طهران. يذكر أن مسؤولين إيرانيين التقوا، الخميس، في جنيف بممثلين عن الولايات المتحدة وقوى عالمية أخرى. خلال الاجتماع، تعهد الإيرانيون بالسماح للمفتشين النوويين بتفتيش منشأة التخصيب السرية وشحن الجزء الأكبر من اليورانيوم الخاص بها والمعلن عنه إلى خارج البلاد ليخضع لمزيد من التخصيب في فرنسا أو روسيا. في الوقت الذي يجري النظر إلى الاجتماع باعتباره خطوة إلى الأمام، فإنه اجتذب مزيدا من الاهتمام من جانب الدبلوماسيين إزاء دور العقوبات الجديدة المحتملة. من أجل إلزام إيران بتعهداتها، ومنعها من التباطؤ في التعامل مع الاعتراضات الأكبر على برنامجها النووي، قال مسؤولون إنه من الضروري شعور طهران بتعرضها لتهديد بإجراءات عقابية موثوق بجديته.

في هذا السياق، أوضح مسؤول رفيع المستوى من الإدارة رفض الكشف عن هويته لحساسية القضية، أنه: «إذا لم تضع نفسك بموقع يمكنك من التحرك على مسار الضغط، ستتضاءل احتمالات نجاح الجهود على مسار التعاون. يكمن العنصر الجوهري في ضرورة أن يعاين الإيرانيون هذين الجانبين». وأضاف أنه سعيا لتحقيق ذلك، ترفض واشنطن استبعاد أي إجراءات من طاولة المحادثات، حتى بما في ذلك فرض حظر على الغازولين وأنماط الوقود المكرر الأخرى. على الجانب الآخر، تخشى دول أوروبية من أن تسفر هذه الإجراءات عن شقاء الشعب الإيراني عبر خلق أزمات تؤجج غضبه حيال الغرب وتدفعه لأحضان حكومة تفتقر إلى التأييد الشعبي.

وقال المسؤول الأميركي: «لن نقدم على نحو استباقي على استثناء أي أمر. يكمن العنصر الجوهري ليس فيما ينبغي أن يترك تأثيرا عليهم، وإنما فيما يبدو في أعينهم باعتباره سيترك التأثير الأكبر عليهم». أشار مسؤولون إلى أنه على امتداد شهور عديدة، عكفت الإدارة على الحديث مع دول أخرى حول قائمة من العقوبات المحتملة ضد طهران. ويدرس الكونغرس حاليا تشريعا يقضي بتوسيع نطاق العقوبات المالية، بينما يبذل رئيس «لجنة الشؤون الخارجية» بمجلس النواب، هوارد إل. بيرمان، عضو الحزب الديمقراطي في كاليفورنيا، جهودا لتمرير مشروع قانون يفرض عقوبات على الشركات الأجنبية المصدرة للغازولين إلى إيران. يذكر أن العقوبات القائمة خلفت بالفعل بعض التداعيات العملية. في طهران، انقطاع التيار الكهربائي بانتظام، جراء نقص مولدات الكهرباء، الموجودة بقائمة السلع المحظورة بسبب استخداماتها العسكرية المحتملة. ولم تشهد طهران مثل هذا الأمر حتى خلال العقد الماضي.

ومع ذلك، فإن تجربة واشنطن في فرض العقوبات الاقتصادية الانفرادية من جانبها ضد طهران ـ التي فرضت في أعقاب أزمة الرهائن عام 1979 وجرى توسيع نطاقها مرات عدة منذ ذلك الحين ـ تكشف أن الاحتمال الأكبر أن تدفع العقوبات أسعار السلع الأجنبية المحظورة للارتفاع وليس منعها تماما من التدفق على إيران. المعروف أن العالم يعج بالدول المارقة والمهربين المهرة في إخفاء السلع غير القانونية داخل حركة التجارة العالمية الضخمة، إضافة إلى أن دولا أخرى ربما لا تتمتع بذات الاستعداد مثل واشنطن لمراقبة تطبيق العقوبات بنشاط.

وتعد الدعوى المتعلقة بشركة إلكترونيات الطيران الهولندية التي رفعت أمام المحكمة أواخر الشهر الماضي مجرد أحدث حلقة في سلسلة من الإدانات ضد مئات المتهمين في ذات الإطار منذ عام 2007، عندما عززت إدارة بوش بقوة جهودها لفرض قيود تجارية أميركية على دول مثل إيران. في إطار قضايا منفصلة على مدار الأشهر القليلة الماضية، اتهم مدعون عددا من الأشخاص بنقل أجزاء من طائرات نفاثة مقاتلة بصورة غير قانونية إلى إيران عبر كولومبيا، وأجزاء إلكترونية عبر ماليزيا، وأجزاء من طائرات مروحية من خلال سنغافورة. وتمتد القائمة مع اتخاذ الوسطاء المتهمين مقار لهم بدول مثل أيرلندا وهونغ كونغ. إضافة إلى ذلك، تعرضت العقوبات المالية لانتهاكات، ففي يناير (كانون الثاني)، وافق مصرف «لويدز تي إس بي»، ومقره لندن، على سداد غرامة بقيمة 350 مليون دولار لإخفائه تورط كيانات بدول بينها إيران في عمليات تحويل أموال مع مصارف أميركية على امتداد 12 عاما. عام 2006، فرض المنظمون غرامة على مصرف هولندي، «إيه بي إن أمرو»، لإجرائه تعاملات مشابهة مناهضة للعقوبات بين عامي 1997 و2004. من ناحيتهم، يرى مسؤولو الإدارة أن مثل هذه الإجراءات على صعيد فرض العقوبات أقنعت مصارف أوروبية أخرى كبرى بأن الدخول في نشاط تجاري مع طهران لا يستحق المخاطرة المرتبطة به. لكن بدلا من حرمانها من قدرة الحصول على خطابات اعتماد وتأمين، لجأت طهران إلى مؤسسات مالية أصغر تتخذ من آسيا مقرا لها وليس بينها وبين واشنطن صلات تجارية. وعلق جاكوبسون، خبير العقوبات، على هذا الأمر بقوله إنه حتى العقوبات الصارمة المفروضة بتأييد دولي واسع من غير المحتمل أن تفرض عزلة كاملة على دولة بضخامة وتعقيد إيران. إلا أنه أردف موضحا أن القيود خلفت فوائد متواضعة نسبيا لكن ملموسة، حيث زادت من تكلفة وصعوبة ممارسة النخبة الإيرانية النشاط التجاري، مما وفر حافزا أمام قادة البلاد للتفاوض. وقال: «بينما يعد من غير الواقعي أن تظن أن باستطاعتك عزل إيران عن الاقتصاد العالمي، فإن التركيز على هدف أضيق نطاقا وأكثر واقعية مثل زيادة تكاليف ممارسة الإيرانيين النشاط التجاري ربما يبدل حسابات قادتهم».

* خدمة «نيويورك تايمز»