«الشرق الأوسط» في موقع تصادم قطارين بمصر تسجل ملحمة شعبية لإنقاذ الضحايا

المصريون قضوا ليلة حزينة أعادتهم إلى كوارث القطارات والعبّارات والموت على الطرقات

مصريون بالقرب من موقع تصادم القطارين (أ.ب)
TT

على شباك القطار المحطم كانت أشلاء الضحايا لا تزال عالقة.. والدماء تخضب أرضية العربات المهشمة.. الناس حَزانى.. أعينهم منكسرة.. يبكون لكن دموعهم تحجرت في مآقيهم.. يشعرون بأن حكومتهم عاجزة عن العناية بهم.. المسؤولون على وجوههم الطير.. مذهولون من حجم الكارثة.. الفنيون يصارعون الزمن لإعادة حركة السير على خط السكة الحديد.. هذا هو المشهد صباح أمس في موقع تصادم فيه قطاران مساء أول من أمس عند منطقة قرية جرزا التابعة لمركز العياط بمحافظة 6 أكتوبر (جنوب غربي القاهرة).. الذي تسبب في أن يبيت المصريون ليلة حزينة أخرى.. أعادت إلى الأذهان مسلسل الإهمال الحكومي الذي أودى بحياة المئات من أبنائه في كوارث مروعة على مدى السنوات الماضية سواء حوادث قطارات.. أو سفن وعبّارات بحرية.. وكذلك حوادث السير اليومية على الطرقات.

بالتوازي مع هذا المشهد كانت المستشفيات القريبة من موقع الحادث تعج بأهالي الضحايا.. يبحثون عن ذويهم على أسرّة المستشفيات، أو مشرحة الموتى.. الإحصاءات الحكومية قالت إن الضحايا 18 والمصابين 43 بينهم 7 حالات خطرة.

في القرى المجاورة للمنطقة اتشحت المنازل بالسواد استعدادا لتشييع الضحايا.. المكلومون كثر والحزن عمّ الجميع.

المثير في الأمر أن ذات المنطقة شهدت على مدى السنوات الماضية عدة حوادث مروعة (1999)، والحادث الأكبر كان احتراق قطار العياط الشهير عام 2001 الذي راح ضحيته 361 قتيلا ونحو 600 مصاب.. وجاءت هذه الحادثة لتطبع المنطقة بطابع مأساوي دفع المسؤولون بهيئة السكك الحديدية لتشكيل فريق فني لبحث علاقة المكان بتلك الحوادث، وما إذا كان هناك عيب فني من عدمه. كان القطار رقم 152 المتجه من الجيزة إلى الفيوم تعطل عند قرية جرزا بالعياط، وقال المسؤولون بهيئة السكك الحديدية إنه لم يُخطِرهم بتعطل قطاره كي يقوموا بتخزين قطار الصعيد رقم 188 المتجه من القاهرة إلى أسيوط، والذي جاء خلفه بسرعة شديدة ليصطدم به مما تسبب في وقوع الحادث المروع. وقبل أن تهرع أجهزة الإنقاذ إلى منطقة الحادث كان أهالي قرية جرزا وكفر جرزا والقرى المجاورة قد سارعوا إلى موقع الحادث لإنقاذ الضحايا.. هم يعرفون دورهم، فقد اكتسبوا خبرة التعامل مع تلك الحوادث ربما أكثر من المسؤولين.

سيارات الإسعاف لحقت بالأهالي هناك.. مسؤولو الحكومة قادتهم مركباتهم الحكومية أيضا إلى موقع الحادث.. الاهتمام على أعلى مستوى في الدولة.. فريق من الشرطة انتقل بالطبع إلى موقع التصادم، ولحق بهم فريق النيابة العامة لمعاينة الموقع والتصريح بدفن الجثث.. القوات المسلحة تدخلت في الأمر لتوفير فرصة سريعة للإنقاذ.. الموقف تحت السيطرة.. الناس لا يأبهون بالتدخل الحكومي.. الكارثة أكبر من أن تحتويها قلوب البسطاء.. هيئة السكك الحديدية أعلنت أمس انتظام حركة تشغيل الرحلات على خط «القاهرة ـ أسيوط» في الاتجاهين بعد أن تم رفع الآثار الناجمة عن التصادم.

«الشرق الأوسط».. كانت هناك في موقع الحادث.. التقت شهود العيان وسجلت الملحة الشعبية لإنقاذ الضحايا.. كما تستمع إلى آلام المصابين.. يقول محمد عبد الفتاح (مزارع): «كنت أقف أنا وأقاربي بجوار الترعة في قطعة أرض نمتلكها وفجأة صدم قطار الفيوم جاموسة كانت تعبر الطريق فتوقف القطار، وبعد دقائق معدودة حضر القطار السريع ليصطدم به من الخلف، ومن شدة الاصطدام استقر جرار القطار السريع داخل العربة الخلفية لقطار الفيوم وتطايرت أشلاء الجثث وسقط المصابون على الأرض، وأسرعنا نحو القطار في محاولة لإنقاذ أحياء وأبلغنا وحدة الإسعاف التي حضرت علي الفور وقمنا بإبلاغ النجدة ثم تَجمّع باقي الأهالي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. يضيف مصطفى عبده علي (موظف) أنه قام بالاشتراك مع أهالي قريته جرزا «بنقل بعض المصابين بأنفسنا إلى مستشفي العياط وحاولنا إنقاذ بعض الركاب الذين انحشرت أقدامهم وأجسادهم في العربة الثانية بقطار الفيوم المنكوب ثم حضرت سيارات الإسعاف وشاركنا رجال الإنقاذ في نقل المصابين إلى المستشفيات.

محمد على (60 عاما، مزارع، مصاب) قال إنه كان في طريقة لزيارة ابنته في الفيوم، وفي أثناء استقلاله القطار المتجه إلى الواسطى فوجئ باصطدام شديد بالعربة الأخيرة للقطار مما أدي إلى سقوطه على الأرض فاقدا الوعي.

وقال أحمد كمال (23 سنة، طالب، مصاب) من قرية داموش مركز بني سويف إنه استقل القطار من الجيزة متجها إلى بلدته في بني سويف وكان ذلك في تمام الخامسة والنصف، وفوجئ في أثناء وجوده في القطار بحدوث اصطدام شديد وهزة دفعته للسقوط أسفل مقاعد القطار ثم فقد الوعي، وحينما استيقظ فوجئ بنفسه في المستشفي. يضيف أنه كان في زيارة لأحد أقاربه بالجيزة، استمرت ثلاثة أيام حيث كان في طريق عودته إلى بلده.. في واقعة نوعية على هامش الأحداث.. يرويها شهود العيان.. قام الأهالي المشاركون في عمليات الإنقاذ بتحطيم الكاميرا الخاصة بأحد المصورين الأجانب الذين تواجهوا في موقع الحادث لتصوير الجثث والمصابين وذلك بعد أن طلب الأهالي من المصور وباقي المصورين بالصحف والوكالات عدم تصوير سيدة من بين الضحايا كان نصفها الأسفل عاريا تماما، ولم يستمع المصور الأجنبي لكلام الأهالي فقاموا بالتعدي عليه وتحطيم الكاميرا الخاصة به، وتمكن رجال الأمن من السيطرة على الموقف وإخراج المصور من بين الأهالي.

رسميا قرر وزير النقل محمد منصور صرف تعويضات للمصابين والمتوفين في الحادث بواقع 20 ألف جنيه للمتوفى و5 آلاف جنيه للمصاب، كما قرر تشكيل لجنة فنية للوقوف على أسباب الحادث تضم خبراء وحدة الأمن والسلامة بالوزارة ومسؤولين من هيئة السكة الحديد ومتخصصين من الجامعات المصرية. وصرح رئيس الهيئة القومية لسكك حديد مصر المهندس محمود سامي إن نيابة جنوب الجيزة قامت بالتحفظ على جهاز التحكم الأوتوماتيكي للقطار (A.T.C) المسؤول عن التحكم في سرعة القطار طبقا لإشارات السيمافورات والسرعات المقررة على الشبكة وكذا تسجيل هذه السرعات وذلك للمعاونة في معرفة أسباب الحوادث.

وأضاف المهندس محمود سامي أنه بناءً على تعليمات وزير النقل المشددة (!) بالتأكد على أمن وسلامة المواطنين من خلال سلامة الجرارات وجهاز التحكم الآلي، فقد قامت الهيئة بإصدار قرار بالتأكيد على المنع التام لإغلاق الجهاز وتحويل أي سائق يقوم بإغلاقه إلى التحقيق ووقفه عن العمل.. مشيرا إلى أنه في الآونة الأخيرة كان تأخر في بعض الرحلات بسبب تراخٍ ملحوظ من قِبل بعض السائقين في تنفيذ تعليمات الأمن والسلامة.