بري لـ«الشرق الأوسط»: هيئة إلغاء الطائفية الآن.. وإلا لا بقاء للبنان

جدول أعمال البرلمان الجديد: اللامركزية الإدارية.. قانون انتخاب.. ومجلس الشيوخ

رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري (أ.ف.ب)
TT

أكد رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري عزمه «المضي في تنفيذ اتفاق الطائف كاملا»، وشن في حديث أدلى به إلى «الشرق الأوسط» هجوما غير مسبوق على منتقدي دعوته إلى إنشاء الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية السياسية، وأبرزهم البطريرك الماروني نصر الله صفير من دون أن يسميه، محذرا من أنه إذا لم تُنشأ الهيئة الآن «فلا أعتقد أن لبنان يستطيع البقاء»، منبها إلى أن لبنان الآن أمام عدوين، عدو في الداخل اسمه الطائفية السياسية، وعدو في الخارج اسمه إسرائيل»، منبها «من يعرقل الأولى في سبيل الثانية».

ونفى أن يكون اقتراحه «مناورة» أو محاولة لتطويق مطالبة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان بتعديل صلاحيات الرئاسة، مؤكدا أن رئيس الجمهورية «هو من المحرضين على خطوتي»، معددا المشاريع التي ينوي القيام بها في هذا المجال، والتي ستبدأ بإقرار مشروع اللا مركزية الإدارية الموجود أمام اللجان النيابية الآن ثم إنشاء الهيئة الوطنية، يليها قانون انتخاب جديد وفقا للطائف ثم مجلس الشيوخ الذي تتمثل فيه الطوائف. وأبدى تفاؤله بـ«المستقبل القريب للبنانيين»، راهنا المستقبل البعيد بإرادتهم، وداعيا إياهم إلى الاستفادة من التوافق السعودي ـ السوري للبناء عليه مستقبلا.

وعن أهداف خطوته هذه وتوقيتها قال بري «في الحقيقة هذا الأمر ليس جديدا. بالتحديد في الأول من يناير (كانون الثاني) 1995، وبعد أن كنا قد أقدمنا في المجلس النيابي على تنفيذ بنود مهمة جدا من «الطائف» مثل المجلس الدستوري والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، وبمناسبة بداية العام، أعلنت خلال احتفال لطائفة الأرمن الكاثوليك أقيم في فندق الريفييرا في بيروت أن جدول أعمال رئاسة المجلس النيابي يتضمن في أول بنوده لذلك العام تشكيل الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية السياسية». وأضاف «لقد أجرينا الاستشارات اللازمة مع الفاعليات، ولما لم نجد كهيئة مكتب المجلس النيابي التجاوب اللازم، صرفنا النظر مؤقتا عن الموضوع تحيّنا لفرصة أخرى».

وقام بري بـ«قفزة في التاريخ»، مذكرا بأنه بعد «تحرير معظم الأراضي اللبنانية في عام 2000 ما عدا مزارع شبعا وتلال (بلدة) كفرشوبا وقرية الغجر، ورغم التوحد اللبناني إزاء الاعتداء الإسرائيلي على لبنان في عام 2006، غير أن الانقسامات التي حصلت بين اللبنانيين، وحتى ضمن الطائفة الواحدة، وازدياد أخطار التشرذم وأخطار المذهبيات والطائفيات، غذّت التصريحات عن ضرورة الإقدام على تناول «الدواء الناجع». وقد حصل بعد ذلك ما حصل في الدوحة (العاصمة القطرية) والاتفاق فيها (خلال اجتماع ضم معظم القوى السياسية) على قيام حكومة وحدة وطنية، مما يرسخ الاعتقاد بأن علاج لبنان لا يكون إلا بهذه الوحدة الوطنية. وقد اتفقنا أيضا على قانون انتخاب يرد فيه لأول مرة في تاريخ لبنان حق المغتربين بالاقتراع في أماكن إقامتهم، الأمر الذي يسقط كل الذرائع التي يتمسك بها البعض من أن ميزان العددية داخل لبنان يميل إلى طائفة على حساب أخرى. وبعد إجراء الانتخابات النيابية الأخيرة وجد اللبنانيون أنفسهم مرة جديدة أمام المعادلة التي تقول بأن لا خلاص إلا بتوافقهم الوطني».

وأضاف «هذه المرة كان الفضل للمملكة العربية السعودية وسورية، أو لما تمسكت به منذ زمن طويل عن معادلة «سين ـ سين» التي عادت هذه المرة لتفرض هذا التضامن الوطني ضمن حكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها هذه المرة الزميل سعد الحريري». ومن هنا ـ يقول بري ـ «وجدت أن الأرض اللبنانية أصبحت متعطشة، وكل المناخات مؤهلة الآن لشجرة الوحدة الوطنية التي تبدأ ـ وهذه نقطة مهمة جدا ـ بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية. والتي قد تأخذ ـ ولا ابالغ ـ عقودا من الزمن قبل أن يتحقق الإلغاء». ولفت إلى أن «جميع اللبنانيين يطالبون بتطبيق اتفاق الطائف، وبعضهم كان يزايد على الآخر ويتهمه بأنه لا يريد الطائف، وهذا البعض ينكر ذلك». ويقول «طالما أننا جميعا متفقون على الطائف، فهل الطائف لافتة تعلق، أم دستور يطبق؟». ويضيف «الطائف صريح بالقول أنه عند انتخاب أول مجلس نيابي على أساس المناصفة (بين المسيحيين والمسلمين) ـ كما هو حال المجلس الحالي ـ يطلب من المجلس النيابي تشكيل هيئة وطنية مؤلفة من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وشخصيات سياسية وفكرية واجتماعية تدرس وتقدم اقتراحات إلى مجلس الوزراء ومجلس النواب قد تؤدي إلى إلغاء الطائفية السياسية». وتابع «أقول لمن يستنفر عصبياته، سواء كان مقيما أو مسافرا، أن هذه الهيئة التي يتمثل فيها الجميع، كما يتمثلون الآن في البرلمان ومجلس الوزراء، أقول لهم إن الجواب هو أن هذه الهيئة لن تقدم اقتراحات مجحفة بحق هذا الطرف أو ذاك. ولنفترض تجاوزا واستطرادا أنها فعلت، فلماذا الخوف ما دامت الاقتراحات ستذهب إلى مجلسي الوزراء والنواب وتركيبتهما مناصفة؟ فعلام التذرع بإبقاء لبنان من مخلفات الانتداب ونتائج (اتفاق) سايكس بيكو (الإنجليزي ـ الفرنسي الذي قسمت منطقة بلاد الشام بموجبه)؟». ورد بري على الذي يقول إنه لم يقرأ الطائف حتى الآن (في إشارة إلى تصريح لصفير السبت الماضي) وهو ساهم وقبل به، داعيا إياهم إلى أن «يتذكروا أنهم ساهموا في وضعه وليستذكروا أنهم يعرفون القراءة». وقال «إذا كانوا لا يريدون الطائف فليقولوها صراحة، لأنهم قََوَلوا عن غيرهم إنهم لا يريدونه، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان»، وأردف بري ردا على دعوة صفير بإلغاء الطائفية من النفوس قبل النصوص بالقول «شكرا لهذه النصيحة التي عمرها من عمر الانتداب، ولكننا سنأخذ بها تماما بإلغاء الطائفية من النصوص والنفوس معا، لا على طريقة البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة». وتأليف الهيئة يندرج في هذا الباب، أي إنها محاولة جدية للسير في الأمرين معا».

وردا على سؤال عن ما يقال من ضرورة الربط بين تشكيل الهيئة ونزع سلاح الميليشيات وفقا للطائف، قال بري «محاولة الربط هذه غير موفقة، فهذا الأمر أنجز في عهد حكومة الرئيس عمر كرامي، وأيضا عولج في ما خص السلاح الفلسطيني في اجتماعات الحوار الوطني. أما إذا كان المقصود بذلك المقاومة، فإن ابن خلدون يقول إن التاريخ يجتر نفسه أحيانا، وهذا ما يحصل هنا للأسف. جبل عامل (قرى الجنوب) واللبنانيون كافة قاوموا الانتداب (الفرنسي على بلادهم بعد الحرب العالمية الثانية) وبرز منهم مجاهدون ومناضلون من أطراف الجنوب إلى أطراف البقاع. ونحن نقرأ في التاريخ اللبناني ـ الذي يحاول البعض الآن كتابته بالأسلوب ذاته ـ أن هؤلاء الأبطال لم يطلق عليهم صفة المقاومين بل رجال العصابات، علما أن بعضهم (أدهم خنجر) كان أحد أهم أسباب اندلاع الثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش». وأضاف «هم يحاولون الآن القول عن سلاح المقاومة بأنه سلاح ميليشيات. نحن ضد بقاء أي سلاح في أيدي اللبنانيين على الإطلاق، ما عدا سلاح المقاومة حتى استعادة آخر شبر وآخر حق من حقوقنا، وخاصة في المياه بعد الأرض. وذلك ليس فقط انطلاقا من القانون الدولي الذي أصبح تطبيقه مع الأسف في أيدي دول معينة، فتحول قانون دول ولم يعد قانونا دوليا، بل انطلاقا من وثيقة الوفاق الوطني نفسها، أي اتفاق الطائف. فقد ورد في اتفاق الطائف تحت بند «بسط سيادة الدولة» في الفقرة «ج» ما يأتي «يجري توحيد وإعداد القوات المسلحة وتدريبها لتكون قادرة على تحمل مسؤولياتها الوطنية في مواجهة إسرائيل» وورد «اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي». وبما أن البعض يحن إلى الكلام القديم فأنا أريد أن أذكر بكلام قديم لي من أن «من لا يدافع عن حدوده تسقط عاصمته». ولما لم يوحدوا لا الجيش ولا القوات المسلحة في مواجهة العدوان لم يستطع الإمام موسى الصدر (مؤسس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وحركة أمل التي يرأسها بري) ذات يوم رغم وساطته وتدخله مع رئيس الجمهورية آنذاك إلياس سركيس أن يبقي قرار قيادة الجيش بذهاب كوكبة من الجيش من (بلدة) كوكبا إلى (بلدة) تبنين، فقد منع هذا الجيش من الانتقال بتهديد إسرائيلي. آنذاك فوضوا إلى ابن الجنوب أن يدافع عن نفسه بعدما تخلت عنه دولته. فهل نذرنا النذور لكي تشرد عائلاتنا وتقتل أطفالنا وننزح كل ثلاث سنوات بمئات الآلاف عن بيوتنا منذ عام 1978 (الاجتياح الإسرائيلي الأول للبنان) حتى اليوم. كل هذا وابن الجنوب يتوسل حتى بعض الحكومات التي لم تدفع له الأموال التي تلقتها تعويضا لأبناء الجنوب». أقول مع ذلك الشاعر «حتى على الموت لا نخلو من الحسد». بدلا من تمجيد المقاومة حتى تحرير كامل الأرض وبدلا من إيجاد كل سبل التعاون والمؤازرة والتوحد ضد العدو خاصة بين الجيش والقوى الأمنية والمقاومة، نحاول عرقلة كل مشروع توحيدي واستبداله بأمر يفرق حتى تذهب ريحنا. والكل يعلم أن ريح العدو الإسرائيلي عاتية حتى لم يعد الجبار الأميركي قادرا على لجم القزم الذي أوجده».

وأشار إلى أنه «في جميع الأحوال، فإن ما ورد في الطائف لجهة التطبيق، قسم منه تقع مسؤوليته على المجلس النيابي وقسم آخر على غير المجلس. واللبنانيون ارتضوا جميعا أن يكون أمر سلاح المقاومة من واجبات طاولة الحوار الوطني، بينما تأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، كمثل المجلس الدستوري والمجلس الاقتصادي الاجتماعي ومجلس الشيوخ هي من مسؤوليات المجلس. وسأسير قدما في هذه الأمور وبعضها الآن أمام اللجان كموضوع اللا مركزية الإدارية التي قطعت فيها لجنة الداخلية والبلديات أشواطا، وهي من الأمور التي ستساعد في الإنماء المتوازن وعلى مركزية الدولة».

ويعيد بري التأكيد أن تأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية لا يعني إلغاء الطائفية الآن أو بعد سنة أو سنتين. «أحلم لمن يأتي من بعدنا بعد عشرات السنين أن يحقق هذا إذا أنشأنا الهيئة الآن. أما إذا لم نفعل، فلا أعتقد أن لبنان يستطيع البقاء، ومن هنا كثرة إلحاحي. نحن أمام عدوين، عدو في الداخل اسمه الطائفية السياسية، وعدو في الخارج اسمه إسرائيل. فلينتبه من يعرقل الأولى في سبيل الثانية... أنا لا أتهم ولكن جهنم مليئة بذوي النوايا الحسنة».

وردا على سؤال عما إذا كانت خطوته هذه هي لتطويق رئيس الجمهورية الذي طالب بتعديل الدستور لتعزيز صلاحيات الرئاسة؟ أجاب «فليخيطوا بغير هذه المسلّة». وقال «نحن نعرف واجباتنا تماما إن شاء الله. ونعرف الأبواب التي يجب أن ننفذ من خلالها. ورغم أن هذا الأمر هو من صلاحيات المجلس النيابي، فإنني زرت فخامة الرئيس الأربعاء الماضي وأطلعته على مخططي لهذه الدورة النيابية التي تأخرت بفعل تأخر ولادة الحكومة وانتخاب اللجان النيابية، ووضعت الرئيس في أجواء برنامجي الذي يأتي فيه أولا اللا مركزية الإدارية، ثم إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، ثم قانون انتخاب جديد وفقا لاتفاق الطائف (المحافظة دائرة انتخابية مع النسبية)، لأن ما حصل في القانون القائم هو من نتائج اتفاق الدوحة، وأخيرا مجلس الشيوخ. وكنت قد دعوت في اليوم نفسه هيئة مكتب المجلس ورؤساء اللجان النيابية لطرح هذه المواضيع. فليطمئن الغيارى أن رئيس الجمهورية كان أكثر من حريص على القبول، بل كان من المحرضين. وقد عبر فخامته عن هذا في كلمته لمناسبة عيد الاستقلال معددا كل هذه الأمور وموضحا موافقته عليها».

وعما إذا كانت خطوته هذه «مناورة لن يستكملها»، يجيب بري «من يعش ير». ويقول «أنا أؤكد ما قلته سابقا بأني سائر في تطبيق الطائف، ومن لا يريد فليعلن ذلك صراحة».

وردا على سؤال آخر عن نظرته إلى مستقبل الوضع اللبناني بعد إعلان حكومة الوحدة الوطنية، قال «أنا متفائل بالمستقبل القريب للبنانيين، أما المستقبل البعيد، فإن الله يؤتي النصر من يشاء، والضمير هنا يعود إلى من يشاء النصر. على اللبنانيين أن يستفيدوا الآن من خميرة الـ(سين ـ سين) لمعجنهم وعجينهم وطحينهم، وخبزهم في المستقبل».