مشروع لإعادة إعمار المركز التجاري والتاريخي بقلب بغداد

الخطة تتكلف 5 مليارات دولار وأعدتها نفس الشركة التي أعادت بناء بيروت

TT

يبذل المهندسون المعماريون حاليا جهودا مضنية في العراق لوضع تصور لما سيصبح عليه حال هذا البلد بعد رحيل الأميركيين. فمن خلال التعاون مع حكومة بغداد المحلية ومجلس المحافظة، أعد المهندسون أكبر مشروعات إعادة الإعمار في العراق منذ بداية الغزو الأميركي للعراق في 2003، وهي خطة تتكلف 5 مليارات دولار لإعادة بناء الشارع الذي يمثل المركز التجاري والثقافي للمدينة.

في أحد الصباحات الماضية، نظر أحمد جبار (48 عاما)، إلى ذلك التصور الكومبيوتري للمستقبل لكنه لم يعجبه. يدير أحمد جبار متجرا لملابس الرجال في شارع الرشيد الذي كان دائما الشريان التجاري المزدهر للمدينة، ولكنه في الوقت الراهن أصبح يعكس ثلاثة عقود من الحروب والعقوبات. في الرسوم الهندسية، يبدو شارع الرشيد وكأنه شارع تسوق تجاري براق للمشاة فقط، توجد على جانبيه أشجار النخيل والأعمدة التي تصطف إلى جانب المحال ذات الطابقين والتي سيعاد ترميمها.

ويقول جبار وهو يركل الرصيف (جزء من الأعمال الصغيرة التي أعيد بناؤها حديثا): «لقد أنفقوا 7 ملايين دولار على ذلك الرصيف الغبي. كما أنه مائل، فإذا أمطرت السماء ستغرق مياه الأمطار محالنا. بوجود مثل هؤلاء الأشخاص في الحكومة، ستستمر تلك الظروف إلى الأبد».

وتعد خطة إعادة الإعمار التي تم تقديمها إلى مجلس المحافظة الشهر الحالي أكثر الطروحات تجديدا لإعادة إعمار العراق، بالإضافة إلى أنها تعد إشارة واضحة لانخفاض معدلات العنف خلال العامين الماضيين. يذكر أن شركة «المعماري» الهندسية هي التي وضعت خطة إعادة بناء بيروت بعد 1990 مما ساعد على توفير الآلاف من الوظائف، وجذب المليارات من الاستثمارات المحلية والأجنبية إلى العاصمة اللبنانية. ويعد ذلك المشروع إشارة إيجابية؛ حيث بدأ الناس يفكرون في إنشاء مشروعات بذلك الحجم. ويقول كامل الزيدي الذي يرأس مجلس المحافظة ببغداد: «إن أفضل رد على الإرهاب هو الإصرار على إعادة بناء أكثر الشوارع أهمية في بغداد. فهي رسالة للجميع. نحن باقون».

ولكن ذلك المشروع واجه عدة عقبات أساسية؛ فحتى قبل أن يتم الإعلان عنه، تسبب في ثلاثة قضايا تتعلق بالفساد، وهي إحدى المشكلات الكبرى التي تعوق التقدم في العراق منذ الحرب. ومن جهة أخرى، يقول عباس الدهلجي رئيس لجنة النزاهة بمجلس المحافظة: «كل شيء في ذلك المشروع يثير الشكوك». فنظرا لأنه كان من المتوقع أن تأتي مليارات الدولارات من الاستثمارات الخاصة، يتشكك المسؤولون سواء العراقيون أو الأجانب بالإضافة إلى أصحاب المحال بشارع الرشيد في أن معظم تلك الأموال سينتهي بها الحال في جيوب السياسيين أو المتعاقدين معهم. يذكر أن جماعة الشفافية الدولية الحقوقية قد أعلنت مؤخرا أن العراق جاء في المركز الخامس ضمن أكثر الدول فسادا في العالم من بين 180 دولة أجريت الدراسات عليها.

ومن جهة أخرى، يقول الدهلجي إن العقد المبدئي الذي تقدر قيمته بـ7 ملايين دولار لتصميم الخطة وعمل قائمة بشركات المقاولات حصلت عليه بالفعل الشركة المعمارية من دون طرحه في مناقصة عامة، مضيفا: «هذا مخالف للقوانين». وأشار إلى أن ثائر الفيلي، أحد الشركاء بشركة «المعماري»، والنائب السابق لوزير الإسكان والإعمار هو أحد الأعضاء الحاليين بهيئة استثمار بغداد التي يجب أن توافق على كافة عقود ذلك المشروع، مضيفا: «في ذلك تضارب مصالح واضح». وقال الفيلي إن الشركات الأخرى لم تعرض الدخول في مناقصة حول ذلك التعاقد وهو ما تحقق لجنة النزاهة العامة حاليا فيه.

من جهة أخرى، يقول محمد الربيعي رئيس لجنة التخطيط الاستراتيجي بمجلس المحافظة إنه نظرا لأن المشروع تموله الاستثمارات الخاصة من خلال شركة من المساهمين تشتمل على بعض أصحاب الممتلكات في الشارع، فربما يزداد نطاق الفساد الذي كان منتشرا في المشروعات الحديثة هنا.

وقال تغلب الوائلي الذي يدير إحدى الشركات الهندسية إن تلك التهم المتعلقة بالفساد يطلقها منافسوه لعرقلة تقدمه. وأضاف: «الفساد الحقيقي هو أن تعرقل إعادة إعمار البلاد نظرا لاتهامات باطلة». ويشير إلى أنه لا بأس من استخدام القليل من الرشاوى لتحقيق تلك الأهداف. وتابع قائلا: «إذا قلت لك إن عملية بناء برجي التجارة العالمي كانت تتضمن رشاوى بقيمة 100 ألف دولار أميركي. فماذا كنت ستختار؟ أن يتم بناؤهما أم لا؟».

من جهة أخرى، أقر الربيعي بأن ذلك المشروع واجه عدة عقبات بما فيها الاحتمالات المستمرة لوقوع أعمال عنف، مضيفا: «نحن متفقون على أن العراق ما زال غير مؤهل كبيئة استثمارية، لكننا لا نستطيع الانتظار إلى الأبد». وأكد أن الأعمال لن تبدأ قبل مضي عام. يذكر أن الشارع الذي صممه العثمانيون عام 1916 والذي تم وضع نموذج بنائه في باريس يعكس جزءا كبيرا من تاريخ بغداد، فقد وقف السنة والشيعة معا لمواجهة الحكم الإنجليزي بمسجد حيدر خانة الشهير عام 1920. كما خرجت انتفاضة شيوعية من ذلك الشارع عام 1948. وبدأ صدام حسين تاريخه السياسي هناك عام 1959 من خلال محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم أول رئيس وزراء للبلاد. ويقول ياسين النصير الذي ألف كتابا حول ذلك الشارع: «لم يكن هناك أي حدث رئيسي في العراق لم يكن لشارع الرشيد دور رئيسي فيه».

في أحد المساءات الماضية، لم تكن الواجهات المتداعية لشارع الرشيد تحمل سوى شهادة صامتة على ماضيها؛ عندما كان العراق مزدهرا بالأموال المتدفقة من البترول في فترة الخمسينات، ويحتفي بمحال ومسارح أقدم شوارع المدينة، وعندما كانت الطرز المعمارية الغربية والعربية تمتزج بتناغم عند منتصف القرن. لكن تلك النوافذ إما تهدمت أو يعلوها التراب الآن. ومن جهة أخرى، أصبح الرجال الذين اعتادوا تدخين النرجيلة في أقدم مقاهي بغداد، يدخنونها على قارعة الطريق نظرا لانقطاع الكهرباء داخل المقهى.

ووفقا للخطة الجديدة، سيتم إنشاء تسع ساحات فسيحة وخط للترام يمر بين صفين من المحال لها شرفات مصنوعة من الحديد المشغول، مما يجعلها تشبه إلى حد كبير شوارع المدن الصغيرة في فلوريدا. وقد حدد المهندسون 254 مبنى باعتبارها مباني تاريخية أو مواقع أثرية يجب الحفاظ عليها إذا أمكن. كان عدد تلك المباني عام 1984 يصل إلى 526.

وبالنسبة لموفق الطائي، الذي كان يزور الشارع خلال أحد المساءات الماضية، تستدعي تلك المباني المتداعية ماضيا علمانيا وليبراليا يتناقض تماما مع بغداد الحالية. وعلى غرار كثير من أبناء الطبقة الوسطى الذين يقاربونه في العمر، كان الطائي (68 عاما)، يحتفي بالشيوعية والحركات الفنية والاجتماعية لأوروبا في الخمسينات والستينات. ويقول: «كان لدينا أكثر قاعات السينما تطورا بل كانت لدينا قاعات عرض ثلاثية الأبعاد. فقد شاهدت فيلم هيلين في السينما في نفس الوقت الذي كان يعرض فيه في إنجلترا».

وأضاف الطائي الذي يعمل كمهندس معماري أن خطط إعادة الإعمار كانت قصيرة النظر لأن فكرة إنشاء منطقة خالية من السيارات ليست عملية، كما أن بغداد تفتقر حاليا للبنية التحتية، المحلية أو الثقافية، التي تساعد على إعادة الحياة التي أنتجت شارع الرشيد في الأساس. ويضيف: «أنت لا تقفز إلى المنتج النهائي. فشارع الرشيد هو منتج نهائي».

وبالنسبة لجبار، الذي يدير محلا لملابس الرجال، ما زال الوقت مبكرا على وضع خطط للمستقبل. ويقول: «لقد جعلتنا تلك السنوات السبع نعود قرنا إلى الوراء خاصة في ظل الفساد. لسنا أول دولة يتم اجتياحها في الحروب ولكن لدينا حكومة لم تستطع عمل أي شيء بخلاف الفساد».

* خدمة «نيويورك تايمز»