اليمن بعد الحرب السادسة (الحلقة العاشرة) تعز.. بوابة الشمال والجنوب

يقصدها سياسيون وأدباء وفنانون لقياس اتجاه الريح.. وأهلها خليط من محافظات اليمن.. ولديهم شغف بتذوق كل ما هو جديد

جامع المظفر في محافظة تعز و الفنان فرسان خليفة و عبد الله أمير، وكيل محافظة تعز و فيصل العامري، رئيس الفرقة الشعبية المسرحية في تعز
TT

يعتبرها اليمنيون بوابة واحدة للشمال والجنوب. وتبدو على الخارطة كمدخل لكل البلاد، من خلال موقعها المتميز على باب المندب. إنها محافظة تعز التي يقصدها سياسيون وأدباء وفنانون، لقياس اتجاهات الريح في اليمن الموحد. أهلها خليط من محافظات البلاد، لديهم شغف بتذوق كل ما هو جديد. وهي أيضا العاصمة الثقافية لليمن بعد الوحدة، وتقع على بعد نحو 256 كلم من العاصمة.. وبسبب الإنفاق المالي الكبير الذي توجهه الحكومة لما خربه المتمردون الحوثيون في شمال غربي البلاد، وما يقوم به الانفصاليون وعناصر تنظيم القاعدة في جنوب وجنوب شرقي اليمن، أصبحت مدينة العلماء، والشعراء، والفقه، والتاريخ تعاني ويعاني أهلوها من مشكلات كثيرة، حيث تحتل المحافظة المرتبة الأولى في عدد السكان بالجمهورية.

وتحمِّل المعارضة السلطات مسؤولية الفقر والبطالة والفساد الإداري، فيما يدافع المسؤولون عما يقومون به من أعمال، مطالبين المجتمع الدولي، في الوقت نفسه، بمزيد من المنح والقروض للتغلب على المشكلات هنا، بما فيها معسكرات اللاجئين الأفارقة على شواطئ اليمن، فيما يراهن وكيل محافظة تعز، عبد الله أمير، على وعي الناس الذي «يقلل فرص تنظيم القاعدة من الظهور في محافظتنا»، ويأتي هذا فيما يقول فيصل العامري، مدير فرقة المسرح الشعبي في تعز، إن التحزب القبلي يهدر دماء الإخوة الأعداء.. لن نرجع للماضي. نريد التخلص من التصفيات والاغتيالات، بينما يحذر الفنان الشهير الملقب بفريد الأطرش اليمني، فرسان خليفة، من خطر وجود السلاح في أيدي الناس، قائلا: «كنا نمشي بخطوات سريعة لكن الحوثيين عرقلوا العمل.. والآن الحراك الجنوبي يحاول التخريب.. يجب ترك السلاح والتفاهم تجنبا للمجازر».

ومع ذلك تبدو هناك فرص استثمارية ضخمة في قطاعات السياحة والإسكان والطرق.. ومشروعات تنموية لتوفير فرص العمل وتحقيق الاكتفاء الذاتي في الريف، وعلى الرغم من انخفاض عائدات السياحة بالمحافظة بسبب التوترات السياسية والحرب ضد المتمردين وقلاقل الحراك الجنوبي، فإنه توجد توقعات بزيادة النمو في 2010. وفي سفوح الجبال التي يصل ارتفاعها لثلاثة آلاف متر فوق سطح البحر، يعمل مزارعون وحمالون قادمون من مدن جنوبية وشمالية كتفا لكتف، دون تفرقة.. فهنا مدينة الوحدة التي رفضت حصار الملكيين الإماميين لصنعاء، ورفضت تكميم أفواه اليمنيين في دولة ما كان يعرف باليمن الجنوبي، هكذا يقول أحد المناصرين للحزب الحاكم في جلسة نقاشية بالمدينة.

وفي ظل الظروف التي تمر بها البلاد حاليا، تحاول تعز أن تضرب المثل للمحافظات الأخرى على الصبر والعمل وإدراك الواقع، ومحاولة إصلاح ما أفسدته الأيام، على الرغم من تحفظات المعارضة وانتقاداتها. وتخطط الدولة لزيادة التنمية في المحافظات الجنوبية التي تشهد بعض مديرياتها حركة انفصالية متنامية، بالتوازي مع خطتها لإعادة إعمار صعدة. ومن بين الأيدي التي تبني بلا هوادة في طول البلاد وعرضها، بدعم من الدول الشقيقة والصديقة لليمن، يمكن أن تسمع ضجيج العمل في تعز، لكثرته وكثافته، وتزامنه.

نكهة خاصة ولون خاص يراه اليمنيون في تعز، على الرغم من الفقر والضنك في كثير من المواقع.. فقد كانت تعز الرافد القوي لدعم مسار الثورة والوحدة. أبناء تعز يتميزون بقدرة كبيرة على التعامل مع الآخرين، ولهم هذا الموروث الحضاري الجميل الذي جعل العلاقات بين أبناء تعز والآخرين تتميز بالشفافية والصدق. وهذا لا يعني أن المحافظات الأخرى تعيش حالة من الانحسار في هذا الجانب.

وتعلن أحزاب المعارضة في تعز، منها التجمع اليمني للإصلاح، والناصريين عن خيبة أملها في واقع تعز، مشككين في قدرتها على أن تصبح بالفعل عاصمة للثقافة، وهي تعاني من «الجوع والفساد»، و«تفشي الجريمة وتعاطي المخدرات». وتشكو اليمن عامة من أحد أعلى مستويات النمو السكاني في العالم، حيث وصل معدله إلى 3% سنويا. ويبلغ عدد السكان نحو 23 مليونا، وتعتبر تعز في المرتبة الأولى من حيث عدد السكان على مستوى الجمهورية، أي نحو 12.2% من إجمالي سكان اليمن، ينتشرون في 23 مديرية تابعة للمحافظة.

ويعاني معظم السكان من ضعف مستوى التعليم، فيما تنتشر ظاهرة عدم الالتزام بالقانون في عدد كبير من مديريات الجنوب والشمال. وتختلف الحكومة والمعارضة حول الطريقة المثلى للعلاج. ويريد المعارضون في مدينة تعز «تغييرا شاملا»، و«نظاما إداريا جديدا»، و«انتخابات، وديمقراطية صحيحة، وليس ما هو موجود الآن من محاولات لترقيع نظام إداري وسياسي مهلهل»، كما يقول المسؤول الناشط في الحركة الناصرية بالمدينة، جمال عبد الله.

ويقول المسؤولون في محافظة تعز إنها تمشي وفق خطة بناء تتضمن بناء الإنسان أيضا، ولأن بناء الإنسان أصعب من بناء الحجر، فإن عبد الله أمير، وكيل المحافظة، الرئيس المنتخب لاتحاد الكتاب اليمنيين في تعز، يجيب موضحا: «نحن نراهن على مستقبل أفضل، ولكن كيف نراهن.. هل بالمسألة العمرانية من مبان من الأسمنت فقط.. لا.. نريد أن نراهن على ما هو أكبر.. أي على قدرات الإنسان، وكيف نوظف هذه القدرات في التنمية الحقيقية التي نخدم بها حاضرنا ومستقبلنا».

وعلى غير ما هو معتاد في كثير من المدن العربية، تجد على أسوار بعض المباني في تعز لوحات للفن التشكيلي لفنانين من المدينة يعرضونها للمارة، آخرها كانت لوحات للفنان نادر الإرياني، على رواق المركز السويدي بالمدينة. كما يتردد أبناء المحافظة على بيت الفن الشهير في تعز، حيث تجد هناك أعمالا للفنان التشكيلي الراحل «هاشم»، تصور حبه للطبيعة والإنسانية، وهنا أيضا يعمل أكثر من عشرين فنانا آخرين، في هذا الوقت، على تنفيذ مشروع لأعمال نحتية على الحجر ممول من صندوق التراث والتنمية الثقافية.. ومن سيارة نقل، أمام المكتبة العامة بالمدينة، يفرغ العمال شحنات من الكتب القادمة من العاصمة، من تلك التي كان قد أهداها سمو ولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز، للهيئة العامة للكتاب باليمن..«كتب دينية وثقافية وعلمية، ما لا يقل عن ألف عنوان جديد». ويقول مسؤول في المكتبة: هذا سيكون له تأثيره في المستقبل.

وبعد عناء يوم من العمل، يتجادل أهل تعز بطريقة هينة فيها كثير من العقلانية والتفهم للظروف التي تمر بها بلادهم، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.. جدل سلس كالماء، وجدل مختلف عن الطريقة الخشنة المنتشرة في معظم المحافظات الأخرى، خاصة في الجنوب والشمال الغربي. ويطلب اليمن من المجتمع الدولي المزيد من المساعدات من أجل حل مشكلات التنمية، وتحقيق الاستقرار في بلد يحظى بأهمية جغرافية كونه يطل على البحر الأحمر وبحر العرب، وقريبا من الخليج العربي..

ويتهم ناشطون معارضون هنا الحكومة بالفساد وإهدار أموال المنح والقروض. ومع ذلك، وبغض النظر عن الجدل والاتهامات، لا بد من أن تقوم جهة ما بحل مشكلة مثل نقص المياه التي تعاني منها البلاد، مما يؤثر بالسلب على المزارعين، وحتى على توافر مياه الشرب. وحين تحاول محافظة من المحافظات، مثل تعز، زيادة معدل التنمية فيها، فإن أول شيء تحتاجه هو المياه.

ويعترف المسؤولون في تعز بوجود مشكلة «نقص» المياه.. والآن بدأت خطوات حثيثة وسريعة من أجل رفد المنطقة بالماء عن طريق تحلية مياه البحر.. عملية التحلية، تقريبا، هي الحل في هذا الجانب.. هذا سيساعد في إنجاز البنية التحتية، وتوسيع رقعة المدينة.. يقول وكيل المحافظة ويضيف: «نريد الانتهاء من إنجاز مشاريع كبيرة بدأت بالفعل، مثل مشروع مدينة الصالح التي ستكون لمحدودي الدخل».

وماذا عن الأموال، وماذا عن القدرات البشرية والإدارية.. إن تعز مثل أي محافظة يمنية أخرى، في حاجة إلى موازنات ضخمة، ورؤوس أموال كبيرة، للعمل، حيث توجد فرص غير محدودة للاستثمار.. يقول وكيل المحافظة إنه «في الحقيقة نحن في كثير من الأحيان (نشكو من نقص) الجوانب المالية. هذا نعتبره عائقا رئيسيا. بالفعل هذه ربما تكون في بعض الحالات، أو في كثير من الحالات، هي العثرة التي تعيق عملية التنمية، لكن هناك أيضا رؤى ثاقبة للسلطات في معالجة مثل هذه القضايا. هناك أيضا عثرات على مستوى الأداء.. هذه عملية كامنة في الأشخاص أنفسهم، مثلا بعض الأشخاص لا تكون لديهم حالة من الاقتدار ليتعامل مع المنجز بشكل أقوى وبروح وثابة.. أعتقد أن الإرادة التي تتشكل في نفوسنا سوف تقهر الكثير من الإعاقات والعثرات، سواء كانت في الجانب المالي أو في غيره». وبينما تفرغ الشاحنات الإسفلت لرصف شبكة طرق حول المدينة وحتى المطار، يتدرب مزارعون من أصول شمالية وجنوبية، في الجانب الآخر على أساليب جديدة لترشيد المياه وتصنيع الخضراوات أملا في تحقيق الاكتفاء الذاتي وخلق فرص عمل جديدة لأبنائهم.. وهذا مشروع ممول أوروبيا (من فرنسا)، على علاقة مباشرة بحياة المواطنين اليومية في أرياف تعز، وينتهي بنهاية هذا العام، لتعليم آلاف المزارعين طرق جديدة لصناعة الخضراوات والألبان، من بينهم نحو 3000 مزارع ومزارعة تمكنوا، خلال العام الماضي فقط، من ترشيد تكلفة الزراعة، ومن صناعة الجبن وصلصة الطماطم، وخلق فرص عمل لأبنائهم، ودعوة أقارب لهم للانضمام لهم من جنوب البلاد وشمالها.

ومثل هذه الأنشطة الاقتصادية التي تدعمها الحكومة وجهات عربية ودولية أخرى، بدأت تظهر في عدة مديريات جنوبية من تلك التي يظهر فيها أنصار الانفصاليين الغاضبين من الفقر والبطالة، بعد اندماج الشطر الجنوبي في دولة الوحدة.

«الأغلبية الساحقة في اليمن متفقة على أن مسألة الوحدة مسألة محسومة، وقد حسمت من زمان.. ونحن نلاحظ الكثير من المنجزات التي تتحقق في مناطق الجنوب، وليس هذا من باب المن»، يوضح عبد الله أمير، ويضيف: «نحن في محافظة تعز لم نحظ بالكثير من مثل تلك المشاريع التي تتحقق في مناطق الجنوب بالمليارات. لكن نقول إن المنطقة الجنوبية حرمت إبان الاستعمار (البريطاني) وحرمت أيضا أيام الحكم الشمولي (في دولة اليمن الجنوبي السابقة). وكل الأموال التي تم ضخها ويجري ضخها في المنطقة الجنوبية هي من أجل تعويض الخسائر التي كانت تعيشها، وتعويض كثير من مظاهر الحياة المنقوصة هناك. كان لا بد أن نعوضهم.. وبدلا من شظف العيش، يكون رخاء العيش، بدلا من الملامح السوداء نعطيهم ملامح أكثر زهوا وأكثر جمالا، وهذا لا يأتي من باب المن، لأن كل يمني له حق على الآخر، ونحن لحمة واحدة ومنظومة واحدة وحياة واحدة».

وعلى الرغم من الثقافة والفنون والآداب فإنك تستشعر في المدينة تواجدا ملحوظا للتشدد الديني. هل توجد هنا مخاوف من أن تستغل عناصر من تنظيم القاعدة هذه الأرضية للتواجد في محافظة تعز.. يجيب وكيل المحافظة: «أفكار القاعدة بعيدة عن أفكارنا كمسلمين وكعقائديين نؤمن برسالة واحدة. وما يمكن أن يعالج بالقوة يمكن أن يعالج بالسلم والحوار.. مثل هذه الخروقات التي تحصل هنا أو هناك بفعل تنظيم القاعدة أو غيره لن تبقى طويلا. ولا نتوقع أن تكون محافظة تعز بؤرة لتنظيم القاعدة.. في اعتقادي حتى لو القاعدة تواجدت بشكل خفيف في تعز، فهي أيضا قد تكون محكومة بفعل ضوابط الانتماء والوعي وصحوة الناس وثقافتهم».

تعز، كونها تقع على البحر تعاني، مثل المحافظات اليمنية الشاطئية الأخرى، من تسلل اللاجئين القادمين من القرن الأفريقي، وما يمكن أن يشكله ذلك من خطر تسلل إرهابيين، خاصة بعد أن أعلنت حركة الشباب المجاهدين التي تقاتل الحكومة في الصومال، أنها سترسل مقاتلين لدعم تنظيم القاعدة في اليمن في حربه ضد السلطة.. وينسق مسؤولو تعز ومحافظتي الحديدة ولحج المجاورتين لها، لمكافحة التهريب والمتسللين عبر مناطق الشريط الساحلي هناك. وجرى تعميم أسماء لمهربين يمنيين مطلوبين، وتزويد وحدات عسكرية وأمنية من خفر السواحل بمراكب ومعدات حديثة ورصد مكافآت لجهات الضبط وفقا للقانون.

ويدخل متسللون تلقي بهم مراكب على شواطئ محافظة تعز، وأحيانا يصل العدد إلى نحو 200 لاجئ صومالي وإثيوبي في اليوم. ويتم نقل هؤلاء اللاجئين من تعز إلى مخيم للإيواء المؤقت تابع لمفوضية اللاجئين بمديرية أحور في تعز ومخيم «خرز» القريب.. ودخل المخيم قبل أسبوعين 141 لاجئا بينهم 73 امرأة و35 طفلا، كانوا في حالة يرثى لها، بعد أن ألقى بهم قارب على ساحل أحور. ويقول وكيل المحافظة إن «تعز أصبحت تعاني كثيرا جدا من مشكلة هؤلاء المهاجرين، وعددهم كبير جدا.. يأتون من الصومال ويدخلون تعز بالتهريب.. وقبل شهر تقريبا كان محافظ تعز الأخ محمد خالد الصوفي مع مجموعة من البنك الدولي لبحث هذا الأمر وكيفية بناء معسكرات لإيواء مثل هؤلاء النازحين. وفي كثير من الأحيان لا نستطيع أن نواجه هذا الضغط العددي الكبير الذي يصل لتعز، وكل منهم يريد الطعام والسكن والملبس، وغيرها من تبعات وأعباء.. فلا بد للمجتمع الدولي أن يتحمل مسؤوليته في معالجة أوضاع مثل هؤلاء النازحين.. الآن يتم وضعهم في إصلاحيات لفترات معينة حتى يتم معالجة أوضاعهم وعودتهم لديارهم».

وعلى الرغم من المشكلات التي تمر بها عدة مديريات بمحافظات الجنوب، وكذلك ذكرى مقتل عدد من السياح هناك منذ نحو ثلاث سنوات، فقد بدأ آلاف السياح الأوروبيين، ومنذ مطلع العام الجاري، يقلبون النظر بخلو بال في آفاق تعز الخلابة، واحتفى بمجيئهم مسؤولو المحافظة، حيث اصطحبهم مدير مكتب السياحة، صادق صلاح، في جولة إلى المناطق الأثرية، وأنفقوا عدة آلاف من الدولارات في أسواق المدينة ومطاعمها. وهذا مؤشر إيجابي في نسبة الوافدين للسياحة، إذ بلغت نسبة النمو في هذا المجال نحو 4%، إلا أن مستوى الإنفاق السياحي انخفض فيها من 1.7 مليار ريال عام 2008، إلى 872 مليون ريال فقط عام 2009، بسبب التوترات السياسية والحرب ضد المتمردين وقلاقل الحراك الجنوبي.

ومع ذلك هناك توقعات بأن تزيد نسبة إقبال السياح وكذا ارتفاع نسبة الإنفاق هذا العام، خاصة مع المشروعات السياحية التي تنفذها السلطات المحلية، إلى جانب التيسيرات التي تمنحها للمستثمرين في هذا المجال. ووصلت تكلفة المشاريع الاستثمارية لهذا الغرض 1.1 مليار ريال في العامين الماضيين. فيصل العامري، مدير فرقة المسرح الشعبي في تعز، والتي تأسست عام 1987، يتملكه حنين لتأسيس أرضية لمسرح وطني كبير، ليس في تعز وحدها، بل في كل محافظات اليمن شمالا وجنوبا، خاصة بعد أن تحققت الوحدة بين شطري البلاد. ويشغل العامري وظيفة في وزارة الثقافة من خلال عضويته في لجنة الرقابة على النصوص المسرحية. وتنتقد أعماله الفنية البيروقراطية الإدارية، وتعكس الهم السياسي الكبير في اليمن. وعلى الرغم من أنه ينتمي إلى محافظة تعز المحسوبة على دولة الشمال قبل الوحدة، فإنه يحمل على عاتقه أيضا هموم أهله في المحافظات الجنوبية المجاورة لتعز، والتي كانت قبل عام 1990 تابعة لما كان يعرف بدولة اليمن الجنوبي. ويحمل كذلك هموم زملائه من ممثلين ومسرحيين ومؤلفين. وتزدحم أسر يمنية قادمة من شمال البلاد وجنوبها، في تعز، حول حديقة «جاردن سيتي» العامة، للاطلاع على آخر الأنشطة الثقافية والمجادلات السياسية وطرق حل مشكلات البلاد من دون اللجوء للسلاح. ويأمل العامري في أن يتزايد الاهتمام بمحافظات الجنوب، وأن تدخل إليها مزيد من الإصلاحات العامة، لرفع المعاناة عن الناس، ولاستعادة المباني المسرحية التي استولى عليها مواطنون جنوبيون، عقب الوحدة، ادعوا أنها ملك لهم من عهود السلطنات القديمة، وانتقلوا للسكن فيها، أو حولوها لمتاجر، أو أغلقوها، ما أدى لتشريد فرق مسرحية عريقة من الجنوب، مثل فرقة المطافئ الكوميدية، وفرقة العمال، في عدن.

ومع ذلك يقول العامري وهو ينظر إلى كثير من المنشآت الجديدة التي يجري العمل فيها في تعز وبعض المدن الجنوبية الأخرى: «على الرغم من كل شيء فإنه ينبغي أن نفهم أن مرحلة الانفصال بين شطري اليمن قد مضت وانتهت إلى الأبد، بقيام الجمهورية اليمنية الواحدة. هذا لا يمنع من وجود مشاهد مؤلمة كثيرة جدا، نراها على امتداد البصر.. نحن في تعز أقرب إلى الشمال وإلى الجنوب على حد سواء.. نرى في بلادنا صراعا اجتماعيا وسياسيا.. دماء الإخوة الأعداء، مثل هذه الصراعات قامت على التحزب القبلي، هذه ثقافة استرجاع للماضي. ثقافة التصفيات (الجسدية) والاغتيالات. أصبحنا في القرن الحادي والعشرين حيث الكيانات تتوحد والناس تكبر. ويدهشني أن طارق الفضلي (القيادي الانفصالي في الجنوب) ما زال ينتهج التشدد.. مثل هذه التصرفات ناتجة عن إرادة جائعة تريد العودة إلى الماضي».

أما ابن الجنوب، وابن عدن، فرسان خليفة، الشهير بتاريخه الطويل كمطرب للثورة وللوحدة في اليمن، فقد غنى هنا في تعز مناديا بتوحيد شطري الدولتين منذ زمن، رافعا صوته عبر حدود تعز ليصل إلى محافظات الجنوب والشمال، حتى باتت الجماهير المتعطشة للوحدة في ذلك الوقت تترقب حافلته في الطرقات، وتجبر فرقته على النزول والغناء مجددا. كانت شهرته قد ملأت الآفاق بسبب موقفه الرافض لحصار الملكيين الإماميين لصنعاء قبل أربعين سنة، وهو الحصار الذي استمر سبعين يوما.. يقول فرسان خليفة وهو يتذكر تلك الأيام، فيما ينظر إلى مستقبل محافظات بلاده شمالا وجنوبا: «رجعت لليمن، وغنيت في المعسكرات.. كنت أناشد الشباب أن يقفوا ليقاتلوا في سبيل الوحدة والثورة سواء في الشمال أو الجنوب. غنيت في تعز والحديدة وكل مناطق الجمهورية. كان معنا باص (حافلة) وفرقة بسيطة.. إيقاعات وعود، وكانت الجماهير تترقبنا في الطرقات».

ويضيف معلقا على محاولات بلاده للبناء والتقدم: «كنا نمشي بخطوات سريعة، وجاء (المتمردون) الحوثيون وعرقلوا العمل. والآن الحراك الجنوبي يحاول التخريب.. نحن نمشي بخطوات ثابتة وأتمنى أن تكون الحكومة شديدة وأن يتم نزع السلاح.. يجب أن نترك السلاح ونتفاهم لأن الوحدة لازم تتم.. الانفصاليون؛ على أي أساس يريدون الانفصال.. لو عادوا للحكم ستصير مجازر للشعب».

وتوجد في تعز كثير من الفعاليات الصغيرة المعنية بالسياسة والثقافة والأدب والمسرح والفنون التشكيلية والنحتية، تتخذ أسماء كثيرة بعضها طريف مثل رابطة «العراطيط»، ورابطة «جدل»، ورابطة «ضد القات».. ويقف مثل هؤلاء، بأنشطتهم المتواضعة ضد ما يسمونه «تسييس» المؤسسات الثقافية، «أو مشيختها، أو عسكرتها»، وكان لهم دور في ما يسميه أهل تعز «انتفاضة الخبز» التي وقعت قبل نحو عامين.

ويتحلق مثقفون وأنصاف مثقفين، وغاوون، داخل منتديات الشعر والأدب والسياسة ومقاهي الإنترنت بالمدينة، للتحدث عن كل شيء، التجديد والشغل، والفساد والتخلف، وسط رؤى نقدية عفوية «تتسم بتدقيق وتمحيص عجيبين»، بشأن حركات المتمردين في الشمال، والانفصاليين والإرهابيين في الجنوب والشرق.. وفي كل مكان هنا يمكن أن تشعر بالزخم الثقافي، ودرجة من الوعي أكبر من أي مدينة يمنية أخرى، بما في ذلك العاصمة صنعاء، وربما لهذا السبب كانت تعز قِبلة للسياسيين والأدباء والفنانين، لا يمرون إلى عموم اليمن إلا عبر بوابتها، سواء كانوا من الشمال أو الجنوب.. وسواء كان ذلك لمَنْ ولدوا فيها، أو لمن حرصوا على أخذ البركة من أهلها الذواقة لكل جديد.