75 خبيرا دوليا في تخطيط المدن يستكشفون بغداد وسط إجراءات أمنية مشددة

كتيبة من الجيش أغلقت الجزء القديم من المدينة.. وسوق الصفافير أخليت من المتسوقين

المدرسة المستنصرية كانت المحطة الأولى في جولة الوفد في بغداد القديمة (نيويورك تايمز)
TT

شرعت مجموعة من الزائرين الأجانب في جولة عبر أرجاء بغداد مؤخرا. وفي أي مكان آخر، ربما لم يكن مثل هذا الحدث يلفت الانتباه، لكن الوضع في بغداد مختلف، حيث شن المسلحون سلسلة من الهجمات المتزامنة في الفترة الأخيرة.

ولضمان استتباب الأمن في المدينة ولو لساعات قليلة أقدمت السلطات على نشر كتيبة كاملة من الجيش العراقي والمئات من ضباط الشرطة ومجموعة من أفراد القوات الخاصة التابعين لوزارة الداخلية، وأقدمت على خطوة غير معتادة بإغلاق الجزء القديم من المدينة.

الوفد الزائر كان مؤلفا من نحو 75 من المهندسين المعماريين ومخططي المدن من الولايات المتحدة وفرنسا وإيران وإيطاليا واليابان ودول أخرى، ممن كانوا يشاركون في مؤتمر امتدت فعالياته ستة أيام حول «الحفاظ على المراكز الحضرية العراقية». وفي خطاب الترحيب الذي ألقاه رئيس الوزراء نوري المالكي، قضى المشاركون في المؤتمر أياما في الاستماع إلى خبراء في مجال إعادة التنمية. في اليوم الرابع، احتشدوا داخل 3 حافلات صغيرة محاطة بسيارات مدرعة تضم ضباط شرطة وعملاء للاستخبارات مدججين بالأسلحة، وانطلقوا في جولة عبر العجائب المعمارية والثقافية التي حرم معظم الأجانب من الوصول إليها على مدار عقود، في الوقت الذي غالبا ما يساور العراقيين خوف بالغ يحول دون زيارتهم إياها.

زحفت القافلة عبر مرور شوارع بغداد أمام مبنى مجلس المحافظة ووزارة العدل، حيث أسفرت مجموعة من التفجيرات عن مقتل 155 شخصا في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وأشار مرشد مرافق للزائرين إلى المباني المتهدمة من دون أن تبدو عليه علامات تأثر بالمشهد. وشرع المخططون والمهندسون المعماريون في التقاط الصور.

مع مرور الحافلات التي تقل الوفد عبر نقاط التفتيش في شوارع متكدسة بالمرور، حرص الأفراد داخل السيارات على إخراج رؤوسهم من نوافذ سياراتهم والإشارة بأيديهم نحو الحافلات، كما لو أن هذا سيجعل المشهد اللافت للانتباه أكثر واقعية. الملاحظ أن فرص مشاهدة أجنبي داخل بغداد من دون أن يكون مرتديا لزي رسمي أو يحمل سلاحا نادرة جدا.

صاح سائق إحدى سيارات الأجرة باتجاه أعضاء الوفد متسائلا «من أنتم؟»، قبل أن يطلب منهم المرشد المرافق لهم إغلاق النوافذ من أجل تشغيل جهاز تكييف الهواء.

مثلما الحال مع جميع الأعضاء الآخرين تقريبا في الوفد، اعترف مارك سانتوس (49 عاما) وهو مهندس معماري يعمل لدى مجلس بلدية برشلونة، إن قلقا بالغا ساوره حيال الأخطار التي تنطوي عليها بغداد، لكنه قرر المخاطرة بالقدوم إلى المدينة التي ظلت محرمة فعليا لفترة من الوقت. وقال: «يخضع كل شيء لسيطرة شديدة، لكن أعتقد أن هذا أمر منطقي».

كانت محطة التوقف الأولى في المدرسة المستنصرية التي شيدت وفتحت أبوابها عام 1233 أثناء العصر الإسلامي الذهبي. وبعد 25 عاما من ذلك التاريخ، تعرضت المدينة للتدمير والنهب على يد هولاكو، حفيد جنكيز خان وشقيق قوبلاي خان.

وصعد أفراد المجموعة عدة سلالم في طريقهم إلى السطح. وتظاهرت سيدة شابة بأنها تسقط، مما كان سيمثل أسلوبا جديدا للموت في العراق.

وعجز أفراد الشرطة المدججون برشاشات كلاشنيكوف وغير المعتادين على التعامل مع مثل هذه المواقف عن تحديد الصورة المثلى لما ينبغي أن يكون عليه رد فعلهم. وسأل أحدهم زميله: «هل ينبغي أن نصعد؟» وأجابه الآخر: «لا أدري». ورد الأول: «لا، أعتقد أنه ينبغي أن نتحرك».

وعلى السطح، أخرج أفراد الشرطة كاميراتهم والتقطوا صورا لأنفسهم بينما كانوا في واحدة من اللحظات النادرة التي يبتسمون خلالها.

أما المحطة الثانية فكانت السوق حيث تباع البسط والكتب والمصنوعات النحاسية - وهي مواد تشكل منذ أمد بعيد جزءا من هوية بغداد - علاوة على سلع أخرى. ومع سير السائحين في أحد الشوارع التي أخليت من المرور، احتشد الناس على الجانبين محدقين فيهم، لكن الشرطة حرصت على إبعادهم عن الزائرين وأبقت الجانب داخل نطاق حمائي.

وقال أحد السياح: «بدا الأمر كما لو كنا فرقة سيرك».

داخل سوق التحف والمصنوعات النحاسية (الصفافير)، ترك صوت الطرق على النحاس أصداءه بمختلف أرجاء المكان، لكن المكان برمته كان قد أخلي من المتسوقين، وبالتالي جرد من جزء كبير من طابعه المميز. أطل التجار من خارج أكشاكهم ليحدقوا في الأجانب الزائرين، لكنهم لم ينبسوا ببنت شفة، رغم اعتيادهم الثرثرة وتجاذب أطراف الحديث.

أخيرا، قال أحد الباعة: «نحب الزائرين. ونحن بحاجة للمزيد منهم».

في الخارج، وتحديدا في شارع المتنبي، توجد سوق بغداد للكتب، حيث تعرض الكتب للبيع على مناضد قائمة على الأرصفة، وقليلا ما توجد داخل مكتبات متخصصة في بيع الكتب. وتتنوع محتويات الكتب ما بين القرآن الكريم ووصفات للطهي، وفي بعض الأحيان توضع هذه الكتب بجانب بعضها مع بعض. جدير بالذكر أن هذه السوق تعرضت لتفجير عام 2007 تسبب في مقتل 26 شخصا.

من جانبها، علقت نادية نيلينا، مهندسة معمارية من روتردام، بقولها: «كان الجو العام أكثر إيجابية مما توقعته».

لكن هل شعرت بالأمان هناك؟

أجابت نيلينا: «لقد أحاطتنا دوما إجراءات أمنية مشددة».

داخل «القشلة» وهو المقر الرئيسي الإداري للحكومة العثمانية في بغداد منذ قرن مضى، انهمك السائحون في التقاط الصور. وفي أحد الجوانب، عمد حارس أمن إلى الوقوف أمام لافتة معدنية تشير إلى أن المباني جرت إعادة ترميمها في عهد صدام حسين.

مع اقتراب الجولة من نهايتها، كان مايكل بيرسون (77 عاما) وهو مهندس معماري من عائلة تتميز بثلاثة أجيال من المهندسين المعماريين في لندن، يجفف عرقه.

على خلاف الحال مع معظم أفراد المجموعة، سبق لبيرسون زيارة بغداد، لكن منذ 30 عاما. وعلق بيرسون على وضع المدينة بقوله: «تبدو منهكة للغاية بعد ثلاث حروب. إنه أمر محزن».

وفي مقهى «الشابندر»، ملتقى المثقفين، جلس رجال يحتسون شايا محليا ويدخنون النرجيلة. وعج الجدار بصور بالأبيض والأسود لبغداد في أوج مجدها.

أعرب غاري إل. راسل، مهندس معماري من «لجنة بوسطن للمعالم»، عن دهشته من الهدوء الذي غلف معظم أرجاء المدينة مساء، الأمر الذي يرجع بطبيعة الحال إلى حظر التجول المفروض ليلا. وأضاف: «الأضرار ليست واسعة النطاق بالدرجة التي تخيلتها. لا يراودك شعور بأن هذا المكان خطير على خلاف ما كان عليه الحال منذ سنتين أو ثلاث سنوات».

وفي «المتحف البغدادي»، هناك لوحة على الجدار تحمل عبارة مأثورة على لسان فيلسوف وشاعر عاش في القرن الحادي عشر، أبو العلاء المعري، تقول: «من عاش ومات في بغداد، فكأنما انتقل من جنة إلى جنة». في الداخل، عكف المهندسون المعماريون ومخططو المدن على تناول الغداء، وربما راودهم التفكير في سبل لجعل هذه العبارة حقيقة. وفي الخارج، عمدت مجموعة من أفراد الشرطة والجنود على إبقاء أهل المدينة بعيدا عن المكان.

* خدمة: «نيويورك تايمز»