وكالتا المخابرات الأميركية والباكستانية تنخرطان في معارك تجسس طاحنة

الأميركيون قلقون للغاية بعد سلسلة من الحالات تضم عملاء مزدوجين مشتبها فيهم

TT

اقترب رجل باكستاني من ضباط بوكالة المخابرات المركزية الأميركية في إسلام آباد العام الماضي، وعرض عليهم إخبارهم بأسرار حول برنامج بلاده النووي الذي يخضع لحراسة مشددة. ولإثبات أنه مصدر موثوق به، ادعى الرجل أن لديه قضبان وقود نووي مستهلكة. بيد أن الشكوك ساورت وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي.آي.إيه). فقبل فترة طويلة، استنتج الضابط المتشككون أن وكالة المخابرات الباكستانية تحاول تجنيد عميل مزدوج ضدهم. وقام ضباط المخابرات الأميركية بتحذير نظرائهم الباكستانيين. ووعدت باكستان بدارسة الأمر، ولم يعترف أي من الجانبين بأن هذا الرجل عميل مزدوج، وانتهت هذه القضية نهاية هادئة ولطيفة.

وكتبت وكالة «أسوشييتد برس» أن هذه الحادثة، التي رواها ضباط أميركيون سابقون، تؤكد على العلاقات المتقلبة مع أحد أهم حلفاء أميركا في مجال مكافحة الإرهاب. وبصورة علنية، يرجع المسؤولون الفضل إلى التعاون الباكستاني في المساعدة على قتل عدد كبير من قادة تنظيم القاعدة وحركة طالبان أو إلقاء القبض عليهم. وبصورة سرية، تتسم هذه العلاقة في الغالب بانعدام الثقة في الوقت الذي يخوض فيه البلدان معركة تجسس قوية ضد بعضهما البعض.

وحاولت المخابرات الأميركية مرارا وتكرارا اختراق جهاز المخابرات الباكستانية ومعرفة المزيد بشأن البرنامج النووي الباكستاني، وصعد جهاز المخابرات الباكستانية من عملياته بهدف تجميع المعلومات الاستخباراتية حول أنشطة مكافحة الإرهاب التي تنفذها الوكالة الأميركية في المناطق القبلية، وتحديد ما الذي تعرفه الوكالة بشأن البرنامج النووي الباكستاني.

ويعد تحمل المشكلات مع جهاز المخابرات الباكستانية إحدى وسائل الحياة بالنسبة إلى وكالة المخابرات المركزية الأميركية في باكستان، والتي يوجد بها مركز قيادة الوكالة لتجنيد جواسيس في المناطق القبلية التي ينعدم فيها القانون. كما أن الضباط هناك ينسقون الغارات التي تقوم بها طائرات من دون طيار، وهي أكثر البرامج التي تقوم بها الوكالة لمكافحة الإرهاب نجاحا وتدميرا. وتقلع الطائرات من دون طيار والتي تحمل القذائف من قاعدة داخل منطقة بلوشستان الباكستانية، تعرف باسم «راين».

وقال غراهام فولر، الخبير في الإسلام الأصولي، والذي قضى 25 عاما من عمره مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية، بما في ذلك مهمة عمل كرئيس إحدى المحطات في كابل، «ستكون باكستان غير مريحة بصورة استثنائية، بل ومعادية للجهود الأميركية الرامية إلى العبث بالمروج الخضراء في البلاد».

ويعني ذلك أن حوادث مثل الحادثة التي تنطوي على قضبان وقود نووي يجب أن تُحل بدقة وبصورة سرية. وقال المتحدث باسم وكالة المخابرات المركزية الأميركية، جورج ليتل: «إنها علاقة مهمة. إننا نعمل عن كثب مع شركائنا في باكستان في محاربة التهديد المشترك المتمثل في الإرهاب. لقد كانوا مهمين للغاية في الإنجازات التي تم تحقيقها ضد (القاعدة) وحلفائها. ولقد فقدوا الكثير من الأفراد في الحرب ضد التطرف. لا ينبغي لأحد نسيان ذلك».

وروى ما يقرب من عشرة مسؤولين سابقين وحاليين في المخابرات الأميركية والباكستانية التفاصيل المتعلقة بعلاقة الوكالة الأميركية مع باكستان، وجميعهم طلب عدم ذكر اسمه لأنهم غير مخولين بمناقشة هذا الأمر. وأنكر مسؤول بالمخابرات الباكستانية أن الوكالة تجند عملاء مزدوجين من أجل جمع المعلومات بشأن الأنشطة التي تقوم بها وكالة المخابرات الأميركية. وقال إن الوكالتين تجمعهما علاقات عمل جيدة، وأن مثل هذه الادعاءات تهدف إلى إحداث الفرقة بينهما. بيد أن الوكالة الأميركية أصبحت قلقة للغاية بسبب سلسلة من الحالات تضم عملاء مزدوجين مشتبها فيهم عام 2009، وقامت بإعادة فحص الجواسيس المسجلين على القوائم الخاصة بها في منطقة أفغانستان وباكستان. وكشف الفحص الداخلي نحو عشرة من العملاء المزدوجين، يعملون لصالح باكستان. وتم النظر بريبة وشك إلى حالات أخرى. وأكدت الوكالة الأميركية أن هذه الجهود كانت جزءا من برنامج رسمي لمكافحة التجسس يديره الجنرال أحمد شوجا باشا، رئيس شعبة الجواسيس في المخابرات الباكستانية.

ويعد استعداد باكستان لتجنيد عملاء مزدوجين ضد الولايات المتحدة أمرا مثيرا للقلق على نحو خاص بالنسبة إلى البعض في وكالة المخابرات الأميركية نظرا للروابط بين باكستان وقلب الدين حكمتيار، حليف أسامة بن لادن، وشبكة حقاني، وهي فصيل تابع لحركة طالبان في باكستان وتربطها أيضا علاقة بتنظيم القاعدة.

وبالإضافة إلى مخاوفها بشأن برنامج باكستان النووي، تواصل وكالة المخابرات المركزية الأميركية الضغط على باكستان من أجل تصعيد جهودها العسكرية في وزيرستان الشمالية، وهي المنطقة القبلية التي يتمركز فيها حكمتيار وحقاني.

وتحدث ليون بانيتا، مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية، مع باشا حول علاقة جهاز المخابرات الباكستانية مع المسلحين العام الماضي، مؤكدا نفس نقاط الحوار التي ركز عليها سلفه الجنرال مايكل هايدن من قبل. وذكر مسؤول سابق بالمخابرات الأميركية أن بانيتا أخبر باشا بأنه يحتاج إلى الإجهاز على الجماعات المسلحة، بما في ذلك أفراد مثل حكمتيار وحقاني. بيد أن الولايات المتحدة لا تستطيع سوى أن تطلب الكثير من جهاز مخابرات لا تستطيع العيش من دونه.

ويمثل تجنيد العملاء لتعقب وقتل الإرهابيين والمسلحين أولوية قصوى بالنسبة إلى وكالة المخابرات الأميركية، وأحد أكبر التحديات التي تواجه الوكالة. ولا تستطيع الطائرات من دون طيار إصابة أهدافها من دون المساعدة على العثور عليها. وستكون مثل هذه الجهود مستحيلة من دون موافقة باكستان، وتدفع الولايات المتحدة لباكستان ثلاثة مليارات دولار سنويا في صورة مساعدات عسكرية واقتصادية بهدف جعل الدولة مستقرة ومتعاونة بصورة مستمرة.

وقال سي كريستين فير، الأستاذ المساعد بمركز دراسات السلام والأمن بجامعة جورج تاون، «إننا نحتاج إلى جهاز المخابرات الباكستانية، وهم يعرفون ذلك بكل تأكيد. إنهم في الحقيقة يساعدوننا في عدة مناطق مهمة ويقوضون جهودنا بصورة مباشرة في مناطق أخرى».

ولدى باكستان المخاوف الخاصة بها إزاء الأميركيين. أثناء فترة الحكم الأولى لإدارة بوش، كانت باكستان غاضبة بعد مشاركة معلومات استخباراتية مع الولايات المتحدة، حيث إنها علمت أن رئيس محطة الوكالة بالبلاد مرر هذه المعلومات إلى بريطانيا.

وتسببت هذه الحادثة في خلاف خطير، شكل تهديدا للعلاقات بين وكالة المخابرات الأميركية وجهاز المخابرات الباكستانية، وأدى إلى مزيد من التدهور في مستويات انعدام الثقة بين الجانبين. وطردت باكستان رئيس محطة وكالة المخابرات الأميركية خارج البلاد. وقال مسؤول أمني بريطاني إن هذه الحادثة كانت «قضية بين باكستان وأميركا».

ودقت موجة العملاء الباكستانيين المزدوجين أجراس الإنذار في بعض أرجاء الوكالة، وقال البعض إن ذلك لا يمثل شيئا سوى تكلفة العمل في باكستان. وقالوا إن تجنيد عملاء مزدوجين أمر قديم من قدم البشرية، وأشاروا إلى القول المأثور في عالم التجسس: «هناك دول صديقة، لكن لا توجد خدمات استخباراتية صديقة».

وقال دانيال بيمان، الخبير في السياسة الخارجية بمركز سابان بمؤسسة بروكينغز، «يعد استخدام العملاء المزدوجين شيئا لجأت إليه بانتظام وكالات المخابرات الماهرة والجماعات الإرهابية مثل تنظيم القاعدة وحزب الله والجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت وحركة نمور التاميل. فهذا الشيء لا ينبغي النظر إليه على أنه مفاجأة».

ولا تعتبر حدة التوتر مرتفعة في أي مكان آخر أكثر من المناطق القبلية الباكستانية، وهي مناطق ينعدم فيها القانون وأصبحت الخط الأمامي الذي تجري فيه ما وصفه بانيتا يوم الأحد الماضي على أنه «أشد عمليات في تاريخ وكالة المخابرات المركزية الأميركية».

وأصبحت المنطقة ما يُعرف في لغة التجسس على أنها عدد كبير من المرايا، التي لا يبدو فيها أي شيء كما هو. تجند وكالة المخابرات الأميركية أفرادا للتجسس على «القاعدة» وغيرها من الجماعات المسلحة. وكذلك الحال بالنسبة إلى جهاز المخابرات الباكستانية، حيث تقوم بتجنيد نفس الأفراد. ويعني ذلك أنه يجب على وكالة المخابرات الأميركية أن تفكر بصورة مستمرة في ولاء الجواسيس: مع الولايات المتحدة؟ أم مع باكستان؟ أم مع العدو؟

ونادرا ما استخدمت باكستان عملاءها المزدوجين لإمداد وكالة المخابرات الأميركية بمعلومات مغلوطة، أو يمكن القول إنها لم تستخدمهم في هذا الشأن على الإطلاق، حسبما ذكر المسؤولون الأميركيون السابقون. لكن هؤلاء العملاء كانوا يجمعون المعلومات الاستخباراتية حول العمليات الأميركية، وكيف ترد وكالة المخابرات الأميركية وكيف تتدفق المعلومات.

وقال مسؤولون سابقون في وكالة المخابرات الأميركية إن حداثة السن ونقص الخبرة بين جيل جديد من الضباط الأميركيين قد يسهم في الصعوبات التي تواجه العمل في المناطق القبلية، والتي تنفق فيها الولايات المتحدة مبالغ ضخمة من الأموال من أجل تكوين المصادر. وبعد الهجمات الإرهابية في عام 2001، أرسلت وكالة المخابرات الأميركية ضباطا من الشباب إلى باكستان وأفغانستان لتجنيد جواسيس في تنظيم القاعدة. وعلى نحو غير مقصود، قام الضباط الشباب في بعض الأحيان بتجنيد أفراد يعملون لدى باكستان منذ سنوات، مما حدا بباكستان إلى استخدام جواسيسها كعملاء مزدوجين، حسبما ذكر ضباط سابقون بوكالة المخابرات الأميركية.

وقال فولر إن الباكستانيين «متعمقون في هذا المجال. سيعثرون على الكثير من نفس الأفراد». ويعتقد الكثير من الضباط السابقين في وكالة المخابرات الأميركية أن نقص الخبرة بين الضباط في الوكالة قاد إلى الانفجار الذي حدث في خوست، بأفغانستان، العام الماضي، والذي أسفر عن مصرع سبعة من العاملين بالوكالة. وكانت الوكالة الأميركية تعتقد أن لديها مصدرا يمكنه تقديم معلومات حول الرجل الثاني في تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، والذي يُعتقد أنه يختبئ في هذه المناطق القبلية. بيد أن هذا المصدر اتضح أنه عميل مزدوج مسلح بمتفجرات.

ومن المفارقات، قادت وكالة المخابرات المركزية الأميركية هذا المصدر إلى خوست لأن الضباط كانوا قلقين من أن يكتشفه جهاز المخابرات الباكستانية إذا ما أحضروه إلى إسلام آباد للاستجواب، أو سيلقى القبض عليه لأنه كان مواطنا عربيا لا يحمل أية وثائق.

بيد أن الخبرة ليست دوما هي المشكلة. وكان أحد الأمثلة على أن العلاقات المشتبه بها تعرقل العمليات هو قاعدة وكالة المخابرات الأميركية في مدينة ميرام شاه النائية في وزيرستان الشمالية. عمل الضباط بالجيش والمخابرات الأميركية سويا مع جهاز المخابرات الباكستانية هناك، تحت حماية الجيش الباكستاني، الذي حافظ على إغلاق القاعدة.

وقال ضابط سابق بالمخابرات الأميركية إن وكالتي المخابرات أجرتا في بعض الأحيان عمليات مشتركة ضد «القاعدة»، لكن نادرا ما كانت هناك مشاركة للمعلومات. وكان جواسيس شبكة حقاني على علم بأن وكالة المخابرات الأميركية تعمل هناك، وتم قصف القاعدة بقذائف وصواريخ الهاون.

وقال ضابطان سابقان بالمخابرات الأميركية مطلعين على هذه القاعدة إن الأميركيين ضيعوا أوقاتهم هناك سدى. وكان مجرد الخروج من القاعدة أمرا صعبا للغاية، وأطلق عليها الجنود الأميركيون لقب «شوشانك»، وهو الاسم الذي كان يطلق على السجن في فيلم «الخلاص من شوشانك».

وأغلقت وكالة المخابرات المركزية الأميركية هذه القاعدة العام الماضي لأسباب تتعلق بالسلامة. ولم يمتد هذا التوتر من قبل إلى الرأي العام. فهذه هي طبيعة جمع المعلومات الاستخباراتية.