هيلة القصير.. سيدة «القاعدة»

«الشرق الأوسط» تتنقل في حيها الصغير.. وتلتقي بمن عرفوها عن قرب * تبنت مشروعا لتزويج الفتيات ببعض المطلوبين أمنيا في السجون * عرفت بدعمها المادي لـ«القاعدة» حتى خارج أسوار مدينتها * إيواؤها لدى إحدى الأسر جاء بتأثير من النساء لا الرجال * استغلال اشتراك إنترنت خاص بأحد الجيران للتواصل مع أفراد التنظيم

صورة خاصة بـ«الشرق الأوسط» للمنزل الذي ألقي القبض فيه على هيلة القصير واثنين من المطلوبين أمنيا قبل أشهر («الشرق الأوسط»)
TT

«المهمة المستحيلة» Mission Impossible، هنا لا نتحدث عن فيلم النجم الأميركي العالمي توم كروز الذي أخرج منه حتى الآن ثلاثة أجزاء، ولكن هذا العنوان كان هو الأقرب لجولة البحث عن هيلة القصير «سيدة القاعدة» كما أصبحت تعرف لاحقا. «الشرق الأوسط» حاولت مشاهدة «سيدة القاعدة» عن قرب وفك شفرات حياتها التي تقلبت بين أحوال متعددة تباين كل منها مع الآخر، في منطقتها القصيم، وتحديدا في مكان ميلادها إحدى قرى بريدة التي تعرف باسم «الشقة» مرورا بضاحية «الخبيبية» التي اقتيدت من أحد منازلها مع اثنين من المطلوبين أمنيا، لعلنا نجد من بين شخوصها وأماكنها بعضا من ملامح هيلة القصير (السيدة الأولى لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب) ونحن تحت سماء واحدة.

إلا أنه، والغريب في الأمر، أن يتمكن مجتمع بأسره من أن يلفظ وعن بكرة أبيه بعضا منه، فلم يعد هناك في القصيم بأسرها من عرف «هيلة» أو سمع عنها، ليتسبب الاسم رباعي الحروف في كل ذلك الذعر، الذي تجاوز صدى اسمها من قريتها والسعودية إلى العالم بأسره.

لتبدأ بعد ذلك فصول البراءة والاعتراف من قبل مجتمع يتردد بين مرارة جفاء بعض منه على اعتبار القصير جزءا من مجتمعها، وحتمية نفي الخبر الذي يمثله كل شخص يحمل أفكارها حتى وإن عز عليهم إنكار جزء منه لأبنائه.

فلم يكن للمجتمع (البريداوي، القصيمي) من حيلة في مواجهة الباحث عن هيلة القصير غير الإنكار وبالأيمان المغلظة بعدم معرفتها في يوم أو سماع اسمها أو حتى معرفة من قد يكون عرفها في إحدى زوايا الأماكن أو الساحات.

هكذا إنكار جماعي دافع به عن نفسه المجتمع «البريداوي» بنسائه ورجاله، باعتباره، وحسب رؤيته، الوسيلة الوحيدة لمواجهة الخوف من إعادة تناول اسم مدينتهم إثر خروج «متطرف أو متطرفة جديدة».

فالأقربون والأصحاب والمنازل التي ضجت بصوت هيلة القصير، التي ما فتئت تقدم التهاني والتباريك لكل أسرة تفقد أحد أبنائها في أي من مناطق الاضطراب كالعراق واليمن أو في المواجهات الأمنية السعودية، والتي اشتهرت بنشاطها الاجتماعي من خلال دورياتها الشهرية. الجميع (اليوم) بات لا يعرف عنها شيئا وهي خلف «القضبان».

البحث عن هيلة القصير سواء أكان بين مجالس النسوة وزلات أحاديثهن، أو إن كان تجوالا عبر الطرقات ذاتها التي شقتها ربما بأقدامها تارة وبسيارة تارة أخرى، هو بلا ريب محاولات مضنية و«مهمة مستحيلة» لفهم «هيلة» والاقتراب منها أكثر عبر ناسها وأحبابها لعلنا نرى ما رأته حينها ونسمع ما سمعته، فكيف بالحديث عن «سيدة»، في مجتمع لا يزال يعاني من وطأة بعض التقاليد التي تمنع الإفصاح عن أسماء «نسائه» في أحوال اعتيادية، فكيف والحديث اليوم تجاوز حدود الاسم إلى تفاصيل حياة سيدة دعمت تنظيم القاعدة بالتمويل والتجنيد.

* من ضاحية «الخبيبية» كانت البداية

* من أقصى غرب مدينة بريدة، «ضاحية الخبيبية»، التي تنسب نشأتها إلى الشيخ فهد بن عبد العزيز العشاب، التي تعد التكوين الأول لجماعة زهاد بريدة ممن هجروا الحياة المدنية ومنتجاتها، بدأت قصة هيلة القصير مع نهاية أدوارها.

المتتبع لحياة «هيلة القصير» التي تخرجت في كلية التربية قسم الجغرافيا في منطقة القصيم، وعملت بعدها كمشرفة مصلى في إحدى مدارس بريدة الأهلية، لا يمكن أن يغفل عن المحطة الأهم التي عبرت عنها القصير، التي كانت باقترانها من أحد أشهر زهاد ضاحية «الخبيبية» الذي عد أحد معالمها السياحية عبد الكريم الحميد.

«منهج الزهد» كما أطلق عليه أتباعه هو ما جذب هيلة القصير للحميد الذي بقي رافضا لكل ما أنجبته الحضارة المادية من المباحات، إلا أنه وفي ظل صمت الشهود الذي أعاق محاولة فهم «هيلة» يبقى السؤال عن مدى تأثير منهج الزهد الذي اتخذه بن حميد وعاش به فترة من الزمن مع القصير قبيل انفصالهما، على ما اعتنقته من معتقدات، أمرا مبررا في ظل احترام وتفهم شعبي واسع من قبل سكان المدينة لمنهج «الزهاد» حتى اللحظة.

من مقال عبد الكريم الحميد «الوعيد على أهل الغلو والتشديد» الذي كتبه عام 1427هـ (2006)، يظهر جليا حجم الصراع الذي عانت منه هيلة القصير أثناء زواجها بابن الحميد؛ فلم تكن مسألة الامتناع عن استعمال النقود والاستفادة من الكهرباء وانتعال الحذاء وركوب السيارة وكافة المنجزات العصرية المادية المباحة إلى جانب الاكتفاء ببيت من طين، قضية «زهد»، وإنما أخذت بعدا عقائديا وإيمانيا، من حيث التحليل والتحريم، وكما ذكر بن حميد «يقال له ما مرادك بالغلو؟ فإنه سيقول مجاوزة الحد والزيادة في التشدد، فيقال له هل تعني مجاوزة الحد مجاوزته من عرف أهل الزمان وعاداتهم وأهوائهم أو مجاوزته عما كان عليه الرسول الكريم وصحابته، قال: مجاوزته عما كان عليه النبي وصحابته، يقال له هذا دليل هذه المسألة، فكيف تقول إن ذلك غلوا ومجاوزة للحد وتشديدا؟ فأنت مفتر وكاذب»، ويعود بن حميد ويقول: «لم نؤمر بأن ندور مع الأزمنة وأهلها حيث داروا، وإنما أمرنا بالتمسك بهدي النبي وصحابته».

ويتابع عبد الكريم الحميد في ما كتبه عن الغلو والتشدد: «نعم الدين الوسط وخير الأمور ما كان عليه النبي وصحابته، وهو فعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، وهذا هو الوسط الذي أمرنا به. أما إذا زعمت الوسط ما تهواه نفسك وما تود أنت وأهل وقتك، فأنت مشرع في الدين ما لم يأذن به الله، كذلك قادح في ما عليه الرسول والصحابة والسلف» انتهى الحديث.

مع ذلك، لا يمكن اختزال أهمية محطة ضاحية الخبيبية بالنسبة لحياة القصير في الحميد فقط، وإنما كان للضاحية، التي اقتيدت منها إلى مكان اعتقالها حاليا، بعدا بارزا؛ فالحي السكني الذي يقطنه أكثر من 5 آلاف نسمة مجملهم من السعوديين وما يقارب 1000 وحدة سكنية، يتمتع بنمطية مختلفة.

فإن كنت تتحدث عن موقع كان يرجم فيه حامل السيجارة ومستمع الأغاني بالحجارة، فأنت بالطبع تقصد الخبيبية. وإن كنت تسمع عن رجل يعمد إلى تغطية وجهه بشماغه في حال رأى سيدة منقبة، فهو تحديدا في تلك الضاحية. كما أنها بقيت ترفض باستمرار دخول الوافدين إليها من العمالة؛ إذ كانت تضطر من تعمل في مدرستها الابتدائية الترجل من سيارتها وإكمال الطريق سيرا على الأقدام مع مجرد بلوغ أبواب الحي، الذي أحد أبرز تناقضاته، مدرسة ابتدائية حملت اسم «ابن حزم الأندلسي» صاحب أشهر الكتب التي تحدثت عن الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه، «طوق الحمامة».

* من أمام منزل المعتق

* بعد عملية بحث مضنية استمرت أياما، تمكنا أخيرا من الوقوف أمام منزل المعتق في ضاحية الخبيبية، المنزل الذي شهد تطويقا أمنيا كبيرا طال الحي بأسره، للقبض على اثنين من المطلوبين لدى الجهات الأمنية وبالطبع هيلة القصير التي كانت حينها برفقة ابنتها الوحيدة.

صمت مطبق وريبة يواجه بهما كل من يدخل الخبيبية، وتحديدا موقع مسكن «المعتق»، حتى إنه لتنهال عليك أسئلة لا تنتهي عن سبب مرورك ووجودك، من قبل أفراد الحي، وكأن الأدوار تتبدل.

إلا أنه، ولحسن الحظ، باتت طفلة هيلة القصير مفتاحا لالتقاط بعض المعلومات عن السيدة التي أحيطت بـ«هالة» من الغموض الرسمي والشعبي، التي اعتادت على الخروج للعب أمام المنزل مع من جاورها سنا من الفتيات.

وما عجزت شجاعة الكبار عن البوح به، تمكنت براءة الأطفال من سرده، فالطفلة «ح ع» التي تقطن مع أسرتها بجوار منزل «المعتق» تحدثت بفصاحة كبيرة خلال حديثها مع «الشرق الأوسط» عن مشاهدتها مرارا هيلة القصير في منزل المعتق الذي سكنت فيه فترة من الزمن قائلة: «كانت هيلة القصير غالبا ما تبقى في الطابق العلوي في غرفتها وحيدة أثناء قدومي للعب مع رفيقاتي من أسرة المعتق»، مضيفة: «لم تكن هيلة القصير تسمح لابنتها بزيارة أحد من الجيران وإنما تكتفي بلعبها أمام المنزل»، متابعة حديثها: «لم يكن في المنزل جهاز تلفاز».

«أبو علي» أحد ملاك المنازل المجاورة لمنزل «المعتق» كشف في حديثه لـ«الشرق الأوسط» عن استغلال هيلة القصير والمطلوبين أمنيا اشتراك الإنترنت اللاسلكي الخاص به، لتسهيل عملية تواصلهم مع أفراد التنظيم في خطوة لتضليل الرقابة الأمنية، وهو لم يحرص على حظر الشبكة باستخدام رقم خاص، مستبعدا فرضية استغلاله في يوم من قبل أعضاء تنظيم القاعدة، وأضاف: «لم أشاهد يوم خروج المطلوبين أمنيا أثناء أداء إحدى الصلوات»، إلا أنهم «من جهة أخرى قاموا بتوفير جهاز رياضي للجري في فناء المنزل، الذي تظهر أهميته في الجانب اللياقي لأفراد منعوا أنفسهم من الحركة خارجا»، لتقاطع حديثه ابنته الصغرى: «كنت أشاهد باستمرار إحدى البنات تجهز طعاما لأخذه إلى إحدى أجنحة المنزل».

* هيلة القصير ونشاط التمويل والتجنيد

* على الرغم من انتماء هيلة القصير لمنطقة القصيم، فإن نشاطاتها في عملية التمويل والتجنيد لأعضاء تنظيم القاعدة بحسب التهم التي وجهت إليها لم تقتصر على حدود منطقتها وتحديدا بريدة، وإنما أيضا، وبحسب مصادر أمنية مطلعة، كان لها نشاط في عملية جمع الأموال من خلال الادعاء بالقيام بمشاريع خيرية كبناء مساجد وتقديم صدقات وزكاة المال، وامتد إلى مدينة الرياض التي كانت الأبرز في عملية الجمع المالي، بحسب أحد المصادر الأمنية، حيث كانت تتقصد الأسر ميسورة الحال ومن خلال الاتصالات الهاتفية بالحث على تقديم الصدقات والزكاة وتبرعها هي شخصيا بإيصالها لمستحقيها.

إلا أنه وبعد أن ربطها بن حميد بمدينة بريدة وبالخبيبية، إذا بها تنتقل إلى الرياض باقترانها بمحمد الوكيل الذي قتل 1425هـ (2004) في مدينة الرياض في مواجهات بحي التعاون بعد مشاركته في تفجير قرب مقر وزارة الداخلية ومقر قوات الطوارئ الخاصة، وكانت القصير وقتها حبلى في شهرها الخامس وأنجبت منه الطفلة «رباب»، وهو الذي لعب دورا بارزا في تقريبها من أعضاء التنظيم.

هيلة القصير كما عرفت في محيطها لم تكن لتغب عن منزل فقد أحد أبنائه، سواء أكان بالقتل أم بالأسر في أحد مواقع الاضطراب للدول المجاورة كالعراق واليمن أو خلال المواجهات الأمنية السعودية، فلم تكن لتتوانى عن دخول منازل من قتل أحد أبنائها بالزغاريد والتهاني محملة بالورود حينا وبالحلوى حينا آخر، مع إلقائها الأناشيد في تعبير عن درجة الشهادة التي فاز بها وبلوغه جنة الفردوس.

وعلى الرغم من نشاطها الذي أعلنت عنه الجهات الرسمية في عملية التمويل الذي بلغ تقديم مليوني ريال، بالإضافة إلى تجنيد ما يقرب من 60 فردا، يبقى النشاط الأبرز لـ«القصير»، والحديث هنا نقلا عن من التقت بهم «الشرق الأوسط» من شهود مقربين، هو مشروع تزويج فتيات بمعتقلين من أفراد التنظيم في السجن، وإن كان زواجا مؤقتا، الذي لم يسمح لها الوقت بالمضي فيه قدما، فاقتصر مشروعها على تزويج إحدى فتيات دور تحفيظ القران بأحد المعتقلين.

* هيلة القصير وأسرة «المعتق»

* بدأت علاقة «القصير» بنسوة المعتق منذ ثلاثة أعوام في حي الخبيبية، وتمكنت من فرض نفوذ نفسي ومعنوي على نساء الضاحية هو الأكثر جدلا في بريدة، من خلال دوريات شهرية تجتمع فيها مع نساء الحي، بحسب رواية بعض الشهود.

إلا أن أبرز ما تجلى من خلال حديث «الشرق الأوسط» مع أحد من ربطتهم القرابة والصداقة بالمعتق، أن إيواء هيلة القصير مع اثنين من المطلوبين لدى الجهات الأمنية وهما «الرشودي» و«الغامدي» بحسب ما ذكر، كان من طرف النسوة وليس الرجل، فكما قال «م المعتق»: «كانت زوجة المعتق تتمتع بشخصية قوية على عكس ابن عمي، الذي كنت التقي به أسبوعيا فلم تظهر عليه أي من بوادر التشدد والغلو الديني»، مضيفا: «زوجته هي من أقنعته باستقبال هيلة القصير».

إلا أن المعتق في العقد الرابع من عمره، الذي كان يزاول العمل الحر، سرعان ما تبدل خلال فترة زمنية، بحسب ما لاحظ عليه ابن عمه، فلم يعد حريصا على الاجتماع العائلي، إضافة إلى كثرة انتقاداته الدينية وتطرقه للشؤون والقضايا السياسية. تجدر الإشارة، وبحسب ما توفر من معلومات لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن أحد أشقاء المعتق قتل في العراق، وسجن شقيق آخر 8 أشهر على خلفية تهم أمنية.

وكما قيل: «في البدايات تكمن النهايات» التي تعددت بالنسبة لـ«هيلة القصير» من بن حميد الزاهد، والوكيل الذي قضى في إحدى المواجهات الأمنية وحتى بداية نهاية اعتقالها مؤخرا، تبقى «قصة هيلة» رواية لم تغلق، فكل من «الوقت وهزائم تنظيم القاعدة» عاملان كفيلان بفك كثير من شفرات حياتها مستقبلا.

* جهاد النساء

* يا كان زوج «القصير»؛ زاهدا أم «عنصرا» فاعلا في التنظيم، فلا ينفي ذلك نظريات تطرف وتشدد «القصير» قبيل الارتباط بأحدهما، فالمعتقدات لا ينقصها سوى العاطفة الأنثوية التي؛ إما أن تدمر أو تبني ما حولها. مشاركة النساء في تنظيم القاعدة لم تكن بالأمر الحديث ضمن أبجديات التنظيم، التي تحدث عنها مبكرا أبرز قياديي ومنظمي التنظيم يوسف العييري، الذي قتل في مواجهات أمنية عام 2004، في كتاب نشره عنوانه «دور النساء في الجهاد» باسم عبد الله الزيد. وعلى الرغم من مناهضة الرجل الثاني في التنظيم أيمن الظواهري للمشاركة النسوية في عمليات «القاعدة»، وخروج زوجة بفترة وجيزة لشحذ همم النساء على الجهاد والاقتداء بالصحابيات، فإنه يظهر للمتابع تخبط التنظيم في حل شأن الفتيا، وأنه، فقط مؤخرا ومن خلال اعتراف التنظيم بسيدة القاعدة «هيلة القصير»، انقشعت الضبابية حول مشاركتها، التي لطالما حافظ عليها التنظيم كسلاح في وقت الكساد، الذي منه يظهر تباينا كبيرا مع أدبيات الجماعات السلفية التي ترفض الدور الخارجي للمراة.