تركيا تستعد للاستفتاء: تركيا تتعلم «العربية».. وتتقدم شرقا بالتحالف مع الجغرافيا والدين

الباحث كورأوغلوا: لم نستعمر العالم العربي.. وحكومة أردوغان تلبي رغبة الشعب بالتواصل مع إخوانه المسلمين

الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى ووزراء الخارجية التركي أحمد داود أوغلو والسوري وليد المعلم والعراقي هوشيار زيباري على هامش أحد اجتماعاتهم في اسطنبول (أ.ب)
TT

في الحلقة السادسة من ملف «تركيا على مفترق: العلمنة أو الأسلمة»، تعرض «الشرق الأوسط» للاتجاهات التركية الحديثة نحو العالم العربي، التي تحكمها عوامل الدين والتاريخ والجغرافيا. وإذا كان الجغرافيا والدين يشفعان لتركيا دورها القديم والحديث في المنطقة، فإن التاريخ لا يسعفها كثيرا، بما فيه من محطات غير مشرقة في العلاقات بين التركي «المُستعمِر»، والعربي «المُستعمَر»، خصوصا في بلاد الشام التي شهدت الكثير من الثورات والقلاقل ضد الحكم التركي، فدخلت عبارة «التركي» في القواميس العربية غير الإيجابية عند الحديث عن «التسلط والاستبداد.. والفرمانات».

يقول الباحث في الشؤون التركية الدكتور محمد نور الدين في كتابه «حجاب وحراب» إن العرب والأتراك جمعت بينهم رابطتان، هما الأرض والخلافة: الأولى ذهبت مع نهاية الحرب العالمية وهزيمة الدولة العثمانية، والثانية ولت أيضا بإلغائها وإقامة الجمهورية التركية في عام 1923؛ وهو ما أدى إلى فك ارتباط دام بين الطرفين طيلة 4 قرون.

واليوم، تستعيد تركيا نظرتها إلى العالم العربي، الذي اتهمته بالخيانة في الحرب العالمية الأولى، لتحالف قادته مع الإنجليز وغيرهم في مواجهة الجيوش العثمانية، ويعرف قادة حزب العدالة والتنمية مدى حساسية هذا التاريخ، فيتجنبون الحديث عن «العثمانية الجديدة» في قواميسهم السياسية لأنها «تحمل حساسيات كبيرة» كما يقول مستشار رئيس الحكومة التركية إبراهيم قالنن فيما يمازح مساعد أردوغان للشؤون الخارجية سعاد كينيكلي أوغلو بالقول إن شعبية رئيس حكومته كبيرة جدا في العالم العربي إلى درجة أنه لو ترشح للرئاسة في أي بلد لفاز بها، في إشارة إلى العلاقات العربية التركية بعد حادثة «أسطول الحرية»، وقبلها «تأنيب» أردوغان للرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في مؤتمر دافوس.

* زائر تركيا في هذه الأيام، يلمس بوضوح الاهتمام التركي بكل ما هو عربي، وهو اهتمام يتجاوز «الملفات الأخرى» التي يتحدث عنها المسؤولون الأتراك للإشارة إلى السياسة الخارجية الجديدة في البلقان والقوقاز وغيرها.

ويتحدث كبير مستشاري الرئيس التركي إرشاد هورموزلوا عن تاريخ العلاقات العربية التركية، فيرى أنه «يحفل بالعديد من المناقب إن لم يخل من مظاهر التوتر»، لكنه يشير إلى «أن محاولات تفخيخ العلاقات العربية التركية التي يتبناها مخربون يسعون للنيل من تلك العلاقات تحاول دائما إنكار الإيجابيات والتركيز على السلبيات‏،‏ وهناك للأسف تيار من المثقفين على الجانبين يتبنون هذا الموقف غير الحكيم حتى ترسخت لدى قطاع كبير من شعوبهم صور ذهنية نمطية سلبية متبادلة»‏.‏ ويؤكد هورموزلوا أن «التخوين المتبادل بين العرب والأتراك مفتعل وليس له أساس منطقي وتروجه جهات لا تريد التقارب بين العرب والأتراك‏».‏ ويقول: «كانت العاصمة إسطنبول خلال أيام السلطنة العثمانية تحفل بالمفكرين والمبدعين العرب والعجم الذين قدموا الكثير للإسلام والمسلمين،‏ وربما تكون قد انحرفت عن مسارها في بعض الأوقات‏.‏ وقد كان العرب يحظون بمكانة مميزة وتقدير خاص من قبل العثمانيين بل والأتراك عموما حيث يسمونهم‏‏ (القوم المجيد‏)‏ لأنهم قوم النبي وصحابته الأطهار»‏.

ويشير الباحث التركي، برهان كورأوغلوا إلى أن «هناك نقاشا حارا يدور حاليا في تركيا بين المثقفين والصحافيين، حول ما إذا كان محور تركيا يتغير من الغرب إلى الشرق»، معتبرا أن «هذا السؤال يطرح أيضا في الغرب بقوة، وكذلك في إسرائيل». موضحا أن الكثير من المشكلات حصلت بين تركيا وإسرائيل، وقد حصل الكثير منها في العام الحالي آخرها حادثة الأسطول، وكلما حصل شيء ينطلق النقاش هناك حول ما إذا كانت تركيا تخلت عن الغرب والتحقت بـ«الشرق المتخلف». وعما إذا كانت حكومة العدالة والتنمية تخلت عن الطابع الغربي للدولة التركية. يقول كورأوغلوا: «إذا نظرنا إلى تاريخ تركيا، لا نستطيع أن نقول أن محورها كان الغرب وحده، فقد كانت هناك الكثير من الاتجاهات. في أيام العثمانيين كانت تركيا موجودة في نصف أوروبا وفي آسيا وأفريقيا. وتحديث المؤسسات التعليمية كان قائما، حتى في عهد السلطان عبد الحميد الثاني الذي كان يحاول أن يحدث النظام التعليمي منذ فترة طويلة، ومع ذلك كان رجلا ملتزما التعاليم الإسلامية ويحاول توحيد العالم الإسلامي بوسائل مختلفة».

وكانت تركيا قد تخلت عن «الحرف العربي» وتخلت عن الإسلام دينا رسميا للدولة، وأوغلت في علمانيتها حتى مجيء حكومة «العدالة والتنمية» التي يبدو أنها تحاول «تعديل» الاتجاه التركي، ويرى كورأوغلوا أن «ما حدث في بدايات الجمهورية التركية من اتجاه إلى الغرب كان فيه مبالغة في الاتجاه إلى الغرب ولم يقبل من الشعب التركي بشكل كبير»، مشيرا إلى «الصدام الدائم بين النخب المتغربة والاتجاه الطبيعي للأمور». ويقول: «منذ الأربعينات حصل ضغط على الشعب لتغيير اتجاهه ورفض من الشعب للتغيير. لذلك كلما صعدت قوة سياسية تلبي طموحات الشعب وجدت ترحيبا منه في الانتخابات، ودائما كانت هناك قوة عسكرية نشطة تتدخل لصد الرغبة الشعبية. وأخيرا وصلنا إلى حد من الصدام فحصلت عدة انقلابات، لكن الآن أصبحت الأرضية صلبة بحيث أن النخب المتغربة لم تعد تمنع هذه الرغبة الأصيلة عند الشعب. والحكومة تتماشى مع هذه الرغبة، لكنه في الوقت نفسه تستمر في المسيرة الديمقراطية. وهذه النخب المتغربة لم تكن ترحب بالديمقراطية، لأنهم كانوا يضعون أنفسهم فوق الشعب. أما حكومة أردوغان فهي كانت دائما تقول إنها في خدمة الشعب، والشعب يريد أن يتواصل مع إخوانه المسلمين في المنطقة، ويريدون أن يعيشوا حياة كريمة ويتطوروا علميا وصناعيا».

ويوضح كورأوغلوا أن «تركيا بعد الحرب الباردة تريد أن تلعب دورا فاعلا أكثر، ولا تريد أن تكون فقط همزة الوصل بين القطبين الغربي والشرقي، هي تريد أن يكون لها دور في المنطقة كما كان في الماضي خلال أيام الدولة العثمانية، فالدولة العثمانية حية جدا في ذاكرة الشعب التركي. فقد كان لها دور شريف وتقيم العدل، فعندما كانت تحصل المشكلات في الغرب بين دولة ضعيفة وأخرى قوية، كانت تتدخل لصالح الدولة الضعيفة المظلومة. وهذا الشعور بالانحياز إلى العدالة ما يزال موجودا إلى الآن في ذاكرة الشعب التركي. وعندما نسمع بأي مشكلة تحصل في غزة، نتأثر. وما قام به أردوغان هو أنه استمع إلى وجدان شعبه ويقوم بواجبه». ويعرب عن رفضه لفكرة أن «تركيا تغير محورها، بل العكس، تركيا تعود اليوم إلى أصلها، فالمحور المتجه إلى الغرب كان ضعيفا، والمحور الصحيح يترسخ الآن. والذي هو عبارة عن علاقة متزنة مع الشرق، وعلاقة قوية مع الشرق». مضيفا إلى ذلك «أن الغرب لم يعد قويا كما كان في الماضي، فأوروبا لم تعد كما الماضي اقتصاديا وعسكريا واستراتيجيا، وتركيا تعي هذا الشيء، وتحاول أن تستغل موقعها الاستراتيجي. فبدلا من أن تستقبل الدور الذي خطط له، تريد أن تخطط للدور الذي تريده، وتريد أن تستغل تاريخها الذي يعود لألف سنة». ويقول: «تذهب إلى لبنان فتجد من يقول إن أصوله تركية وكذلك في أفريقيا، أما في تركيا ففي مقابر الشهداء أناس من حلب ودمشق وبيروت وطرابلس، هؤلاء دافعوا عن الوطن، والوطن هذا كان للجميع. في الأردن ثمة شهداء أتراك حاربوا ضد الإنجليز، وجداي الاثنان حاربا في اليمن، وهذا يدل على أننا كنا نحارب عن نفس الوطن، وهذا قبل أقل من 100 سنة. كذلك هناك المصالح المشتركة، فعندما رفعنا الإجراءات الحدودية مع الدول العربية ازداد عدد القادمين إلى تركيا من العالم العربي أكثر من 50 في المائة. قبل 10 سنوات كنت أخاف عندما أزور سورية، أما اليوم فأمشي فيها كأنني في المدن التركية، بل ربما أفضل، فعندما كنت في سورية المرة الماضية تأخرنا على الصلاة في المسجد الأموي فأقفل الباب، لكن عندما عرفوا جنسيتنا، قالوا: (جاء الأتراك هيا افتحوا الباب)». ويرى أن «أكثر الناس انزعاجا من هذا الواقع هو إسرائيل بالطبع، كذلك الدول العربية التي تخاف من هذا الاتحاد إذا حصل، الاتحاد في التعاطف مهم جدا ويخيف الغرب. هناك حالة انفصام في الغرب من وحدة المسلمين».

ويشير إلى أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان «لم يفكر في الاتجاه إلى العالم العربي في السنوات الماضية، بل هو كان يفكر في هذا منذ أن كان عمره 15 سنة»، ويقول: «أنا شخصيا عندما كنت أقرأ عن التاريخ العثماني وتاريخ المنطقة قلت لنفسي إنني لا بد من أن أتواصل مع هؤلاء، فنحن في نفس المنطقة ولدينا نفس الدين والتاريخ والثقافة، فما الذي يمنعنا من التواصل؟ هذا الأمر موجود في طبيعة كل شخص منا، وعندما يصل إلى السلطة يبدأ التنفيذ كما هي الحال الآن».

الأسئلة التي يطرحها العرب عن أسباب الدخول التركي إلى المنطقة مجددا، وهل لديها أهداف استعمارية؟ يراها كورأوغلوا «في غير محلها»، فتركيا كما يجزم «لا توجد لديها أهداف استعمارية»، ثم يوغل في إنكار هذه الأهداف الاستعمارية إلى درجة نفي وجود «الاستعمار» من الأساس، قائلا: «لم يكن لديها أهداف استعمارية في الماضي. فالكلام عن أن تركيا استعمرت العالم العربي 400 سنة غير صحيح. هذه أطروحة استعملت فترة من الزمن من أجل أن تجد مشروعية للدول القومية في المنطقة، وتركيا نفسها استعملت فكرة أن العرب خانوها، لتجد مشروعية للدولة القومية. ما حصل هو أن دولا استعمارية أتت إلينا من الخارج وفصلوا بيننا ليستعمرونا. استعمروا العالم العربي، واستعمروا تركيا وفصلوا بيننا. وهذا الفصل أفاد الغير، فلا تركيا استفادت ولا العالم العربي. هناك 23 دولة عربية، لكن لا يوجد أي تأثير للدول العربة على الساحة الدولية. لكن عندما يكون هناك مثلا، تواصل بين تركيا وسورية يستفيد الطرفان».

* التقارب التربوي: الطالب العربي بثلث قسط التركي

* وقد انعكس هذا التقارب التركي - العربي في المجال التربوي، حيث بدأت إسطنبول تستقبل أعدادا متزايدة من الطلاب العرب الذين يحظون بمعاملة خاصة، فيدفعون ثلث القسط المتوجب على الطالب التركي، بالإضافة إلى تشجيع رسمي للطلاب الأتراك للذهاب إلى الدول العربية لتعلم اللغة العربية بشكل أساس. ويقول كورأوغلوا الذي يدرس العلوم السياسية في جامعة مرمرة إنه «منذ أقل من سنة قررنا الانفتاح على العالم العربي، فكنا نأخذ ثلث القسط من الطالب العربي ونقدم لهم المنح. لم يكن لدينا أي طالب عربي، أما هذه السنة فسيكون لدينا نحو 100 طالب، وفي المقابل ازداد عدد الطلاب الأتراك في العالم العربي عشرات المرات. وخلال 4 أو 5 سنوات سيكون هناك آلاف الأتراك الذين يتكلمون العربية. علاقتنا مع الغرب قوية ونحن نعرف الإنجليزية، فلماذا لا نتعلم العربية، ويتعلم العرب التركية؟ الانفتاح موجود من الطرفين، ويدل على مستقبل مشرق».

* الانعكاسات السياحية: انخفاض إسرائيلي.. وفورة عربية

* انعكست المواقف التركية الأخيرة من قضايا العالم العربي، والعداء المتنامي في الأوساط التركية لإسرائيل، بالإضافة إلى عوامل أخرى «فورة» لا سابق لها في السياحة العربية إلى تركيا، والتي قالت مصادر في وزارة السياحة التركية إن تقديراتها لحجم الزوار العرب إلى تركيا يقارب 3 ملايين شخص خلال العام الحالي، في مقابل انهيار لافت في عدد السياح الإسرائيليين من 500 ألف سائح سنويا إلى نحو 40 ألفا هذا العام.

ويشير صاحب إحدى وكالات السفر التي تعمل على خط العالم العربي إلى أنه قد دخل إلى تركيا في عام 2009 حدود 26 مليون سائح، وكان الدخل يقارب 23 مليار دولار. لكن بعد الأزمات المالية التي واجهتها دول العالم تأثرت السياحة. مشيرا إلى أن تركيا تأمل استعادة حركة السياحة لتصل إلى 30 مليون سائح، والمجموع الدخل بحدود 29 مليار دولار. موضحا أن نصيب عدد السياح من الدول في المرتبة الأولى روسيا (5 ملايين) ثم ألمانيا (4 ملايين)، ومشيرا إلى أن عدد السياح من إسرائيل لا يزيد عادة على 500 ألف سائح، وهي نسبة ضئيلة جدا، لكنها بعد مؤتمر دافوس قلت إلى نحو 300 ألف سائح، وبعد حادثة الأسطول انخفض العدد إلى درجة كبيرة جدا بحيث لم يتجاوز العدد الـ40 ألف سائح. موضحا في المقابل أن زيادة السياح العرب إلى تركيا بدأت منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

ووفقا لأرقام رسمية سورية، فإن عدد المواطنين السوريين الذين دخلوا إلى تركيا هذا العام وحده يقارب الـ500 ألف شخص، فيما لا تهدأ حركة الطيران بين بيروت وإسطنبول التي يصل عددها إلى 7 رحلات يومية.