رجال الأعمال الصينيون في جنوب آسيا يراقبون بعيون تملأها الشكوك والريبة

ثراء الصين يولد الحسد ويوغر صدور البعض ضدها بيشكيك (قرغيزستان): أندر هيغز*

TT

في غمرة العنف الذي شهده ربيع العام الحالي، أسقطت الجموع الغاضبة الرئيس القرغيزي، وأضرموا النار في مكتبه، ونهبوا المباني الأخرى المرتبطة بنظامه الشمولي. ثم انتقلت هذه الحشود فيما بعد إلى هدف أقل وضوحا، تمثل في المركز التجاري المملوك لرجل أعمال صيني، ومليء بالملابس والأجهزة الإلكترونية الرخيصة.

تدافعت الحشود الغاضبة المسلحة بالقضبان الحديدية والهراوات إلى مركز جوينغ في منتصف الليل لتنهب وتحطم، ثم تحرق أهم رمز للتواجد الاقتصادي الصيني في عاصمة هذه الدولة الملتهبة في وسط آسيا.

ويروي هي شنغيو، مالك المتجر قائلا: «لم يكن هناك ما يردع هؤلاء الأفراد». لم يستطع شنغيو سوى أن يتوارى بعيدا عن الحشود خلال الهجوم، وأمر الحراس الأمنيين بعدم المقاومة، وفضل التواري عن الأنظار حتى لا يصبح هدفا هو الآخر.

وما يدفع الصين للتوسع خارج حدودها بحثها عن أسواق ووظائف ومكانة أكبر في الشؤون العالمية، إلا أن هذه الدولة، التي تتباهي بأن لها أصدقاء في كل مكان، بدأت في مواجهة المشكلة ذاتها التي تعاني منها الولايات المتحدة منذ وقت طويل، وهي أن ثروتها ونفوذها ربما تعززان من هيبتها، لكنهما في المقابل تولدان الحسد، وفي بعض الأحيان العداء العنيف.

منذ الهجوم على جوينغ في أبريل (نيسان) تعرض العشرات من الرعايا الصينيين في العاصمة بشكيك إلى الاعتداء والسرقة. ففي أغسطس (آب) اقتحم اللصوص متجر تاتان، مركز التسوق الصيني الضخم في العاصمة، واستهدفوا خزائن أكثر من عشرة من التجار الصينيين، واستولوا على ما يقرب من 500 ألف دولار. وفي اليوم التالي تجمع التجار الصينيون الغاضبون خارج المركز التجاري للسرقة، وكتبوا قائمة بأعمال الضرب والسرقة والهجمات والاعتداءات الأخرى التي تعرضوا لها خلال الآونة الأخيرة.

ويقول تشي ين تشنغ، الذي يرأس اتحاد التجار الصينيين في قرغيزيا، ويعمل بتجارة الأبواب الخشبية المستوردة من الصين إنه خسر 10 آلاف دولار في سرقة المتجر، مشيرا إلى أن: «الأوضاع صارت بالغة الصعوبة بالنسبة للصينيين هنا».

عادة ما يُنظر إلى رجال الأعمال الصينيين أيضا في إندونيسيا وأماكن أخرى في جنوب آسيا بعيون تملؤها الشكوك والريبة، وغالبا ما يُستهدفون في أوقات الاضطرابات. لكن إذا كانت ما يتعرض له أقرانهم هنا في بشكيك ومناطق أخرى من العالم يعتبر ظاهرة جديدة. فهم لم يصلوا إلى هذه المناطق قبل أجيال طويلة، عندما كانت الصين لا تزال ناشئة، بل جاءوا إلى هنا العقد الماضي مع ازدهار الصين.

اهتمام الصين بوسط آسيا راجع إلى الاقتصاديات؛ فالمنطقة تحوي عددا كبيرا من الموارد الطبيعية، والأمن، حيث تشترك قرغيزستان بحدود طولها 536 ميلا مع إقليم تشنغ يانغ الصيني المضطرب، الذي يرتبط سكانه من المسلمين الأويغور بعلاقات وثيقة مع إخوانهم على الحدود.

وعلى الرغم من صغر وفقر قرغيزستان ووعورة تضاريسها (عدد سكانها 5.3 مليون نسمة)، فإنها أصبحت المنطلق الأول لإعادة التصدير في المنطقة. فطريق التجارة المزدوج كله محمل بالبضائع الصينية المستوردة، التي وصلت إلى 9.3 مليار دولار في عام 2008، بحسب إحصاءات الجمارك الصينية، وهو ما يكافئ ضعف قيمة الناتج المحلي الإجمالي لقرغيزستان، وقد تراجعت التجارة خلال العام الماضي، لكنها عادت إلى الارتفاع مجددا.

رحب البعض بتعزيز التواجد الصيني كموازن لروسيا، حاكمة المنطقة المهيمنة والتقليدية، التي استولت على قرغيزستان في القرن التاسع عشر، وصارت قرغيزستان جمهورية سوفياتية، حتى انهيار الشيوعية عام 1991.

ويروي إيدل بايسالوف، الناشط في حقوق الإنسان، ويعمل كبير موظفي رئيسة قرغيزستان روزا أوتونبايفا، بسعادة، الاجتماع الذي تم بين سفيري روسيا والصين؛ عندما صدم السفير الروسي بترحيبه بالمبعوث الصيني باللغة الصينية، وقال بايسالوف، الذي يتعلم اللغة الصينية: «كان ينبغي أن ترى وجه السفير الروسي. لقد كانت تلك طريقتي في إخباره عن المستقبل».

بيد أن آثار الماضي لا تزال واضحا هنا في بشكيك، فبايسالوف، كغالبية مثقفي قرغيزستان، غالبية حديثه باللغة الروسية، ولغته الإنجليزية أفضل كثيرا من اللغة الصينية، كما تهيمن شركة «غاز بروم»، الخاضعة لسيطرة الدولة الروسية على تجارة الوقود المحلي.

على الجانب الآخر، تعرضت الصين لعدد من العثرات القوية؛ فمشروعها العملاق الأول في قرغيزستان، مصنع الورق الممول بقروض ميسرة، استغرق ثماني سنوات للشروع في إنشائه. وبعد ثلاث سنوات من افتتاحه عام 2002 تعرض المصنع للإفلاس، وسط مزاعم بالكسب غير المشروع والعمالة الصينية غير القانونية.

إضافة إلى ذلك لم تحقق الصين نجاحا لافتا في مبادراتها الدبلوماسية في المنطقة، مجموعة الدول التي تشكل منظمة تعاون شنغهاي، ويرى ألكسندر كولي، العالم بجامعة كولومبيا الذي درس المنظمة، أن المنظمة التي تأسست عام 2001 لمحاربة التطرف، وتكون مكافئا للنفوذ الأميركي، وقد لقيت إشادة كبيرة، لكنها لم تحقق نتائج ملموسة على أرض الواقع. وقد شاركت الصين كعضو في منظمة شنغهاي، ودعمتها في بادئ الأمر بحيوية بالغة، لكنها عادت لتتراجع عن الدعم، حيث اعتبرت المنظمة أداة لطموحات صينية.

من ناحية أخرى، أثار الوجود الاقتصادي الصيني امتعاضا مريرا بين الكثير من القرغيز من العاطلين عن العمل، إلى التجار المحليين والمصنعين غير القادرين على منافسة البضائع الصينية. ويذكر التقرير الذي أصدرته المؤسسة البحثية الفرنسية «آي إف آي»، أن الصين، على الرغم من كونها مصدرا لتمويل الطرق والمدارس والمشاريع الأخرى، عرضت الصناعات المحلية للخطر، ولم توفر سوى عدد قليل من الشركات؛ لأن الشركات الصينية تجلب العمالة معها.

ويلعب السياسيون الاشتراكيون في قرغيزستان والمناطق الأخرى على مخاوف غزو صيني. ففي يناير (كانون الثاني) احتشد المتظاهرون في ألماتا عاصمة جمهورية كازاخستان المجاورة، للاعتراض على خطة تأجير مساحة كبيرة من أراضي كازاخستان إلى الصين لزراعة المحاصيل، وهو ما جعل الحكومة الكزخية ترفض المقترح.

كما أقامت الصين أيضا علاقات وثيقة مع الزعماء الشموليين في المنطقة، لكن ذلك في بعض الأحيان كان يأتي بنتائج عكسية، ففي قرغيزستان، أدى الغضب الشعبي على اتفاقية الحدود، التي وقعت مع الصين عام 1999 ووصفها القوميون بأنها بيع لأراضي قرغيزيا للصين، إلى ازدياد حركة المعارضة التي توجت في النهاية بالإطاحة بالرئيس الذي وقع الاتفاق. ويعتبر عظيم بك بيكنازاروف، العضو البارز في الحكومة الحالية، أبرز المعارضين لاتفاقية الحدود.

وسط هذا الشعور القومي المتنامي، أصبحت الصين هدفا للانتقادات، على الرغم من حقيقة أن روسيا لا تزال قوة مهيمنة وتملك، إلى جانب الولايات المتحدة، قاعدة عسكرية في قرغيزيا. لم تدعم الصين وجودها عبر اتخاذها في بعض الأحيان خطوات تفتقر إلى الحصافة، مثل طلبها من الأمم المتحدة تسجيل قصيدة قرغيزية (ملحمة ماناس) كإسهام صيني في الإرث الثقافي العالمي.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»