من قصص الحرب.. فنان تشكيلي عمل قناصا

TT

ثلاث سنوات قضاها كمقاتل قناص على جبهة القتال الفنان الدكتور أحمد نوار أستاذ الغرافيك بكلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان، الرئيس السابق للهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر، ورغم مرور نحو 42 عاما على تلك السنوات فإنها لا تزال حية في ذاكرته ووجدانه، وشكلت فضاء جماليا خصبا للكثير من معارضه الفنية.

التحق نوار بالخدمة العسكرية عام 1968 بالكتيبة «360 مشاه»، في موقع من أضخم المواقع في جنوب البحيرات المرة في نقطة الدفرسوار بالإسماعيلية، ولمهارته الخاصة في التصويب على الهدف من مسافات وزوايا متعددة، انضم إلى سلاح القناصة بالكتيبة، وهو السلاح الذي طوره الجيش المصري في تلك الفترة كأحد أسلحة المهمة لخوض حرب الاستنزاف، واستطاع أن يكبد العدو الإسرائيلي خسائر مؤثرة في الأرواح والمعدات، خلفت حالة من التوتر والتشتت في صفوف جنوده وقواته.. وفي عام 1970، وبعد حصيلة من القنص بلغ المسجل منها رسميا 15 فردا من أفراد العدو، ترك نوار الخدمة بناء على قرار صدر من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتسريح المعيدين بالجامعات المصرية من الخدمة العسكرية لحاجة الجبهة الداخلية لهم.

يقول نوار لـ«الشرق الأوسط»: «حرب الاستنزاف التي استغرقت نحو 6 سنوات هي الحرب الكبرى، لأنها أعادت إلى الجيش المصري ثقته في نفسه، وظهر المقاتل المصري على حقيقته، بقدراته على المواجهة والاقتحام والالتحام. كما تم تحديث الجيش المصري على المستوى البشري، وكذلك على مستوى الآليات والمعدات العسكرية خلال تلك الفترة، كما كان قرار التركيز على المجندين من حملة المؤهلات المتوسطة والعليا قرارا صائبا، فالمعدات الحديثة تحتاج إلى مستوى ذهني عال، وإلى مستوى استيعاب ومهارات تقنية معينة، خاصة فيما يتعلق بنظم التكنولوجيا الحديثة، وكان استيعاب فئة خاصة من الشباب لهذه الأجهزة، على مستوى التدريب، والتطبيق العملي الميداني، عاملا مهما في تفوق الجيش المصري على العدو، وتوجيه ضربات موجعة له طيلة سنوات حرب الاستنزاف، التي لم تتوقف يوميا على مدار الـ24 ساعة».

تحرك نوار كمقاتل قناص على جبهة تمتد إلى نحو 4 كيلومترات، كان عليه أن يدرس تضاريسها جيدا، ويحدد النقاط المثلى للقنص وطرق التمويه والاختباء، سواء من فوق ربوة عالية، أو من خلف ساتر ترابي، أو من بين سواتر الأسلاك الشائكة ومخلفات المعدات المحطمة.. حاملا بندقيته والأمل في النصر يكبر بداخله، ويعيد لجسده المرهق توازنه، وسط سيل النيران المنهمر على خطوط الجبهة ليلا ونهارا، سواء من القنابل والصواريخ، أو الطيران، أو المدفعية الثقيلة. يصور نوار هذا الجو قائلا: «نقطة خوفي كانت في عملية القنص الأولى، وهل سأنجح فيها أم سأفشل. لكن جو الحماس داخل الكتيبة وعلى طول الجبهة، جعلني أتكيف بسرعة، وبدأت أقيس خبرتي في التدريب، بالمسافة الرخوة بيني وبين هذا العدو الشرس الماثل أمامي، هذا العدو المغتصب لأرضي، الذي لا يتوانى يوميا عن القتل وسفك الدماء، والتهديد بالدمار والخراب».

واستطرد نوار «كنا أول دفعة من سلاح القناصة على الجبهة، لكن في أول عملية قنص أقوم بها انتابتني حالة من الارتباك وعدم التوازن بعد أن اكتشفت هدفا للعدو يمكن قنصه، وذلك بواسطة جهاز البيروسكوب، يشرد نوار للحظات، وهو يؤكد مجددا أهمية حرب الاستنزاف، في التمهيد لحرب أكتوبر (تشرين الأول)، مشيرا إلى أنها أعطت المقاتل المصري القدرة على معايشة جو المعارك، وأكسبته المزيد من مهارات التكنيك، كما أن في هذه الحرب برزت روح الشباب، وكانت سمة رئيسية مهمة في تلك الفترة.. «عشرات الآلاف من الشباب، كان همهم الشاغل ليل نهار أن تأتي ساعة الصفر في أقرب وقت».

وبنبرة لا تخلو من شجن، يقول الفنان القناص: «حرب الاستنزاف، للأسف الشديد لم توثق بالشكل الصحيح، هناك بطولات أشبه بالمعجزة، وهناك حكايات تشيب الرأس، لكن لم تقترب منها أجهزة الإعلام المسموعة أو المرئية بشكل يعمق هذه الفترة.. الإعلام اهتم بمعركة العبور، ولم يهتم بالمسيرة التي أوصلتنا إلى هذه اللحظة الرائعة في تاريخنا، وهي حرب الاستنزاف.. أنا حاولت أن أوثق لهذه اللحظة فنيا في عدد كبير من معارضي، كتبت كتابا سميته (عين الصقر) تحول إلى فيلم تسجيلي، لكن الرصاصة على جبهة القتال تظل هي الأكثر واقعية».

ورغم أن إحساس نوار بالحرب تغير الآن، في خضم 42 عاما مرت عليها.. فهو كفنان، وكإنسان وأستاذ للفن، لم تراوده في حياته فكرة أن يقتل بني آدم، لكن في الحرب كان كلما اقترب، عاش أجواءها، وجد أن العدو بجهنميته، لا يريد فقط تدمير الجيش المصري بل الشعب المصري في المقام الأول. لذلك تكثف لديه شعور بالشراسة في التعامل مع هذا العدو «شراسة تدافع عن الحق في مقابل شراسة طاغية وظالمة».