الفرنسيون يتظاهرون مجددا.. ومشاركة الطلاب تعطي مطالب النقابات بعدا أقوى

بدء ظهور آثار الإضراب ونفاد وقود الطيران أهم ما يقلق الحكومة

طلاب مدارس ثانوية يتظاهرون في مدينة تولوز الفرنسية أمس (إ.ب.أ)
TT

للمرة الثانية هذا الأسبوع، والخامسة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي، نزل الفرنسيون إلى الشوارع بمئات الآلاف، أمس، للاحتجاج على مشروع إصلاح قانون التقاعد الذي يناقشه مجلس الشيوخ الفرنسي وينتظر أن يصوت عليه، على غرار ما فعل مجلس النواب قبل عدة أسابيع.

واستباقا لهذا الاستحقاق، تخطط النقابات ليوم آخر، وليس أخيرا، من التحرك الثلاثاء المقبل، وربما الاثنين أيضا، لحمل الحكومة والرئيس نيكولا ساركوزي بالذات للتراجع عن مشروع الإصلاح الذي أفادت استطلاعات الرأي بشأنه أن غالبية من الفرنسيين (57%) ترفضه وتطالب بمشروع آخر مكانه يكون أكثر عدلا وإنصافا ولا يزيد الأعباء على كاهل الموظفين.

وفي المقابل، فإن الحكومة التي تؤكد أنها عازمة على المضي في مشروعها وأنها «لن تتراجع» أمام ضغط الشارع، تراهن على تلاشي التعبئة النقابية والشعبية وعلى اقتناع بأن تحرك النقابات «لم يعد يجدي»، فضلا عن تأكيدها على الحاجة لهذا الإصلاح لإنقاذ النظام التقاعدي أسوة بما فعلته الدول الأوروبية الأخرى. غير أن ثمة عاملا إضافيا جاء ليخيب آمال الحكومة ويتمثل في دخول التلاميذ والطلاب على الخط ونزولهم إلى الشارع، مما أعطى الحركة المطلبية بعدا جديدا ونفسا أقوى. يضاف إلى ذلك أن «آثار» الإضراب بدأت بالظهور على الاقتصاد الفرنسي بكل قطاعاته، وخصوصا قطاع النقل بأنواعه. وجاءت الإضرابات التي تصيب 12 منشأة لتكرير النفط و«الحصار» الذي يفرضه المضربون على مستودعات المشتقات النفطية لتعطي الإضراب وجها جديدا بعد أن انحصر في الأشهر الأولى في مشكلات وصعوبات أصابت قطاع النقل، وخصوصا السكك الحديدية، ومترو الأنفاق، وبعض الخدمات العامة مثل التعليم العام والخدمات الصحية. وتتوجس الحكومة من فقدان المحروقات، مما يعني شل الحركة في البلاد خصوصا حركة الطائرات في الداخل وإلى الخارج، علما بأن مخزون مطار فرنسا الرئيسي، وهو مطار رواسي شارل ديغول، لا يكفي إلا لمساء الاثنين أو ليوم الثلاثاء.

ويجد الرئيس الفرنسي نفسه في وضع حرج سياسيا. فلا هو قادر اليوم على التراجع عن مشروعه الإصلاحي المفترض أن يكون «العلامة» الفارقة لسنوات حكمه الخمس (الأولى)، باعتبار أن تراجعه يعني توفير انتصار سياسي لليسار والنقابات عليه، بحيث يؤخذ عليه أنه تراجع «تحت ضغط الشارع»، ولا هو، في المقلب الآخر، قادر على الاستمرار في سد أذنيه في وجه مطالبة ملايين الفرنسيين بإصلاح «أكثر عدلا»، بينما الوضع الاقتصادي ما زال في مكانه، وما زال النمو ضعيفا للغاية، مع ارتفاع أرقام البطالة التي تطال نحو 3 ملايين فرنسي وتدني مستوى العيش وتصاعد الاحتجاجات. ويفسر المراقبون اتساع مساحة المطالبات وتنوع الفئات الاجتماعية التي تنزل إلى الشارع بأنها تعبير عن موقف رافض للسياسات الاجتماعية والاقتصادية التي تنتهجها الحكومة.

وكانت لهذه الإضرابات والمظاهرات نتيجتان اثنتان: بروز اليسار مجددا على الساحة الذي بعد مرحلة من الدعم الخجول للمتظاهرين والمضربين أخذ يعبر بقوة عن رفضه لمشروع الإصلاح ومطالبته بمسارات إصلاحية مختلفة، والثاني البلبلة التي تعتري صفوف اليمين ليس فقط بسبب «ذيول» هذه الإضرابات ولكن أيضا بسبب الاحتجاجات المختلفة التي أثارتها سياسة التشدد الأمني للحكومة، خصوصا إزاء الغجر وتزامن ذلك مع عدد من الفضائح التي ما زالت تتواتر، وأشهرها اليوم فضيحة ليليان بتنكور، ثرية فرنسا الأولى ووريثة شركة «لوريال» العالمية لمستحضرات التجميل وعلاقتها بوزير المالية السابق والعمل الحالي، أريك فيرت.

وفي هذا الوقت، يستعد الرئيس الفرنسي لإجراء تغيير أو تعديل حكومي، ينتظر أن يتم الشهر المقبل بحيث تجيء حكومة يمينية، متخلصة من وزراء «الانفتاح» من الاشتراكيين أو الوسط تكون بمثابة «مجلس حرب» لتهيئة الطريق لإعادة انتخاب ساركوزي رئيسا للجمهورية في انتخابات ربيع عام 2012. وليس من شك أن ساركوزي يريد أن يكون مرشح اليمين. لكن يبدو أنه حتى اللحظة لم يحسم أمره بصدد هوية رئيس الحكومة، الذي يفترض به أن يحل مكان فرنسوا فيون، ولا هوية الوزراء الأساسيين، ومنهم وزيرا الخارجية والدفاع. وتفيد التسريبات بأن وزيرة الاقتصاد الحالية، كريستين لاغارد، هي الأكثر حظا بالفوز بوزارة الخارجية وخلافة برنار كوشنير. ويبدو أن ألان حوبيه، رئيس الحكومة ووزير الخارجية الأسبق «ليس مقتنعا» بتسلم وزارة الخارجية في ظل تدخل الإليزيه في كل شاردة وواردة تتناول الدبلوماسية الفرنسية، وخصوصا الملفات الكبرى مثل الشرق الأوسط وأفريقيا.

ومن الأسماء المطروحة لخلافة فيون اسم وزير الخزانة فرنسوا باروان، وهو الأصغر سنا من بين كل الوزراء الحاليين، وكان محسوبا على الرئيس شيراك إلى جانب وزيرة العدل ميشيل أليو ماري، ووزير البيئة جان لوي بورلو. وينتظر هؤلاء أن يحسم ساركوزي أمره. غير أن الأخير ينتظر بدوره ليرى كيف ستنتهي هذه الحركة الاحتجاجية، وكيف يمكنه مداواة «الآثار» التي تكون قد تركتها على المجتمع الفرنسي بشكل عام، وعلى ناخبيه بشكل خاص.