عمال منجم تشيلي معلقون بين الأمل والألم ويترقبون ما بعد انتهاء الاهتمام بهم

ما زالوا يكافحون من أجل التكيف مع ضخامة ما مروا به

أحد العمال الثلاثة والثلاثين الذين احتجزوا في منجم سان جوزيه 69 يوما يتحدث للصحافيين قرب الكبسولة التي استخدمت لإنقاذهم (أ.ف.ب)
TT

لم يكن خوسيه أوجيدا يستطيع النوم من دون وجود أحد زملائه بالقرب منه ليهدئه عندما يستيقظ من النوم، بسبب الكوابيس التي يراها، أما عمر رياغاداس، الجد الذي كان اعتاد تهدئة الآخرين، فإن الدموع كانت تتساقط من عينيه بسهولة، أما أديسون بينيا، الذي اختفى معظم الأيام عن الأنظار، فقد أدخل المستشفى الأسبوع الماضي للعلاج من الاضطرابات النفسية والعاطفية التي يشعر بها.

لقد مضى 12 يوما منذ أن شاهد العالم عملية إنقاذ وانتشال 33 من عمال المناجم الذين كانوا محاصرين في منجم سان خوسيه بالقرب من كوبيابو في تشيلي، وعلى عمق يصل إلى نحو نصف ميل أسفل صحراء أتاكاما. وبينما بدأ العالم يتناسى هذا الحادث، فإن الرجال الذين حوصروا في هذا المنجم لا يزالون يكافحون من أجل التكيف مع ضخامة ما مروا به.

لقد ظل هؤلاء العمال، حتى الآن، صادقين مع بعضهم بعضا، وملتزمين بالوعود التي قطعوها على أنفسهم بألا يتحدثوا عن تجربتهم إلا وفقا لشروطهم الخاصة.

وبدأت تتكشف ببطء بعض تفاصيل المحنة التي مر بها هؤلاء الرجال، حيث تنافست مؤسسات إعلامية وإخبارية كثيرة على اجتذابهم، وعرض عليهم البعض المال، والبعض الآخر رحلات مدفوعة التكاليف إلى بلدان أخرى، ليوافقوا على إجراء مقابلات معهم.

ولكن هؤلاء الرجال قاوموا محاولات إثنائهم عن الاتفاق الذي توصلوا إليه فيما بينهم للحفاظ على سرية معظم تفاصيل ما حدث لهم خلال شهرين من الأسر في الأعماق، على أمل أن يتمكنوا من الحصول على صفقة لإصدار كتاب أو عمل فيلم عن قصتهم، أو إقامة دعوى قضائية كبرى ضد أصحاب المنجم.

وقد رفضوا الحديث عن الأيام الـ17 الأولى التي قضوها في منجم الذهب والنحاس قبل أن يعلموا أن رجال الإنقاذ لا يزالون يبحثون عنهم.

وأعطت المقابلات التي أجرتها صحيفة «نيويورك تايمز» على مدى الأيام القليلة الماضية، مع أربعة من عمال المنجم الذين وافقوا على التحدث من دون مقابل، صورة للصراع العاطفي الشديد الذي مروا به عندما كانوا محاصرين، وبعد أن تم انتشالهم.

وكان رياغاداس (56 عاما)، العامل رقم 17، وأحد أكبر العمال الذين كانوا محاصرين سنا، أكثر المتحدثين، حيث تحدث مع الصحيفة لأكثر من ساعتين.

وقال رياغاداس إنه دخل أول منجم عندما كان عمره 7 سنوات بصحبة والده الذي كان عامل مناجم أيضا.

ورياغاداس شخص لا يخاف بسهولة، فقد نجا من انهيارين سابقين تعرض لهما منجم سان خوسيه، ونجا من انهيار ثالث قتل فيه عامل آخر، ولكن في الأيام الأولى بعد الانهيار الأخير للمنجم في شهر أغسطس (آب) الماضي، قال رياغاداس إنه بكى، وإنه اضطر إلى التحول على سريره ليجعل وجهه مواجها للجدار، حتى لا يراه أحد وهو يبكي.

وقال رياغاداس: «أنا لا أجد حرجا في القول إنني بكيت، لكني بكيت بسبب عجزي. سأكون كاذبا إن قلت إنني لم أكن خائفا أيضا، لكنني عرفت كيف أحافظ على هذا الشعور داخلي حتى لا أثير خوف الآخرين».

وأشار رياغاداس إلى أنه كان يقوم بتحميل شاحنته قبل الذهاب إلى الغداء يوم 5 أغسطس (آب) الماضي، عندما شعر بما بدا وكأنه انفجار. وقال إن الضغط الناتج عن سقوط الصخرة «كاد أن يفجر» أذنيه، لكنه بعد ذلك سمع صوت عمال المنجم وهم يصرخون.

وقال عامل آخر يدعى يوني باريوس (50 عاما): «شعرت أن أذني سحبت من جانب للآخر».

وبدأ الرجال في عملية البحث عن زملائهم، واستغرق هذا الأمر ثماني ساعات، قبل أن يتأكدوا أن أحدا منهم لم يصب بسوء. ولكن أيا كانت سعادتهم بهذا الأمر، فإنها لم تدم طويلا.

وفي غضون ساعات، واجه الرجال خيارا مصيريا، فقد كان هناك مخرج، من خلال فتحة للتهوية، لكن بعد أن اكتشفوا أن السلم الموجود قصير للغاية، أدركوا أن كل ما يمكنهم القيام به هو الانتظار، وبعد ذلك بيومين، سقطت صخرة على هذه الفتحة وأغلقتها. عندئذ يتوقف الحديث.

وشأنه شأن عمال المنجم الثلاثة الآخرين الذين أجريت معهم مقابلات، وتحدثوا إلى وسائل إعلام أخرى، فإن أوجيدا، عامل المنجم المخضرم، رفض الخوض في تفاصيل كبيرة حول ما حدث في الأسبوعين التاليين، حيث اشتد إرهاق الرجال، ونحل جسدهم بسبب ارتفاع درجة الحرارة وقلة ما لديهم من مخزون طعام من سمك التونة والبسكويت، الذي كان يكفي بالكاد لإبقائهم على قيد الحياة.

وتستأنف القصة مرة أخرى بعد مرور اليوم السابع عشر، عندما قام رجال الإنقاذ باختراق سقف المكان المحاصرين فيه، وبدأ العدد التنازلي لإخراجهم.

ويقول الرجال إنهم بعد ذلك، كانت هناك لحظات مضيئة أكثر، على الرغم من عدم تيقنهم من نجاح خطة الإنقاذ التي لم يسبق لها مثيل. وقال رياغاداس إنه في أحد الأيام قام ماريو سيبولفيدا، واحد من عمال المنجم المحاصرين ويتمتع بشخصية منفتحة، بارتداء شعر مستعار أشقر، وقام بتمثيل دور المليونير صاحب الأعمال الخيرية، ليوناردو فاركاس، وهو يعرض على عمال المنجم وظائف. (وقد أعطي فاركاس، في الواقع، كلا من العمال الذين تم إنقاذهم نحو 10 آلاف دولار).

وتكشف قصص الرجال أيضا عن الحدود التي فرضوها على أنفسهم، وقال أوجيدا إن أي عامل منجم يتجاوز الحدود كان عليه أن يقف أمام 32 عاملا ويطلب منهم العفو، وكانت الرغبة في النوم هي الموضوع السائد في هذه الفترة، كما كانت درجة حرارة الجو مرتفعة، نحو 86 درجة فهرنهايت، ودرجة الرطوبة أيضا.

وقام الرجال بتمزيق مقاعد الشاحنات واستخدموها كأفرشة مؤقتة للنوم، ولكن لم يكن هناك ما يكفي الجميع. ويقول غاريادس إنهم في بعض الليالي، كانوا ينامون على الصخور الساخنة من دون قمصان وفي درجة حرارة مرتفعة، وأضاف أوجيدا إنه غالبا ما كان يستيقظ في منتصف الليل ويتحدث مع عامل منجم الذي ينام بجانبه حتى يتمكن من النوم مرة أخرى.

وكتب عامل آخر، وهو فيكتور سيغوفيا (48 عاما)، رسالة إلى عائلته يحكي لهم تفاصيل كابوس شاهده. وفي هذا الكابوس، شاهد سيغوفيا نفسه وزملاءه محاصرين أيضا، لكن داخل فرن.

وكان بعض الرجال الآخرين يفكرون في من تركوهم خارج المنجم، وقال عامل المنجم البوليفي كارلوس ماماني، 24 عاما، الذي كان المهاجر الوحيد بين المجموعة المحاصرة في المنجم: «كنت أفكر في عائلتي من أعماق قلبي. لقد تحدثت إلى الله».

وكان الأطباء النفسيون، الذين كانوا يعالجون عمال المنجم من خلال الاتصالات الهاتفية والفيديو من على سطح الأرض، قلقين بما فيه الكفاية لجعلهم يقومون بتصفية كل شيء يرسله أفراد أسرهم، ويتم إنزاله إليهم عبر فتحة الإغاثة، حيث كانوا يسمحون بالخطابات التي تتضمن كل ما يجلب السرور إليهم، ويتم حظر أي رسائل تتطرق إلى مشكلات في منازلهم. ووفقا للعامل أوجيدا، فإن بعض الرسائل لم تكن تمرر، وبعضها كان يخضع للتحرير، وهو ما وصفة بالتصرف «غير العادل».

وبعد نحو أسبوعين، طالب عمال المناجم وقف المراقبة، بحجة أنهم لم يكونوا معرضين للخطر مثلما أصبحوا الآن، لكن الأطباء ظلوا حذرين، وقام الأطباء النفسيون باختيار الأفلام التي كان الرجال يشاهدونها على قطعة من القماش معلقة على جدار الكهف، باستخدام جهاز عرض فيديو بحجم هاتف ذكي، وسمح لهم بمشاهدة أفلام جاكي شان والسيد بيان، ولم يسمح لهم بمشاهدة الأفلام التي تدور حول الكوارث الطبيعية أو الإرهاب.

وقال ألبرتو إتورا، الطبيب النفسي الذي كان يقود الفريق المتعامل مع عمال المنجم: «كنا نريد لهم الاسترخاء والاستمتاع لا الدخول في تأمل عميق»، وفي النهاية، توقف الأطباء النفسيون عن تصفية ومراقبة ما يتم إنزاله إلى المحاصرين عبر الفتحة، بعد أن شعروا بأن حالتهم قد أصبحت مستقرة بما يكفي.

لكن الأطباء النفسيين لم يعدوا عمال المنجم المحاصرين لمواجهة كل شيء، مثل صدمة الخروج من عزلة المنجم الذي كانوا محاصرين فيه إلى وهج وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم، وصدمة تركهم «لوس 33»، كما كانوا يطلقون على أنفسهم، ليعودوا إلى حياتهم الأخرى. وقال رياغاداس إنه نشأ على مقربة من لوبوس فرانكلين، وهو عامل منجم أصبح لاعب كرة قدم محترفا، وإنه كان يدعوه مازحا بـ«السيدة العجوز». وإذا كان واحد منهم نائما، فإن الآخرين كانوا يحرصون على التأكد من أنهم قد احتفظوا له بطعام مما نزل عبر فتحة الإغاثة.

شيء واحد كان الرجال على استعداد له، هو شهوة الحديث عن قصتهم. وقد تعلموا هذا الدرس بصورة مباشرة، من مجموعة من مواطني أوروغواي، الذين نجوا من حادث طائرة عام 1972 في جبال الأنديز، وصورت حادثتهم في فيلم أنتج عام 1993 اسمه «أحياء» أو «ألايف». وقال رياغاداس إن هذه المجموعة قامت بزيارة عمال المنجم، وتجاذبت أطراف الحديث معهم عبر الهاتف المعدل الذي أنزل إليهم، وأضاف أنهم نصحوا العمال بـ«عدم الاستسلام».

ويقول الطبيب إتورا إنه منذ عملية الإنقاذ، وبعض هؤلاء الرجال وعمال المنجم يفرطون في شرب الخمر، والكثير منهم أظهروا علامات الاضطراب النفسي والعاطفي.

وخلال مأدبة عشاء نظمت على شرفهم يوم الثلاثاء الماضي، انهار بينيا وهو يتحدث إلى الصحافيين، وأمسك سيبولفيدا بكتفيه وعنقه، وجذبه بقوة، وهمس في أذنه، ولكن بينيا رفض مغادرة المسرح.

وقال بينيا بصوت متهدج: «شكرا لكم لاعتقادكم بأننا أحياء. شكرا لاعتقادكم بأننا مازلنا على قيد الحياة». وقد أدخل بينيا المستشفى في اليوم التالي، وخرج في نفس اليوم.

وألقى إتورا، الطبيب النفسي، بجزء من اللوم على الخيارات التي أصبحت أمام بينيا في مرحلة ما بعد عملية الإنقاذ، بما في ذلك دعوة لإدارة ماراثون في مدينة نيويورك.

وقال إتورا لمحطة إذاعة محلية: «هذه الأمور تتطلب الكثير من القوة، وهذه أمور تسبب الكثير من الألم».

وربما كان بينيا يخاف من أمر آخر هو أنه عند تنتهي لحظة الاهتمام بهم، فإنهم سيجدون أنفسهم منسيين وبلا عمل. وقال في يوم من الأيام أثناء حديثه إلى الصحافيين: «بعد أن تنتهي كل هذه المقابلات يمكنكم أن تسألونا ماذا نفعل؟ إننا سوف نقوم ببيع الحلوى في الساحات».

* خدمة «نيويورك تايمز»